نقل مراكز البنوك إلى عدن (المخاطر والتحديات)؟!    ياوزير الشباب .. "قفل البزبوز"    نائف البكري يجهز لدورات صيفية لحزب الإصلاح في الأراضي الجنوبية    بعد تجريف الوسط الأكاديمي.... انتزِعوا لنا الجامعات من بلعوم السلفيات    بحضور القاسمي ... الاتحاد العربي للدراجات يعقد الاجتماع الأول لمكتبه التنفيذي الجمعة المقبل بالقاهرة    وزير الإعلام: مليشيا الحوثي تواصل استغلال مأساة المخفيين قسراً للمزايدة السياسية    انعقاد جلسة مباحثات يمنية - صينية لبحث مجالات التعاون بين البلدين وسبل تعزيزها    إثارة الخلافات وتعميق الصراع.. كيف تعمل مليشيا الحوثي على تفتيت القبيلة اليمنية؟    سد مارب يبتلع طفلًا في عمر الزهور .. بعد أسابيع من مصرع فتاة بالطريقة ذاتها    الاحتلال يكثف قصف رفح والمقاومة تخوض معارك بعدة محاور    غرامة 50 ألف ريال والترحيل.. الأمن العام السعودي يحذر الوافدين من هذا الفعل    ''بيارة'' تبتلع سيارتين في صنعاء .. ونجاة عدد من المواطنين من موت محقق    هل رضخت الشرعية؟ تفاهمات شفوية تنهي أزمة ''طيران اليمنية'' وبدء تسيير رحلات الحجاج عبر مطار صنعاء    انطلاق أولى رحلات الحج عبر مطار صنعاء.. والإعلان عن طريقة الحصول على تذاكر السفر    شاهد .. وزير الزراعة الحوثي يعترف بمجلس النواب بإدخال الحوثيين للمبيدات الإسرائيلية المحظورة (فيديو)    استعدادات الأمة الإسلامية للعشر الأوائل من ذي الحجة وفضل الأعمال فيها    بن مبارك في دبي للنزهة والتسوق والمشاركة في ندوة إعلامية فقط    باصات كثيرة في منتدى الأحلام    احترموا القضاء والقضاة    أكاديمي سعودي: التطبيع المجاني ل7 دول عربية مع إسرائيل جعلها تتفرعن    برشلونة تودع تشافي: أسطورةٌ تبحث عن تحديات جديدة وآفاقٍ أوسع    الإعلان عن تسعيرة جديدة للبنزين في عدن(السعر الجديد)    الحوثيون يعتدون على مصلى العيد في إب ويحولونه لمنزل لأحد أقاربهم    الفريق "محمود الصبيحي" يوجه صفعة قوية للإنتقالي الجنوبي    إنجاز غير مسبوق في كرة القدم.. رونالدو لاعب النصر يحطم رقما قياسيا في الدوري السعودي (فيديو)    بوخوم يقلب الطاولة على دوسلدورف ويضمن مكانه في البوندسليغا    خمسة ملايين ريال ولم ترَ النور: قصة معلمة يمنية في سجون الحوثيين    العكفة.. زنوج المنزل    الاستخبارات الإسرائيلية تُؤهّل جنودًا لفهم اللهجتين اليمنية والعراقية    سقوط صنعاء ونهاية وشيكة للحوثيين وتُفجر تمرد داخلي في صفوف الحوثيين    استشهاد جندي مصري في الحدود مع غزة والقاهرة تحذر من المساس بأمنها    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الوزير الزعوري يلتقي رئيس هيئة التدريب والتأهيل بالإنتقالي ورئيس الإتحاد الزراعي الجنوبي    المنتخب الوطني للشباب يختار قائمة جديدة من 28 لاعبا استعدادا لبطولة غرب آسيا    استقرار أسعار النفط مع ترقب الأسواق لاجتماع مجموعة "أوبك بلس"    تدشين دورة إدارة البحوث والتطوير لموظفي وموظفات «كاك بنك»    8200 يمني سيغادرن من مطار صنعاء الى الأرضي السعودية فجر غدا الثلاثاء أقرأ السبب    معالي وزير الصحة يُشارك في الدورة ال60 لمؤتمر وزراء الصحة العرب بجنيف    مغادرة أول دفعة من الحجاج جواً عبر مطار عدن الدولي    ''زيارة إلى اليمن'': بوحٌ سينمائي مطلوب    محرقة الخيام.. عشرات الشهداء والجرحى بمجزرة مروعة للاحتلال في رفح    شيفرة دافنشي.. الفلسفة، الفكر، التاريخ    40 دعاء للزوج بالسعادة.. ردديه ضمن أدعية يوم عرفة المرتقب    سلطان العرادة وشركة غاز صافر يعرقلون أكبر مشروع لخزن الغاز في ساحل حضرموت    شاهد: فضيحة فيسبوك تهزّ منزل يمني: زوجة تكتشف زواج زوجها سراً عبر المنصة!    