العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الأصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 13 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
قصيدة الوهبي
هذه القصيدة هي للشيخ المرحوم محمد عبدربه الوهبي، قالها قبل حوالي 70 سنة، وهي تمثل الوضع القائم بين الشطرين «سابقاً» ومايكتنفهما من أخطار.
وقد بدأت بشرح مبسط للظروف التي قيلت فيها القصيدة حيث قيلت في منطقة «قائفة» أو مايسمى حالياً «قيفة» بجانبها قبيلة «مراد» حيث كانت تقطن المنطقة عدة قبائل منها «مراد، آل جرعون، التيوس، بنو وهب..الخ».
وذات يوم، وكعادة القبائل هجمت فئات من قبيلة «التيوس» وأخذوا قطيعاً من الماشية من ديار الشيخ محمد عبدربه الوهبي، مابين ضأن، وماعز وجمال..الخ نهبوها وذهبوا بها إلى ديارهم، فإذا بالشيخ الوهبي يجمع قومه ويقول لهم: مارأيكم ياقوم فيما حصل؟ صحيح أننا كلنا من قيفة، ولكن قد نختلف أحياناً، فما رأيكم فيما فعله آل التيوس؟
فقالوا: ماأخذ غدراً يجب أن يستعاد، وعلينا أن نهاجمهم ونقاتلهم نستعيد ماأخذ منا.
فلم يستصوب رأيهم، فاستشار آخرين، وأشاروا عليه بالقتال.
فقال لهم: أمهلوني مدة شهر!!
أخذ الشيخ الوهبي بضعة أشخاص من قومه، وذهب معهم إلى شيخ آل التيوس وبعد يومين أو ثلاثة وهو في طريقه إلى شيخ التيوس مرّ بمنطقة تسمى «المشيريف» قرية تقع على الحدود بين قبيلتي قيفة ومراد فوجد هناك فتاتين جميلتين يمتحن الماء «يخرجن الماء بالدلاء من البئر» فسلم- لأنه ليس هناك حجاب- وسلمن، وأنتسب «ذكر نسبه» إلا أنه لم يسألهن عن نسبهن.
فقلن له: نحن بنات الشيخ «فلان» وأنت ذاهب إليه؟
قال: نعم.
فأعجب بجمالهن.. كما أعجبن بجماله- كان على قدر من الجمال.. شاباً لا يتخطى الثلاثين، لكنه كان عاقلاً، ذكياً، فطناً، بعيد النظر- فقلن له: اذهب، مادمت قد وصلت.. فإن أبانا شهم وكريم ولا يرد الضيوف، ووصفن أبيهن بما يليق به، ثم أضفن يقلن نحن متأكدتان من أن أبانا سوف يعيد إليك كل شيء ما دمت قد جئت بدون حرب.
فذهب الشيخ الوهبي، وإذا بالشيخ آل التيوس يحتفي به احتفاءً كبيراً، وينزله منزلاً رحباً، ويضيفه بما يليق به من الشهامة والكرم. كما دعي الأعيان، وكبار القوم، وقدم إليهم الضيف العزيز محمد عبدربه الوهبي. وبعد ثلاثة أيام استأذن للرحيل، ولم يتحدث أبداً في الموضوع الذي جاء من أجله، وما نهب منه. إلا أن شيخ آل التيوس لم يأذن له، بل قال: أنت ضيفنا لثمانية أيام.
وبعد مضي ثمانية أيام، قضاها ورفقته ضيوفاً على آل التيوس استأذن للرحيل. فقال له شيخ آل التيوس: هذا كل ما أخذ منك من «البوش» من الأغنام، والإبل، والماعز، وهؤلاء الرعاة يوصلونك إلى منزلك وإذا نقص أي شيء مما أخذ منك فالرأس بعشرة.
