ما بال هذا السعال لا يفارقه حتى وهو في لحظات نومه وهدوئه ..؟ يحاول أن يتخلص منه بأن يبتلع ذلك الدواء المقرف.. لطالما كره أن يشربه ولكن لا مفر فطبيب المخيم نصحه بشربه و إلا فإن حالته ستزداد سوءاً ..ابتسم بسخرية ،منذ متى كان يهتم بحياته ؟ منذ متى كان يعتبر نفسه إنساناً له كيان..وجدان .. مشاعر ..؟ فلتزداد حالته سوءاً وليذهب جسده للجحيم ..هذا الجسم النحيل الأسود الذي ضاق ذرعاً بحمله معه أين ماحل ..لماذا..؟ لماذا يحمل لنفسه كل هذه الكراهية استقر ببصره على زجاجة الدواء التي بيده ..صارت فارغة انزعج لذلك ورمى بها نحو زاوية الخيمة التي امتلأت بالزجاجات الفارغة ألقى بجسده على الفراش المتواضع وجال ببصره نحو أركان الخيمة المتهالكة زم شفتيه بمرارة تحمل كل ذلك الألم الذي عاناه طوال تلك السنوات ..منذ عامه العشرين وحتى عامه الثلاثين . 10 سنوات من المعاناة ..مذ غادر وطنه المليء بالثورات والتمردات والمذابح هرباً من القتل والمرض والفقر والتعذيب ..أملاً في أن يجد ضالته من الراحة والهدوء في وطن آخر ووصل به المطاف الكر والفر اللجوء إلى عدن ..عدن السمراء ..وظن بأنة بوصوله إليها سيرخى بجسده لينام بهدوء دون أن يقطع نومة صوت القنابل والقذائف التي تنهال على مدينته ليل نهار ..سيأكل بهدوء وسيعمل بهدوء أيضاً..وربما وفر بعض المال وبنى له بيتاً وربما يتزوج وصارت له أ سرة..من يدري ؟ وتهاوى كل شئ ..عدن لم تكن هي المرفأ الجميل الذي أحب أن يستقر فيه ..وحينما خاب ظنه تلاشت أحلامه وتضاءلت أماله . نظر إلى جسده المريض حتى استقرت عيناه على سقف الغرفة ، عرف أخيراً أن هذا الجسد قد نهكة المرض وأستوطنته جرثومة خبيثة ،هذا الجسد آن له ان يستريح ..يستريح من حياة الذل والفقر والمرض والاضطهاد ..وكأن كل ما يكرهه ويخاف منه هو أن يموت وحيداً ..يحب صحبة الناس ويكره الوحدة ..يكرهها ويخاف منها كثيرا منذ متى كان وحيداً ..؟! منذ هربه وتسلله إلى عدن وبالأصح منذ أن توفى والده في تلك الحرب اللعينة..بعدهما ضاعت أحلامه في العيش بكرامة وفقد رغبته في الحياة وفر إلى عدن..لاجئا وجد الكثير من الإهمال..وعدم اللامبالاة بلجوئه ..ورأي أعداداً هائلة من اللاجئين أمثاله وضمهم جميعاً مخيم واحد يشرف عليه أطباء يعملون في المنظمات الدولية .. مرت أيامه..شهوره..سنينه..وهو لا يجد الراحة..كيف له أن يعيش ويحيا وكل من حوله يمقتون وجوده..بل وجودهم جميعاً ويعتبرونهم حثالة ألقت بها بلادهم إليهم.. لطالما سمع هذا ممن يقتربون منهم ومن مخيمهم ..ولطالما رأى نظرات الاستعطاف والشفقة من زوارهم..ما كان يخطر بباله أنه سيكون محط شفقة أنظار الناس وما كان يفكر ولو للحظة أنه سيقضي كل أعوامه الشابة في أركان مخيم.. تنهد بعمق.. لقد توصل لأمر ما ..بعد هذه السنوات..ما عاد في العمر بقية ..هذا السعال..في الأمر سر ما ..! ذلك الطبيب ذو الوجه الأحمر المتقد تحدث بلغة لا يتقنها هو..لم يفهم شيئاً مما قاله..وما شعر به هو تلك النظرات التي تبادلها مساعدو الطبيب حينما أستمعوا لتعليقه على نتائج فحصه . أدرك حينها بأنه مريض ..ومرضه مستعصٍ..لا يدري ما هو..؟! ولا يظن بأنه يدَّعي المرض ..فهذا المخيم الذي يقطن فيه..والحال المزري..والأوبئة التي تحيط بهم..وتلك الدماء التي يخرجها من فمه في كل نوبة سعال تنتابه.. الأمر لا يتحمل السخرية والابتسام..صحته في تدهور مستمر ..إذن لماذا يبتسم ؟ وبدون سابق إنذار..في لمحة بسيطة وجد نفسه يعتدل من رقاده صارخاً منادياً زملاؤه .. دقائق..حتى التف حوله زملاؤه ..زملاء الشقاء والمعاناة وكل منهم يُهديء من روعه ويخفف من حدة صراخه .. لماذا صرخ ...؟ ولماذا أحب أن يراهم.. هل هي صحوة الموت؟ هل هو الخوف من أن يفقد آخر أمانيه.. الخوف من أن يموت وحيداً بعد هذا العمر المُضني لم يعد يشعر بشيء من حوله ..كل ما استطاع أن يلمحه بعينيه المليئتين بالدموع ،هو تلك الجلبة التي أحدثها صراخه وذلك الطبيب الذي حاول أن يحتوي الموقف بأن يعزز له بعض الإبر في ذراعه .. لحظات ..عيناه ترتخيان وبعض التأوهات الهلعة تصل مسامعه،لم يعد يرى شيئاً بعض الدماء تحجب عنه رؤيتهم . السعال أخرج ما تبقى من دماء في جوفه،وبرغم كل ما حدث أغمض عينيه بهدوء ..وأبتسم .. أجل ..ابتسم بعد سنين العناء ولأول مره من القلب ..ودون سخرية..الآن ..الآن فقط لم يكن لوحده في أحرج مواقفه..وأخيراً كان هنالك من يخشى وفاته ويحاول إبقاءه على قيد الحياة . وأخيراً ..مات مبتسماً..!