مارب.. افتتاح مدرسة طاووس بن كيسان بدعم كويتي    دعم سعودي جديد لليمن ب9.5 مليون دولار    برشلونة يختتم موسمه بالفوز امام اشبيلية    - 45أعلاميا وصحفيا يعقدون شراكة مع مصلحة الجمارك ليكشفون للشعب الحقيقة ؟كأول مبادرة تنفرد بها من بين المؤسسات الحكومية منذ2015 فماذا قال مرغم ورئيس التحرير؟ اقرا التفاصيل ؟    قيادة «كاك بنك» تعزي في وفاة والدة وزير العدل القاضي بدر العارضة    الثاني خلال أسبوع.. وفاة مواطن نتيجة خطأ طبي خلال عملية جراحية في أحد مستشفيات إب    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    عالم يمني يبهر العالم و يكشف عن أول نظام لزراعة الرأس - فيديو    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    وهم القوة وسراب البقاء    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربعون زيارة وألف حكاية ورواية الحلق24
اليمن واهل اليمن
نشر في الجمهورية يوم 13 - 07 - 2008

السرجنت وندل فليبس سرق وتاجر في أكبر مجموعة من الآثار اليمنية القديمة
التهديد باغتيال الجمهوريين
وعندما استعيد ذكرياتي عن مؤتمر حرض اتوقف عند بعض الوقائع المثيرة ، وبينها لقائي وحواري مع احمد محمد الشامي وزير خارجية الامام البدر ، اذ كان الرجل على قناعة بخيار الجمهورية على عكس موقفه المعلن والمنحاز للملكية خلال مباحثات المؤتمر ، بل ان الشامي صرح لي إنه يود الانضام للجمهورية فيما لو امكن نقل اسرته من بيروت في سرّية وأمان الى صنعاء ، ولا أدري لماذا افضى لي بهذه الرغبة إلا ان يكون قد اراد اختبار صفتي المهنية كصحفي أم عميل للمخابرات المصرية .. والله اعلم .
على ان الشامي افضى لي بسر آخر ، وهو ان بروس كوندي مستشار الامام البدر موجود في المؤتمر ضمن أعضاء الوفد الملكي ، ووعدني بأن يشير اليه عندما تنعقد حلقة غناء “الزامل” في الصباح قبيل جلسات المؤتمر ، ونقلت الخبر الى زميلي صلاح قبضايا المراسل العسكري لجريدة الاخبار المصرية حيث كان يجمعنا خيمة واحدة ، وهكذا صوبنا معا الكاميرات الى بروس كوندي ، وكان نحيفا ابيض البشرة في نحو الستين من عمره ويرتدي الزي اليمني التقليدي ، ويضع “الجنبية” المعقوفة في وسط وقد اطلق للحيته العنان ، وهو يهودي امريكي كان يدعي الاسلام بعد ان غير اسمه الى عبد الرحمن حيث عاش طويلا في كنف الامام احمد وأقام بقصره في مدينة تعز ، وعندما اندلعت الثورة هرب الى المناطق الشمالية باليمن يخطط ويحارب مع القبائل الملكية والمرتزقة الاجانب ، وينقل الاخبار اولا بأول الى المخابرات الامريكية ويتلقى منها التعليمات ، وقد ابتلى اليمن بأمثال بروس كوندي من رسل الاستعمار القديم او الحديث منذ عهده برجل المخابرات البريطانية السرجنت وندل فليبس الذي ادعى انه عالم آثار ، وسرق وتاجر في اكبر مجموعة من الآثار اليمنية القديمة التي لا تقدر بثمن !