عاد الشيخ محمد عبدربه الوهبي إلى قومه، وعاد كل شيء كما كان وأخذ كل فرد من القبيلة ما أخد منه. وعاد الشيخ الوهبي يعاتب قومه بقصيدة جميلة سآتي بها هنا.. وسأحاول أن أوضح بعض المعاني لتكون في متناول الجميع خصوصاً وأن كثيرين يجدون صعوبة في فهم الألفاظ والمعاني، ولمن لم يقرأ بعد شيئاً عن تاريخ الأدب العربي أو لكبار الشعراء أمثال المعري، وأمرئ القيس.
في هذه القصيدة بدأ الشيخ الوهبي يعاتب قومه، وعلى طريقة القبائل في الإلقاء بقوله: يقول أبو مفطم «فاطمة».. مثل حاتم طي المشهور ب«ابن عدي» وكانت كبرى بناته تدعى سفانة. فكان يسمى «أبا سفانة». وهذه هي القصيدة:
يقول أبو مفطمٍ كلاً حلم ذي هَمْ
ونا اتحير هنا يومين هندامي
من يوم ما عاد وافيت أحمر المبسم
يمسي مصوَّرْ قليل الخير قدامي
يا قاسم أني لقيت أعصم وريت أعصم
غران حجلان فيهن وشم واسامي
خيرة بنات أمنا حواء وبونا أدم
وخيرة اليوم بدّاعا وختّامِ
صيد المشيريف جا مِنْ يم واحنا يمْ
محجلات السواعد بيض الأقدام
من يوم ما عاد لا تنشد ولا تفهمْ
ولا تخبر على زينات الأكمام
لقيتهنْ حيث طير الموت قدم حوّمْ
في المشيريف ولكن حد ظلام
ذا قيل من له من السَّبَّقْ حصان أدهم ْ
أحمر شلي شو هلي مقدام مهمام
يسبق ويلحق ويتقفّى ويتقدّمْ
على كريّان ذي ما هو مع يامي
ياقانص الصيد لو تدري ولو تعلم
أنْ عاد للدم رامي من قفا رامي
ما هيْ رماية حجرْ من صابها سلَّمْ
ولا المضانيك ترمي مثل الأنْسام
لا حديث أهل الأفيا من فسل ما هم
مثل الذي بايثب للموت في الحامي
كَمَنَّ بعض القبائل ما درى من كمْ
يأكل ويشربْ وهو من جيز الأنعام
وأنا حمول السرف والميل لابن العم
أصبْر على البينة وادحق على الهام
أما متى أصبحت أنا وأياه نتراجمْ
بايفرحْ الخصم ذي قد هو لنا ظامي
ومن له أصحاب مثل أصحابنا ما هم
نصبر عليهم ونتوددْ ونتوسم
على بني وهب عوجان التكلام
لكنهم عند دعوى ذم والاّ دم
حمران الأعيان شلالين الأغرام
همْ درعنا في الحظا هم سيفنا المبرم
هم ذي لهم في الجمالة سبعة أقسام
والضيف لا جاتنا نخرجْ له لاثم
حتى ولو كان يهودي غير إسلامي
وقد شرحت وأوضحت معاني هذه القصيدة للزملاء.. ولم يفهموها فهماً جيداً إلا بعد ثلاثة أيام.. لأنني كنت أنشد هذا الشعر القبلي بلهجته الأصلية. هنا تأتي حكمة هذا الشيخ «محمد عبدربه الوهبي».
