بشرى طالبة بثانوية أروى للبنات ،في منتصف النهار تخطف جلسة جانبيه من الكون تضع( رجل فوق رجل) ثم تبدأ في بيع( الملوج ) هذا الكاتب الأسمر ذو الأقلام المصنوعة من الزرع.. الآتي- قبل عامين- من قرية جبلية معلقة في متاهة النجوم والتضاريس اليمنية الموحشةهذا الكاتب الأسمر ذو الأقلام المصنوعة من الزرع.. الآتي- قبل عامين- من قرية جبلية معلقة في متاهة النجوم والتضاريس اليمنية الموحشة هذا الكاتب يرسم روعة قريته، التي صنعها بزند الريشة ... رسم من قريته : طفلة ومشهد طرقات وعرة ، وأعشاش حمام ، وجحور أرانب.. حقولا لا تطمع إلا بغيمة واحدة.. رسم كثيراً واشتاق لرسم الجنيات في تلك الخلوات الصخرية الناغلة في ظهر الأرض، وظهر العزلة ؛ لكنه اليوم موشى بوحدته لا تقتفيه غير صواعق الخيبات : “ مخذول أنت لا أهل ولا حبيبة تتسكع كالغبار المتلاشي كسماء تحترق في الليل “ هكذا يردد مفردات “ محمد الماغوط” مع بعض التصرف ويفترض نجوما تشتعل في ليلة متراكبة الحلكة ، ما تلبث حتى تتآكل وتنطفئ .. يجوس بأصابعه بحثاً عن كواكب خضراء، ومداءات عطرة لكنه يبوء بالرماد الذاوي ... يمد يده لتتلقف مجرات مأهولة بالزهور .. مجرات لم يتدخل في رؤيتها كائن : - « آه إن كل ذلك وهم ». جلس أمام طاولة حديدية يتأمل هذه الشجرة الوحيدة في «تعز»،وحيدة لأنها تستندلى مقهى صغير ويستظلها الغرباء والمنفيون من بيوتهم وعمال الأشغال اليدويةالشاقة، وحيدة لأنها تشبهه في ممارسة الحياة والموت .. العري والاكتساء حين يأتي ويغيب، ولأنها – أيضا- لا يمكن أن تتكرر من أية شرفة في العالم؛ فليس ثمة شجرة كبيرة ، طاعنة في السن تستند إلى مقهى عمره ألف عام ويشبه مغارة تلمع منه عيون المرتادين وعينا نادله الصغير. رسم الكاتب “ الفلاح” منارة جامع الرضوان المحتشدة في سماء طالعة إلى الله .. ثمة قبة خفية، وخلفية فندق “ حبيب” وحمامة تحلق بين أنف المئذنة وشفاه القبة .. أسلاك كهرباء.. أعمدة تلفون .. باعة متجولون وسيارات “ نقل” ذحلة وفجأة انمَحت جميع خطوطه التكعيبية .. وأشلاؤه السريالية، ومبتكراته ذات الطبيعة الصامتة .. تهاوت المئذنة .. تكسرت زجاجات نوافذ فندق “ حبيب” الخلفية .. تساقطت ريش الحمام وانقطعت الأسلاك ، ثم تخربش العالم عندما أشعت “ بشرى” حيث لا مجال الآن للشخبطه . تتساقط ملايين النتف الدموية عندما تدخل بشرى تحت مظلة دعكتها أصابع الشمس تمضى في مطرحها هذا قرابة الثلاث ساعات قائمة وواقفة .. ذاهبة وراجعة دون أن ترى للتعب وجها. في هذه اللحظة بالذات تأتي “ أفراح “ الجندي المجهول والشقيقة بقائمة “ الملوجات” تضعها ؛ ثم تذهب حيث معملها الخلفي ذلك المأسور بزقاق هامشي. في غمرة الأخذ والعطاء تمر كائناتها اليومية : بائع الكتاكيت المستكينة في أقفاص ملونة .. بائع الفودكا الذي لا يكشف قنانيه إلا لها .. مهندس البلدية وبائعات القات اللواتي سيصلن الآن من الجبل . بائعات البيض البلدي والسمن البلدي الأفراخ المنقطة الرقطاء، باعة الكدم، والروتي والأرانب ، والخضار والقات خرجت غنمة سوق الصميل الشهيرة “ بالغنمة الهندية” : بدأت الاحتكاك بسيارات “ الجلند “ المستظلة بشجرة (الإثب) المجاورة لقسم شرطة “ الشماسي “. رنت إلى الطربيزات المرتصة وهي تمد عروقها وتتلذذ بفاكهة لذيذة طرحها أحدهم جواره بحذر؛ لكنها باغتت توجسه بنهم. هشها نادل المقهى بقوة، ربما ركلها بخبث ثم عاد إلى الاتكاء فوق الميز الخشبي ، متأملا النساء الرائعات ذوات العيون السحرية والمؤخرات الدائخة في سديمية الفراغات . رجعت الغنمة إلى ذروة المشهد حين ظهر عامل المطعم المجاور وقد غادر تنوره المتحشرج بالاحتراق ، ومازالت تتهدج فوق يديه رطوبة السمن، ولفحات النار . وضع يده في خلفية الغنمة ، فاستدارت ؛ تدافع عن نفسها مكره بقرنيها وكأنها تقول : -ابتعد أيها السافل السفيه النتن !. كرر العامل نفس القرصة في مؤخرة الغنمة ، فاستدارت هذه المرة لتبعثره على الأرض ... اختلطت بقايا السمن الممغنطة بالتراب ونأى العامل يتلمس المسافات. كان نهارا يشبه النهارات التذكارية : العابرون يمرون جوارها بخشوع تام الخبز الساخن المصقول يتخلق بين يدي “ بشرى” ليضيء الساحات الجانبية كلها فليس ثمة وقوف يشبه احتقانات بشرى في خاصرة السوق وليس ثمة لون يشبه مجيء “ أفراح “ وذهابها. - بكم هذه الملوجة ؟ “ - بأي سعر تدفعه “ ( ملوجات) بشرى تشبه لوحات عالمية لفنان محلي، لا يمكن تقديرها بثمن . إنها ملوجات محفورة بإزميل مقدس. الجميل أن الرسام .. الفلاح .. الكاتب .. منطفئ تماما الآن .. يرقب فناجين الشاي بعينيه العشيانتين .لا يتدفق إلى شآبيب جفونه غير بصيص خفيض .. ولا تراوده سوى دالية المتنبي الشهيرة . تلك التي كان يكز على مشهد منها: ( إذا أردت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقود) تنهد طويلا وهو يتذكر خروجه من الحجرة الضيقة قال :“ مجرة كاملة تدعس أورامي العارية ولا أمل يقيس حجم فداحتي فما الذي انتظره من مخلب هذا النهار القناني فارغة والندامى تصاعدوا إلى سدرة المنتهى ما الذي انتظره من فاكهة لا تتشقق إلا حين أراودها “ خرج ثلاثة جنود من قسم شرطة “ الشماسي المجاور للمقهى والشجرة المعمرة ،والملوجات الفضية وبشرى وأفراح ، فطارت كل العصافير التي كانت تصنع وسائد مجدولة من تصاوير عالية لعالم مجهول. أما أنت ، لو أنك الآن في القرية الجبلية ... لو قنعت من التجوال .. لو أنك حفار مجنون، لأخرج اللبن من الآبار وأروى الأرض واسقى الثور وشعل في القرية أسطورة إنسان .. لو أنك ...