المهم انه ما ان التقطنا بعض الصور لبروس كوندي ، حتى فوجئنا بضابط المخابرات العسكرية المصرية في مؤتمر حرض وهو العقيد محمود السركي ، حيث انقض علينا في خيمتنا ثم طلب ان نسلمه الفيلمين بلهجة ناعمة في البداية ، ثم في لهجة أمره عندما حاولنا المراوغة وعدم الاستجابة لرجائه بدعوى انه سوف يحرمنا من “خبطة” او “سبق” صحفي !
ثم تشاء الاقدار ان تنشر صحيفة الاهرام واحدة من تلك الصور التي التقطناها داخل مقال الاستاذ محمد حسنين هيكل “بصراحة” وكان حول انسحاب القوات المصرية من اليمن بعد ان ادت دورها القومي في دعم الثورة ونظامها الجمهوري !
اتذكر كذلك انني هرعت مع مشايخ القبائل والسياسيين الجمهوريين الى مطار حرض البدائي استجابة لاستدعاء الفريق حسن العمري الذي كان قد وصل على طائرة عسكرية ، وتحت جناح الطائرة اتقاء لأشعة الشمس الحارة ، جلسوا جميعا ارضا في مواجهته ، حيث وضع يده على مسدسه متوعدا أياً منهم بالقتل في حالة انحيازه الى خيار اخر لحكم اليمن غير النظام الجمهوري .
فشل مؤتمر حرض
أتذكر اخيرا الصحفي المصري المخضرم عبد اللطيف المي الذي عاش وخبر الاوضاع السياسية والقبلية في الجزيرة العربية على مدى ربع قرن بصفته مراسلا لوكالة “الاسوشيتدبرس” فحين عقد الفريق فريد سلامة رئيس الوفد المصري في مؤتمر حرض اجتماعا موسعا مع الصحفيين العرب والاجانب في حضور الامير السديري رئيس الوفد السعودي ، اذ به يصرح بأن مصر والسعودية فاض بهما الكيل من المشكلة اليمنية .. عندئذ مال على اذني هامسا بكلمتين “فشل المؤتمر”!
وحين استفسرته بعد ذلك عن المغزى ، قال ان الفريق فريد سلامة غاب عنه فهم العقلية البدوية ، وذلك انه افضى بمتاعب مصر في اليمن بما يعني رغبتها في الانسحاب منها، ومن المتعين اذن ان تنتهز السعودية الفرصة حتى تتشدد في موقفها خلال اعمال مؤتمر حرض و.. صدقت نبوءة عبد اللطيف المحي ، فقد وصل المؤتمر الدكتور رشاد فرعون مستشار الملك فيصل وعقد اجتماعات مطولة مع الملكيين ، وبعدها لم تتقدم مباحثات مؤتمر حرض خطوة الى الامام في اعقاب الجلسة الثالثة ، بانتظار تفسير جمال عبد الناصر والملك فيصل للغموض الذي يكتشف الاتفاق بينهما في جدة ، حول احالة القضية اليمنية لأهل الحل والعقد من اليمنيين ، فكان الخلاف بينهم حول تفسير هوية الحكومة المؤقتة ، وهل تكون جمهورية ام ملكية ، وموعد انسحاب القوات المصرية من اليمن ، وكذا موعد استفتاء اليمنيين على الخيارات المطروحة !
وهكذا توقفت اعمال مؤتمر حرض يوم 24 ديسمبر مع حلول شهر رمضان المبارك، على ان تستأنف في 20 فبراير عام 1966 ، لكن ما جد من تطورات على الساحة اليمنية والساحة الاقليمية حال دون انعقاده مجددا !