أولاً: إنه يصف الفتاتين الحسناوين اللتين التقاهما على تلك البئر، وقد أعجب بهما وبهره جمالهما.. فعاد يصفهما في تلك الأبيات وكأنه قد تقمص روح المعري.. رغم أنه لم يقرأ شعر المعري، وربما أنه لم يسمع عنه إطلاقاً.. حيث يقول في أحد أبياته:
أيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دونك ذلك أهوال
ويقول الوهبي:
لقيتهن حيث طير الموت قد حوم
في «المشيريف» لكنْ حد ظلامِ
ثم يضيف وهو يصف خيله:
ذا قيل من له من السّبقْ أدهم
أحمر شلي شوهلي مقدام وهمامِ
يسبق ويلحق ويتقفى ويتقدم
على كريان ذي ما هو مَعَ يامىِ
هو لم يقرأ أيضاً ديوان امرئ القيس ولا معلقته حيث يقول في أحد أبياته:
مكرٍ مفرٍ مقبل مدبر معاً
كجلمود صخرٍ حطهُ السيل من علِ
ولكن هكذا كعادة أهل المشرق. أتذكر قصيدة لعمرو بن معدي كرب الزُبيدي يصف فيها الخيل:
ولما رأيت الخيل زوراً كأنها
جداول ماء أرسلت فاسبطرت
فجاشت إلى النفس أول مرةٍ
وردت على مكروهها فاستقرّتِ
ظللت كأني للرماح دريئة
أقاتل عن أحساب جرمٍ وفّرتِ
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم
نطقت ولكن الرماح أجرّتِ
وهما من منطقة واحدة من «مدحج» «مشرق اليمن»
وهنا تتكامل قصيدة الشيخ الوهبي عندما يقول:
يا قانص الصيد لو تدري ولو تعلم
أن عاد للدم رامي من قفا رامي
ما هي رماية حجرٍ من صابها سلم
ولا المضانيك ترمي مثل الأنسامِ
ولا حديث أهل الأفيا من فِسل ما هم
مثل الذي بايثب للموت في الحامِ
المقصود هنا أن القبائل تقعد في الظل تحت الأشجار، ويتحدثون عن القتال والحروب وخلافه. فالحديث هنا أو الكلام عن الحرب ليس كمن يخوض المعركة فعلاً ويواجه الموت. ثم يضيف:
وأنا حمول السرف والميل لابن العم
اصبر على البيّنة وأدحق على الهامِ
المقصود بحمول السرف في هذا البيت.. أن البعير قد يحمل 100 كيلو فيكون ستون كيلو من جهة، وأربعون كيلو في الجهة الأخرى.. فهذا الحمل غير المتوازن يعتب البعير ويتألم من هذا الحمل.
أما متى أصبحت أنا وأياه نتراجم
بايفرح الخصم ذي قد هو لنا ظامي
أما عندما نتقاتل أنا وإياه سوف يفرح الغرماء أو الأعداء من حولنا بهذا الخصام، ويقصد هنا القبائل المجاورة أو حتى الدول. ثم يضيف:
كم أن بعض القبائل ما درى من كم
يأكل ويشرب وهو من جيز الأنعام
هنا أحببت أن أقارن فقط.. وقد جئت بهذه الأقصوصة أو الحادثة لأتحف بها القارئ ليس إلا، وهي للمقارنة سواء في الماضي أو الحاضر.
وأعتقد أن الشيخ محمد عبدربه الوهبي كان حكيماً حين قال هذه القصيدة ولم يقلها اعتباطاً.. لهذا جئت بها سواءً في عدن أو في هذا الكتاب.
عدت وزملائي من عدن، وكتبت تقريراً إلى رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني. وبعد حوالي خمسة أشهر- أنا آسف أن أقول هذا الكلام- ذهب الرئيس الراحل قحطان الشعبي لزيارة كوريا الشمالية، وفي فترة غيابه حدث ما حدث، فقد تمردت قبيلة «العوالق» بأسرها.
الشيخ الاستاذ علي بانافع
ولا بد لي أن آتي بهذه القصة لأتحدث عن شخصية نظيفة جداً جداً قد مات يرحمه الله..كلنا يعرفه ،وهو من علية القوم سواء في الشمال أو الجنوب فالجميع يعرفون من هو الشيخ الوقور المثقف علي محمد بانافع .رحمة الله عليه.
وقد كان هو الذي فجر ذلك الموقف..لم يكن يقصد بذلك التفجير قتالاً..فقد توقفت قبيلة العوالق وأعلنت أنها غير مستعدة لأن تأتمر بأوامر رئاسة الجمهورية في عدن حدثني بهذا العقيد عبدالله صالح سبعة وقد ذهب المرحوم فيصل عبداللطيف، يرحمه الله مع وفد مدني وعسكري إلى تلك القبيلة كان بينهم «عبدالله صالح سبعة وبن لحمر وبالعيد،ومجموعة من كبار الضباط من أبناء العوالق. وكان أكثر أفراد الجيش آنذاك من العوالق.
ذهب الوفد كما قال عبدالله صالح سبعة وكانوا مابين 250300 فرد على الأكثر..فإذا بهم يواجهون مايقرب من 300 4000فرد من جميع فئات الشعب من العوالق..تجمعوا في صفوف منتظمة..فألقى فيهم فيصل عبداللطيف الشعبي كلمة. وقال مخاطباً الحاضرين:ما لكم ياقوم نحن أخوة، ورفاق درب،ورفاق سلاح..الخ».
فقالوا : نحن لم نتمرد ،وإذا كان هناك من سيتكلم،فإن المتحدث الرسمي بالنسبة لنا نحن العوالق هو الشيخ علي بانافع.
فقال له فيصل الشعبي:ماذا ترى ياشيخ علي؟
قال: ياأخ فيصل..نحن ناضلنا جميعاً، وأنتم تعرفون ذلك..كنتم في الجبهة القومية، وكنا معكم نقاتل..على اعتبار أن الوحدة الفورية بعد الاستقلال مباشرة..لذلك فأنتم تقاعستم ،ولم تعلنوا الوحدة الفورية.بل أنتم انفصاليون.ونحن العوالق نعلن من هنا بأن العوالق تعتبر المحافظة العاشرة من محافظات الجمهورية العربية اليمنية.
وهنا ارتج على فيصل الشعبي، وتألم، فاكفهر وجهه ،وأربدّ وأخيراً تكلم وقال: يا قوم كنت أود أن تكلموني أنتم المشائخ..أما الأخ علي بانافع فإنا نتعارف نحن وإياه من عدن وحدثت مواقف جعلت الشك يدب إلى نفس كل من فيصل عبداللطيف وقحطان الشعبي من العوالق ،وهنا أظهر له الضباط العوالق بأن ليس لهم أي دخل في ذلك،إلا أنه كان يشك بهم فبدأ بتصفيتهم ،مما حدا بالعقيد سبعة،والشهيد عبدالله مجور،والمقدم عبدالله العتقي، وغيرهم أن يحاولوا أن يتمردوا ،أو ينقلبوا على نظام الحكم ولكنهم أخفقوا،وكان سبب إخفاقهم هو المرحوم عثمان عشال وعلي عبدالله المسيري، فجاءوا إلى الشمال هنا، وكنت من ضمن الوفد الذي استقبلهم.
وهنا بدأت تحركات الحكومة بضرب التمرد بالطائرات والمدفعية والجيش وبدأ القتال مع العوالق.
عندما حدث هذا طلب مني أن ألقي بياناً في الإذاعة باعتباري وزيراً للوحدة،ولكني تلكأت،وذهبت إلى القاضي عبدالرحمن الإرياني استشيره بالأمر فقال لي:تأنّ.
وصلنا إلى تعز حيث كان القاضي عبدالرحمن الإرياني موجوداً هناك،وإذا بنا نستمع من إذاعة صنعاء إلى بيان وزير الخارجية الأخ يحيى جغمان ،وربما كان يشتم من البيان رائحة الاستفزاز كما فسر الأخوة في عدن،وهنا بدأ الموقف يتفجر.
عاد قحطان الشعبي من رحلته، وألقى خطاباً ومن سوء حظه أنه طلب كل الذين كان قد أبعدهم عن الساحة،ومن ضمنهم عبدالفتاح اسماعيل الذي كان قد نزل إلى عدن قبل بضعة أشهر وسالم ربيع علي وآخرون..سواء الذين كانوا متخفين أو كانوا هنا في الشمال أمثال عبدالله الخامري والمرحوم عبدالعزيز عبدالولي وسالم ربيع علي.الخ.
وحدث الانقلاب على قحطان الشعبي ،وفيصل..كما سجله التاريخ وهذا تسجيل فقط للشيخ بانافع.