مبارزة شعرية بين الغادر والرويشان
أضاف حضوري مؤتمر حرض الكثير من إدراكي المعرفي بالتقاليد القبلية ، باعتبارها واحدة من المكونات الاساسية للشخصية اليمنية ، فعندما التقى انصار الجمهورية وانصار الحكم الإمامي مع ما كان يسمى بالجمهورين المنشقين ، تبخرت العداوات السياسية والثأرات الشخصية ، وراح الجميع يغتنمون الفرصة في خوض غمار الحوار المتبادل حول شئون اليمن وشجونه ، وكل فريق يناطح الفريق الآخر بالحجة وبالشعر حول صواب خياراته السياسية !
كان مشهد الحوار اليومي بين الفرقاء اليمنيين يبدأ بوقوف الجمهورين صفا واحدا في الصباح في مواجهة صف الملكيين ، وغالبا ما كانوا يذبحون ثورا يلتهمون لحمه فيما بعد ، تأكيداً على المودة وحسن النوايا ، وبعدها ينشد الجميع غناءً جميلاً متهدج الايقاع اسمه “الزامل” ، ثم تعقد حلقة الشعر الحر ، وكل شاعر يأتي بما تجود به قريحته بشكل تلقائي ومن وحي اللحظة ، وذاك اضعف الايمان واكثر أمنا من طلقات الرصاص او طعنات “الجنبيات” أي الخناجر اليمنية التقليدية ..
كان الفريق الجمهوري يتصدره الشيخ علي بن ناجي القوسي ابرز مشايخ قبيلة الحدا ، وهو كان على غير ابدان اليمنيين ..عملاقا وطولا وعرضا ، ولأنه لا يجيد قرض الشعر ، لذلك كان أي من فطاحل الشعراء الجمهورييين ينوب عنه وابرزهم الشيخ صالح بن ناجي الرويشان ، بينما انفرد علي بن ناجي الغادر شيخ قبيلة خولان بالانابة عن الفريق الملكي في حلبة الشعر ، واذكر انه انشد يقول :
حيد – جبل – الطيال اعلن ونادي كل شامخ في اليمن
ما بنجمهر قط .. لو نفنى من الدنيا خلاص
لو اليوم يرجع أمس ولا الشمس تشرق من عدن
والأرض تشعل ناراً وأمزان السما تنزل رصاص
ورد الشيخ الرويشان على الغادر قائلا :
الشعب جمهر والقيادة أيدت
جمهورية ولو تنزل السبع سموات الطباق
والامام من فوق عرش الله يطلع يدعي
ويذيع من الجنة .. وينزل من على ظهر البراق
بريماكوف صحفي سوفياتي
عرفت بريماكوف لأول مرة في اوج ازدهار العلاقات المصرية السوفيتية خلال سنوات الستينات عندما وقع عليه الاختيار مراسلا لصحيفة “برافدا” في القاهرة خلفا لزميله السابق بلاييف ، وكانا والحق يقال من اخلص اصدقاء مصر والعرب والدفاع عن قضايانا القومية المصيرية في الاعلام السوفيتي أنذاك ، وكثيرا ما كانا يطوفان بدور الصحف او يوجهان الدعوة للكتاب والصحفيين والمفكرين الى بيتيهما حيث تفتح الابواب امام الحوارات البناءة والمثمرة حول العلاقات المصرية السوفيتية وسبل تصويب مسيرتها خاصة في الاوقات الحرجة التي كان يتحرك اعداؤها في كلا البلدين لتدميرها .. اذكر الآن من بينها ما كان يروجه اعداؤها في مصر حول مسئولية الاتحاد السوفيتي عن نكسة الخامس من يونيو 1967 بدعوى انه كان يمدنا بالسلاح الدفاعي ويحجب عنا السلاح الهجومي او ما كان يروجه اعداؤها في الاتحاد السوفيتي من استنزافها لموارده وترسانته العسكرية خصما من استحقاقات منظمة الدول الاشتراكية .
وقد شهدت بنفسي ثورة الصحفيين وكتاب جريدة الجمهورية ومن بينهم الدكتور يوسف ادريس ومحمد عودة وسامي داود وفاروق القاضي في مواجهة بلاييف ونقدهم المرير لقرار موسكو الذي صدم الشعب المصري وجمال عبد الناصر عندما اعلنت اعترافها بحكومة الانفصال في سوريا عام 1961 ايذانا باسدال الستار على اول تجربة للوحدة في التاريخ العربي المعاصر .. حتى كاد بلاييف ان يبكي من فرط التأثر ووطأة الهجوم ووعد بنقل تلك الآرآء والانتقادات الى القيادة السوفيتية .