ظللت في وزارة الوحدة مايقرب من عامين ،ولاأود أن أسجل هناك ماذا صنعت،وماذا قلت،باعتبار أني لاأريد أن استعرض عضلاتي ..فقط هذه سيرة ذاتية..إني لم أقصر بالنسبة للذين عانوا أو شُرّدوا.أما بقية الزعماء،وأقصد بهم أمثال عبدالقوي مكاوي، فقد كان يأتي ليومين أو ثلاثة فلا يطيق البقاء في اليمن ثم يسافر إلى القاهرة.
ثم كان هناك عبدالله عبدالمجيد الأصنج والأستاذ محمد سالم باسندوه وآخرون.
كانت معي سيارة من نوع «فولجا» وهي ملك لي..كتبت عليها «وزارة شؤون الوحدة» فقط بغرض المرور بها في نقاط التفتيش..ويعلم الله أنني تركت هذه السيارة لهم ولعائلاتهم..ونادراً ما كنت استخدمها..هذا واجب،وليس منّة ،ومن من على أخيه في شيء فهو يعتبر غير مهذب.
ظللت ما يقرب من عامين أؤدي واجبي على أكمل وجه، حتى انتهيت منها وقد ضقت بها ذرعاً،وخرجت منها صفر اليدين أي والله مع أن غيري كان يكسب كثيراً.
ثم تعينت عضواً في مجلس الشورى الأول الذي كان يرأسه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وكان المرتب «630» ريالاً.. ومعاش الوزير السابق «600» ريال كنت أتقاضاها من رئاسة الجمهورية،ويشهد الله أنني لم أستطع أن آخذ المعاشين،وكان هناك من يقول لي خذ معاشاً من هنا، ومعاشاً من هناك ،لكني أبيت لأن ميزانية الدولة لاتحتمل ،ولأن طبعي هكذا ،فقد جبلت على ذلك.
بعد أن أقفل مجلس الشورى مع الأسف أيام المرحوم ابراهيم الحمدي وهذا كان خطأ جسيماً لتكميم الديمقراطية التي ابتدأت ،وصار ما صار وظللت في تعز.وجميع الأخوة هنا يعرفون ماذا كنت أصنع، ولم استطع أن أصنع شيئاً يفيدني مادياً.
بيد أني لست أدري كيف بدأ يعرفني فخامة الرئيس علي عبدالله صالح؟ وكان آنذاك قائداً للواء تعز ،مع أن معرفتي به كانت آنذاك قليلة.
وتالله إنه لم يقصر معي أبداً،وليست هذه مجاملة فلم أتعوّد المجاملة ولا النفاق،ولكن لايشكر الله من لايشكر الناس،فقد كان يواسيني،يرسل مايرسل إلى المنزل،دون أن يكلفني حتى الذهاب إلى القيادة ،هذا جانب.
وعندما تولى رئاسة الجمهورية ..أقسم بالله ..لست أدري كيف ذُكرت في منزله،وهم مقيلون؛ حيث تساءلوا عن بيت من الشعر.فقالوا : لايعرفه غير محمد عبدالواسع ،يسمونني «الخويل» .فانبرى الدكتور عبدالعزيز المقالح،ومحمد سالم باسندوه كما عرفت فيما بعد وقالا: والله إنه لايملك سيارة ،وهكذا ،ولذلك فإنه لايحضر المجلس إلا نادراً «مجلس الشعب التأسيسي» ،فأمر لي الأخ الرئيس بسيارة باسمي الشخصي فوراً ،فاتصلوا بي واستلمتها.لاأقول هذا مجاملة..وبدأت أتنفس الصعداء فقد كنت أمشي سيراً على الأقدام إلى السوق لشراج حاجياتي،حتى جاء عام 1980م. حيث صدر قرار جمهوري بتعييني سفيراً لليمن في جمهورية جيبوتي ،باعتبار أني قد نشأت بها أولاً،ثم أني لم أزل أتكلم اللغة الصومالية،أما الفرنسية فقد كنت أجيدها قراءة وكتابة ونطقاً.
وهنا لابد لي أن أسجل كلمة للحقيقة وللتاريخ؛ بأن الصديق طيب الله ثراه أحمد الشجني اقترح علي هو والنسب محمد سيف ثابت أن أقبل أن أعين سفيراً لليمن في جيبوتي ،فقبلت؛ ولما بلغ الاستاذ علي لطف الثور الذي كان وزيراً للخارجية رحب بالفكرة وقدمني لفخامة الرئيس علي عبدالله صالح الذي مابرح أن وافق بارتياح وهكذا تعينت سفيراً في جيبوتي.
وحينما استلمت هذا العمل ،مر شريط الذكريات في خاطري ،من طفل مهاجر إلى جيبوتي ،إلى طفل مشرد في شوارعها،إلى تلميذ لايجد له مقعداً في المدرسة فيتابع الدروس من شباك أحد الفصول وسُمي لذلك «تلميذ الطاقة» إلى مساعد مساعد بياع في دكان حقير مهمته هي أن يكش الذباب عن التمر....واليوم ها أنذا سفيرٌ لبلادي هنا..إنني أعتز بهذا العمل أكثر من اعتزازي بكل المناصب التي توليتها.
عودة مرة ثالثة إلى جيبوتي
عدت مرة ثالثة إلى جيبوتي بعد غياب دام قرابة 24 عاماً من البلدة التي تربيت فيها، وعشت فيها.. أي «جيبوتي»، عدت إليها كسفير للجمهورية العربية اليمنية، بعد استقلالها، وقبل أن أعين كسفير أود هنا أن أسجل حوادث بسيطة، ولكنها قد تكون ذات أهمية.
أولاً: في أوائل عام 1971م، قدم من جيبوتي - التي كانت لاتزال تحت الاحتلال الفرنسي - وفد غير رسمي من جيبوتي، وذلك للتعرف على المعالم التاريخية والحضارية اليمنية، وعلى الشعب اليمني وأخلاقه، وذلك برئاسة الرجل الطيب جداً جداً الذي أحب اليمن كثيراً السيد «أندريه لير»، ولاتزال هناك في جيبوتي حارة كبيرة تسمى «سيتي لير» أي حارة لير، لأن هذا الإنسان كان يعمل مديراً لبلدية جيبوتي قبل أن يستقيل ويتحول إلى مقاول، ولكنه كان لايزال سياسياً ومؤثراً في الفرنسيين، بما فيهم المقيم العام.
قدم السيد «لير» مع زوجته، وكذا السيد «هيري» مدير السياحة مع زوجته يرافقهم أحد الصحفيين الفرنسيين، كما كان بمعيتهم السيد مصطفى حسين أحمد - وهذا له قصة مع زوجته الألمانية - والرجل العربي الشهم عوض علي خليفي، وكان الذي شجعهم واتصل بهم النسب الشريف النظيف، عوض علي خليفي وذلك لكي يتعرف الفرنسيون على اليمن، حضارة وأرضاً وإنساناً خاصة بعد قيام الثورة المباركة.. لأن الفرنسيين - كما قلت سلفاً - لم يعترفوا بالجمهورية العربية اليمنية كثورة، مجاملة لجهات أخرى، فلم تكن لهم مصالح في اليمن كبريطانيا مثلاً التي كانت محتلة الجنوب اليمني بيد أن لأسباب كثيرة أهمها أن لهم مصالح مع الملكيين، أي مع المملكة العربية السعودية - التي ضغطت عليهم آنذاك - وبالتالي كانوا يتلقون معلوماتهم من القنصلية الفرنسية في عدن، حيث كان قنصل الشرف آنذاك «أندريه بس» مع الأسف.
وهذا الوفد غير الرسمي كان له صدى كبير آنذاك بالنسبة للفرنسيين سواء في جيبوتي أو في فرنسا، وعندما وصلوا إلى مطار تعز «المطار القديم، قبل أن يكون هناك المطار الحالي» استقبلهم هناك أحد المسؤولين من قبل المحافظة، وكان المحافظ آنذاك هو - الرجل الصلب، العنيد، الشريف، الحر، المناضل منذ 50 عاماً - الشيخ أمين عبدالواسع نعمان.