عن جمال عبد الناصر وتجربته في التحول الاشتراكي اصدر بريماكوف وبلاييف كتابا سياسيا وفكريا غاية في الاهمية ، أكدا فيه ان بناء الاشتراكية ليس بالضرورة وفق النظرية الماركسية اللينينية ، او عبر الحزب الشيوعي وقيادة الطبقة العمالية، وأن جمال عبد الناصر اضفى المصداقية السياسية والنظرية على امكانية وقدرة ودور الجيوش الوطنية في العالم الثالث على انجاز مهام الثورة الوطنية المتقدمة على طريق التحول الاشتراكي .
والشاهد ان هذا الكتاب كان بمثابة انقلاب في فكر الحزب الشيوعي والقيادة السوفيتية،حيث مهد الطريق امام تنامي وازدهار العلاقات مع مصر والاسهام في بناء السد العالي ، ودعم الدور المصري المساند لثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن بالسلاح وبشروط ميسرة ، فضلا عن إعادة بناء القوات المسلحة المصرية في اعقاب نكسة الخامس من يونيو .. والى حد بناء حائط الصواريخ “سام” الاستراتيجية المحظور خروجها من الاتحاد السوفيتي مع طواقمها القتالية ، وهي التي قطعت دابر سلاح الجو الاسرائيلي الذي دأب أنذاك على الاغارة وتدمير المنشآت المدنية العسكرية والمدنية في طول مصر وعرضها وكان آخرها تحطيم كوبري نجع حمادي في عمق الصعيد !
وتشاء مصادفات القدر انفرادي زهاء اسبوع كامل بالحوار مع بريماكوف ومعايشته عن قرب عندما فوجئت به وبدبلوماسي في سفارة موسكو بصنعاء يطلان برأسهما من خيمة مجاورة لخيمتي داخل المعسكر النائي الذي اشرفت المملكة العربية السعودية على اقامته وتجهيزه وإعاشته في منطقة “حرض” المتآخمة لحدود جيزان تنفيذا للاتفاق بين جمال عبد الناصر والملك فيصل في مؤتمر القمة العربي بالاسكندرية عام 1964 على إحالة المشكلة اليمنية الى اهل “الحل والعقد” من اليمنيين !اقبلت على مصافحة بريماكوف في ود وحرارة لكن المفاجأة الثانية كانت في العقيد محمود السركي الضابط بالمخابرات العسكرية وهو يربت على كتفي قائلا :”ولا كأنك تعرف الرفيق بريماكوف من قبل” وحينها عرفت انه جاء لمتابعة اعمال مؤتمر حرض تحت ستار صحفي بريطاني ، بل ان اللواء عبد العزيز سليمان الذي كان يمثل مصر في اللجنة العسكرية للمؤتمر استدعاني الى خيمته وشدد على اسهامي بالسكوت والتمويه على هوية بريماكوف لأسباب عليا تتعلق باهتمام الاتحاد السوفيتي بما يجري في اليمن وشكل نظامه المرتقب وموقف مصر والسعودية إزاء ما قد يصل اليه اهل الحل والعقد من اتفاق او خلاف !اذكر الآن انني تعاملت مع بريماكوف ورفيقه الدبلوماسي السوفيتي وكأنهما مراسلان لصحيفة الجارديان البريطانية ، ومن جانبها كانت اجادتهما للغة الانجليزية عاملا مساعدا على تأكيد الهوية والصفة المزيفة ، بل ان العقيد وجدي شرف – يرحمه الله – المسئول عن الشئون الادارية في المؤتمر نصحهما بالاقلاع عن شراب “الفودكا” السوفيتية الصنع سرا داخل الخيمة المخصصة لهما وقدم لهما زجاجات الويسكي الاسكوتش يبدو انه كان قد طلب شراءها على وجه السرعة من احدى السفارات الاجنبية في صنعاء كونه مزاجا بريطانيا خاصا !