وهناك تعرفت عليهم، فاقترح أن أرافقهم - ولايهمني أبداً أن أرافق صغيراً أو كبيراً في سبيل خدمة اليمن واليمنيين - فكنت في مرافقتهم، ابتداءً من تعز مروراً بالجند، وهم يصورون بالفيديو، ثم مروراً بجبلة - حيث كانت عاصمة الصليحيين، وخاصة أروى بنت أحمد الصليحي - وإب - ونقيل سمارة «نقيل أصيد» ثم نزلنا إلى قاع الحقل «حقل قتاب»، وهناك سألني السيد «لير» - الذي كان مثقفاً جداً - عن «ظفار» فأشرت إليه من بعيد أنها تقع هناك في تلك الجبال الشامخة على يمين «قتاب»، ومن ثم دخلنا إلى يريم، وذمار.. حتى وصلنا إلى صنعاء، وهناك قابلنا الأستاذ محسن العيني «رئيس الوزراء» ثم الدكتور محمد سعيد العطار «وزير الاقتصاد» ثم بعد ذلك قابلنا الأستاذ حسين علي الحبيشي، وبجانبه محمد أنعم غالب، ولا أدري كيف شد الأستاذ حسين الحبيشي السيد «لير» الذي ظل معجباً به طوال عشرات السنين، ثم بدأوا يدخلون إلى صنعاء القديمة، فاستقبلهم اليمنيون استقبالاً رائعاً، فلم يكن اليمنيون آنذاك بهذا الشكل المتزمّت، الذي هم عليه الآن، وأعظم حفلة أقيمت لهم في اليمن أقامها محمد سيف ثابت أولاً وفي تعز عبدالعزيز الحروي، لقد استقبلوا استقبالاً حافلاً، لاسيما في منزل السنيدار والسيد الوتاري، ومنزل الدكتور حسين العمري، وآخرين.
وقد عرفوا عن أخلاق اليمنيين الشيء الكثير، مما شدهم شداً كاملاً وارتاحوا لهذا الاستقبال، وهذه الأخلاق الفاضلة وكرم الضيافة، ثم طلبوا أن يزوروا شبام، وكوكبان، وثلا، ثم عادوا.
وبعد يومين اتجهوا إلى الحديدة، وهناك قوبلوا مقابلة ممتازة سواءً من قبل المحافظة، أو المواطنين، ثم اتجهنا إلى الحسينية، وهناك قوبلوا بالاحتفالات والهدايا وخاصة البرد اليمانية «الملاحف»، ثم دخلوا بيت الفقيه، وزبيد، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى المخا، وعدنا بعدها إلى تعز، ولم يبق من المسؤولين من لم يقابلوه سوى الفريق حسن العمري، ولكن شاءت المصادفات أن نلتقي به في مطار تعز القديم، وظلوا معه قرابة نصف ساعة، ثم عادوا إلى جيبوتي، وبعد الزيارة، وجّهت إلي دعوة منهم مع ثلاثة من أصحابي اخترتهم أنا، وقد توجهنا إلى جيبوتي في وفد يمني في مهمة شبه رسمية، إن لم تكن رسمية، وكنت على رأس هذا الوفد، أيام حكومة الأستاذ محسن العيني، كان الوفد مكوناً من الإخوة عباس القرشي، وعبدالقادر سعيد - رئيس لجنة النقد بالبنك المركزي اليمني - ثم صالح الغزالي - من الخارجية - وذهبنا إلى هناك وكان رئيس الوزراء الجيبوتي آنذاك «علي عارف برهان بك» والفرنسيون لايزالون هناك، والوالي - كما يقولون هناك - أصبح مقيماً عاماً، وقد استقبلونا استقبالاً حافلاً ورائعاً جداً لم تشاهد جيبوتي من قبل مثل ذلك الاستقبال، ابتداءً من الحرس بجانب الطائرة ثم الاستقبال بصالة الشرف، كما أن اليمنيين المغتربين هناك لم يقصروا في استقبالنا، فقد اصطفوا على الطريق ابتداءً من المطار وحتى نهاية المدينة، وهي ليست بعيدة، حوالي 2 كيلو متر تقريباً.