عدنا الى مصر وبعدها في الخامس من يونيو 1967 اندلعت حرب الخامس من يونيو، ولعلعت الاذاعة المصرية تزف اخبار سقوط عشرات الطائرات الاسرائيلية تباعا ايذانا بنصرنا المبين ، لكن الشكوك بدأت تلعب في “عبي” ، فمنذ ايام كنت في سيناء لأداء مهمتي كمراسل عسكري لمجلة “روز اليوسف” وعدت بانطباع سلبي ، فقد رأيت قواتنا في حالة حشد وتعبئة وليست في حالة أهبة الاستعداد للحرب ، واتصلت تليفونيا بالصديق الكاتب الصحفي محمد عودة لاستطلاع ما لديه من اخبار وتوقعات واكتشفت ان الشكوك كذلك بدأت تلعب “في عبه” واتفقنا على اللقاء . وتوجهنا في العاشرة صباحا الى مكتب صحيفة برافدا بالقاهرة، وهناك وجدنا كل العاملين والسكرتارية في حالة ذهول وعندما شعر بريماكوف بوجودنا رفع رأسه من بين كفيه ورأينا ملامحه البيضاء النضرة وقد اكتست بالصفرة والشحوب ، وقبل ان نبادره بالتحية والسؤال عن اخبار الحرب نهض من مكانه وأمسك أيدينا في لهفة وعيناه تكادان تطفران بالدموع وقال في عبارات فصيحة وحاسمة : انتهت الحرب لصالح اسرائيل في السابعة من صباح اليوم قبل ان تبدأ المعركة .. بعد تدمير الاسطول الجوي المصري على الارض .. انها مصيبة للاتحاد السوفيتي كما هي مصيبة مصر .. وعلينا ان نتكاتف سريعا وننهض من جديد فوق ركام الاحزان !
ودارت عجلة الزمن ونقل بريماكوف الى موسكو نائبا لرئيس تحرير “برافدا” ثم نائبا لعميد معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية وانقطعت اخباره فلم يعد يصلنا منها سوى صدى مقالاته في “البرافدا” التي ظلت تدعم مصر والعرب وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة .. وانهار الاتحاد السوفيتي وتفككت اوصاله ولمع اسم بريماكوف من جديد في عصر”البريسترويكا” واصبح رئيسا لجهاز المخابرات الروسية حيث لعب دورا مشهودا بالغ الخطورة والاهمية عام 1990 في محاولة تليين الموقف المتشدد للرئيس صدام حسين واقناعه في الوقت الضائع بسحب القوات العراقية من الكويت ، قبل ان تهب عاصفة الصحراء وتدمير قوات التحالف الدولي للآلة العسكرية العراقية وانسحاب فلولها من الكويت !
المعروف ان بريماكوف – اصدر كتابا بعنوان “مهمة في بغداد” شرح فيه قناعته-انذاك-إزاء امكانية وفرص النجاح المتاحة – عبر رحلاته المكوكية الى العراق – في تأجيل عاصفة الصحراء بدعوى ان الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن ، والمعروف عنه كذلك قناعاته الوطنية شبه المستقلة عن الغرب وانتقاداته المريرة لإقصاء روسيا عن أي دور فاعل في عملية السلام بالشرق الاوسط رغم ان بلاده احدى الدول الراعية لاتفاق السلام في مدريد ووقوفه بصلابة ضد توسيع عضوية حلف ال “ناتو” شرقا .
وكان بريماكوف قد زار القاهرة بعدما اصبح رئيسا للحكومة الروسية ، حيث طلب من الدكتور اسامة الباز المستشار السياسي للرئيس حسني مبارك اللقاء بعدد من اصدقائه السياسيين والصحفيين والمثقفين المصريين ، وبالفعل التقينا على ظهر باخرة تمخر عباب النيل .. واكثر ما أثار دهشتي ليس لأنه لا يزال يعرفني فحسب ، ولكن لأنه تذكر لقاءنا في حرض .. وراح يبدي اعجابه الشديد بخيار الوحدة اليمنية ودفاع الشعب اليمني المجيد في اجهاض المؤامرة الانفصالية التي تعرضت لها صيف عام 1995 .
فضيحة كبير الخبراء السوفييت
كان المقدم حسين المسوري رئيسا لأركان القوات المسلحة في الجمهورية العربية اليمنية ، بينما كان لا يزال التوتر المسلح والشكوك متبادلة وعلي اشدها بين النظام في صنعاء وقرينته في عدن إثر الحرب الاهلية التي اندلعت بين الشطرين عام 1972 .
ولأن الاتحاد السوفيتي كان مورد السلاح الوحيد لكل النظامين فضلا عن نقل خبراته العسكرية سواء على الصعيد النظري او العملي والقيام بمهام التدريب ، من هنا كان على عاتق كبير الخبراء السوفييت الاشراف على تنفيذ هذه المهام جيئة وذهاب ما بين صنعاء وعدن وبالعكس !
يوما كان كبير الخبراء السوفييت على موعد مع حسين المسوري حتى يقدم له تقريره عن الاوضاع القتالية لجيش الشمال سواء في حالة الدفاع او حالة الهجوم ، وعلى ما يبدو ان كبير الخبراء كان على عجلة من أمره ، وذلك انه حين وضع تقريره أمام رئيس الاركان وراح يقرأه تمهيدا للنقاش حول محتواه ، إذا بالمفاجأة الصاعقة .. حيث كان التقرير عن اوضاع القوات المسلحة في اليمن الديمقراطي في حالة الدفاع او في حالة الهجوم .. وكان النظام في شمال اليمن هو المعني بالطبع !
على أي حال فقد لعبت الاعراف الدبلوماسية وكذا علاقات الدعم العسكري شبه الوحيد من الترسانة السوفيتية دورهما في تطويق محسن العيني رئيس وزراء اليمن للازمة والتكتم على الفضيحة .
لكن لأنني سمعت عن هذه الحكاية عبر دبلوماسي عربي في صنعاء ، من هنا قررت التأكد شخصيا من مدى صحتها ، وهكذا بينما كنت اركب سيارة وزارة الاعلام حين رأيت باب السفارة السوفيتية بصنعاء مفتوحا على باحة واسعة ، وطلبت من السائق الدخول .. وقلت للحارس انني صحفي مصري وأطلب مقابلة السفير واسمي فلان الفلاني واعمل محررا في مجلة روز اليوسف القاهرية ..
لم يمض سوى دقائق جرى خلالها الاتصال بالسفير ، وبعدها سمح لي بالدخول الى مبنى السفارة ، حيث قادني أحد الدبلوماسيين الى صالون الضيافة بالدور الارضي، وقدموا لي كوبا من العصير وطبقاً يحتوي على حبات اللوز والزبيب .
لم أكن اعرف السفير السوفيتي ولا التقيت به من قبل ، لكن عندما دخل الصالون عرفته على الفور ، إذ كثيرا ما كان يظهر بجسمه البدين في الصور التي تجمع بين جمال عبد الناصر والقادة السوفيتية .. حيث كان يعمل انذاك مترجما من العربية الى الروسية وبالعكس.
لم يسألن السفير عن السبب وراء زيارتي بدون موعد سابق ، لكنه راح يستعرض شريط ذكرياته عن عبد الناصر ، وإبداء رأيه في بعض وزرائه ومعاونيه ، وعن صداقاته مع كثير من الصحفيين المصريين وبينهم محمد حسنين هيكل ومحمد عودة وفيليب جلاب ومحمد سيد أحمد .. وحتى جاء دوري في الحديث ، ورويت عليه تفاصيل ما نما الى علمي حول فضيحة كبير الخبراء والسوفييت ..
دهش السفير للوهلة الاولى لكنه لم يرتج للمفاجأة .. وراح يحاول تبرير ما جرى في ذكاء وحكنة ولطف .. ثم رجائي عدم النشر حفاظا على العلاقات السوفيتية المصرية واليمنية.
على انني حين فاتحت الاخ حسين المسوري ومحسن العيني حول هذه الواقعة .. لم ينكرها أي منهما ، بل وأكدا مصداقية ما وصلني من تفاصيلها .. وكان العيني قد قدم استقالة وزارته ، وتنحى المسوري عن منصب رئيس الاركان واصبح محافظا لصنعاء !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.