وقد دعينا في اليوم التالي إلى حفلة عشاء أقامها لنا رئيس الوزراء الجيبوتي «علي عارف برهان بك»، ثم تعددت الدعوات والحفلات في الأيام التالية سواء من جانب الفرنسيين أو اليمنيين المغتربين هناك، ولم نجد فرصة لتلبية معظم الدعوات بسبب زحمة البرنامج.
وفي اليوم الخامس جاءني السيد «ندريه لير» الذي لم أستطع أن أصفه، أو أصف حبه لليمن ولليمنيين، ومعاملته لنا، وماذا صنع من جميل لليمن، ومن دعاية، وترويج بالنسبة للسواح، فقال لي: اسمع يامسيو عبدالواسع.. لقد استطعت أن أقنع المندوب السامي بأن يقابلكم، لأن فرنسا حتى الآن لم تعترف بالثورة وبالجمهورية العربية اليمنية، لأنه لم يكن بيننا وبينكم علاقات دبلوماسية، وكان المندوب السامي حذراً جداً في هذا الجانب حتى أقنعته بأن يقابلكم بشكل غير رسمي غداً في الساعة الخامسة مساءً سوف تقابلونه.. لذلك أود من كل قلبي أن تتحدث عن «شارل ديجول» لأنه من النوع الذي يحب «ديجول» بجنون وحتى العظم، وربما يقدم خدمة للمغتربين اليمنيين هنا في جيبوتي.
وفي اليوم الثاني التقينا به، وكنت أقوم بالترجمة لليمنيين الذين لايتكلمون الفرنسية، وهنا بدأت الحديث، الذي كان مدخلاً رائعاً حيث قلت: «إن ثورة 1948م، كانت متأثرة بالثورة الفرنسية ولاتنسى ياصاحب السعادة أن العرب قاطبة والثوار الأحرار في كل مكان الذين يتوقون إلى الحرية.. متأثرون بالثورة الفرنسية الكبرى ولاسيما المبادىء التي كانت تحمل هذا الشعار «الحرية، الإخاء، المساواة» ثم متأثرون أيضاً بإعلان حقوق الإنسان، ولكنهم أيضاً تأثروا أكثر فأكثر بالجنرال «ديجول» الذي كان يحمل شعلة الحرية ضد النازية، ثم رفع أيضاً اسم فرنسا عالياً إلى القمة، هذا الإنسان الذي سوف تذكره فرنسا، والأجيال القادمة في العالم حتى نهاية الكون».
وهنا انتفض - كعادة الفرنسيين - وكما يقول المثل اليمني «يسكر من زبيبة» انتفض، وظل يتحدث وبإسهاب عن شارل ديجول، وعظمته ويذكر محاسنه....إلخ.
وأخيراً ضغط على الزر فجاءت إليه السكرتيرة الخاصة وقال لها: اصدري الأمر التالي، وسأوقعه.. «كل يمني - ولكن شمالي - يأتي إلى جيبوتي سواء عن طريق الميناء أو المطار.. يأخذ تأشيرته من الميناء أو المطار مباشرة، الشمال، الشمال، الشمال».
وهكذا خرجنا بتلك الحصيلة، وظل ذلك ساري المفعول حتى تعينت بعد ذلك سفيراً في جمهورية جيبوتي المستقلة، وظلت تأشيرة اليمني من المطار أو من الميناء.
أنا لا أقول هذا لكي اتحدث عن نفسي، وما أنجزته في تلك الفترة ولكن مروراً بحوادث حصلت ليس إلا، والحديث عن جيبوتي طويل وطويل جداً، وسأحاول هنا أن أتحدث عن أشخاص فرنسيين خدموا اليمن، ولايمكن أن ننساهم، أوينساهم التاريخ، والأجيال القادمة.. إنسانياً وحضارياً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.