اليمن تدخل أرقى الديمقراطيات بعد توقيع اتفاقية الوحدة عاشت الوحدة اليمنية كنت الصحفي الوحيد بين عشرات الصحفيين العرب والاجانب الذي استدعاه الدكتور عبد الكريم الإرياني لشهود حفل التوقيع بقاعة فلسطين في مقر اقامة السيد علي سالم البيض فوق قمة جبل المعاشق المطل على خليج عدن .. كانت الساعة قد جاوزت الثانية عشرة بعد منتصف الليل ، وكانت توقعات الصحفيين في الخارج تشير الى احتمالين إما اعلان قرار قيام مجلس الرئاسة اليمني الذي تأجل صدوره منذ عام 1977 وكان السبب المباشر وراء اغتيال الرئيس الشمالي الاسبق ابراهيم الحمدي والرئيس الجنوبي الاسبق سالم ربيع علي .. او ربما كان الاعلان المتوقع عن قيام وحدة فيدرالية بين عدن وصنعاء من باب الافراط في التفاؤل.. أمسك علي عبدالله صالح بالقلم ووقع على وثيقة اجازة عرض دستور الوحدة الاندماجية على برلماني الشمال والجنوب ايذاناً بالاستفتاء الشعبي على قيام الوحدة اليمنية ووقع في اعقابه بنفس القلم علي سالم البيض الامين العام للحزب الاشتراكي وراح كل منهما يتلهف على الاحتفاء بقلم التوقيع .. فكان من نصيب علي عبد الله صالح . وعلي ما يبدو ان عقلي الباطن وربما ضميري كان دافعي لهذا الهتاف والبكاء ، فهذه الوحدة المباركة انتصار وطني وقومي يضاف الى امجاد بلدي مصر ، ولم لا وقد جاءت الوحدة اليمنية من حيث التوقيت في زمان الردة عن كل ما آمنت به ثورة يوليو وسعت اليه بزعامة جمال عبد الناصر على صعيد انجاز المشروع الوحدوي الشامل للامة العربية ، لتجبر انكسار الوحدة العربية السورية ، وقد لا ابالغ القول ان حدث الوحدة اليمنية كان في حد ذاته بمثابة نفحة روحية طال انتظارها وشحنة غير مسبوقة من الفخر والحماس ، هبت في الوقت المناسب لترطيب وجدان زوجات وأولاد وآباء وامهات الشهداء المصريين ، حين ادركوا ان عطاءهم وتضحياتهم لم تذهب سدى ، خاصة بعد كم والوان من حملات التشهير المشبوهة بالدور المصري في اليمن . ليلتها سهر اليمنيون حتى منتصف الليل الى جوار الراديو بانتظار خبر سعيد يقرب من طموحاتهم في قيام الوحدة ، واذا بالمفاجأة السعيدة تكتمل بالارادة السياسية المشتركة حول اعلان الوحدة دون تلكؤ او مماطلة ، وخرج الجميع الى الشوارع في شتى ربوع اليمن يهتفون ويرقصون ويهنئون بعضهم البعض بفرحة الوحدة ، وحين عدت في اليوم التالي الى صنعاء في موكب الرئيس علي عبد الله صالح ، اذا بالحشود البشرية العارمة التي كانت بانتظاره في مدينة تعز تذكرني بمواجب جمال عبد الناصر التاريخية والهتاف بحياته وبالمجد والخلود للثورة والجمهورية والوحدة! وفي عام 1990م شهدت في صنعاء التوقيع على اتفاق اعلان الجمهورية اليمنية عبر الاندماج الكامل بين مؤسسات الشطرين ، ثم شهدت من بعد اجراء اول انتخابات نيابية ديمقراطية شهد لها المراقبون بمحاكاتها لأرقي الديمقراطيات الغربية ، ولم تمض سوى عامين على الفترة الانتقالية حتى كانت الانتخابات النيابية الثانية في ظل دولة الوحدة ، وعندئذ حدث ما لم يكن في حسبان احد ، حين رفض علي سالم البيض تولي منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وتمترس في عدن، وراح يمارس السلطة والمعارضة معا . مكتب نائب الرئيس الأمريكي لم يكن اعتكاف نائب الرئيس في عدن السابقة الاولى عبر ممارسة اسلوبه الخاص في الاحتجاج السياسي ، سبقها اعتكافان احدهما في عدن والثاني في مسقط رأسه حضرموت ، وفي المرة الأولى والثانية كانت مبادرة الصلح والوفاق من جانب الرئيس علي عبد الله صالح، لكن ظل الخلاف بينهما مكتوما وداخل الغرف المغلقة ..كان البيض قد غادر صنعاء الى العاصمة الاردنية عمان ومنها الى واشنطن ، وقال لي الاستاذ محسن العيني رئيس وزراء اليمن الاسبق وسفيرها في امريكا اوائل اغسطس عام 1994 ، حيث دعانا نتناول الغداء بفندق شيراتون .. وقال نائب الرئيس السيد علي سالم البيض وصل الى واشنطن وطلب منه التكتم على خبر اقامته في احدى المستشفيات والسيدة حرمه للعلاج ، وانه لا يعتزم القيام لذلك بأي اتصالات مع الادارة الامريكية ولا ممارسة في نشاط دبلوماسي ، ومن ثم استأذنه لقضاء اجازته السنوية في القاهرة وصنعاء ! على ان محسن العيني ما كاد يصل الى القاهرة حتى تلقى تعليمات من وزير الخارجية بالعودة سريعا الى واشنطن ، بعد ان وصلت معلومات تفيد لقاء النائب في واشنطن بنائب الرئيس الأمريكي في غيبته .. وقيل ايضا انه التقى بالامير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن من دون ابلاغ صنعاء او موافاتها بتقرير عن نشاطاته ومباحثاته الامر الذي جعل الرئيس علي عبد الله صالح يضرب اخماساً في اسداس ! التعديلات الدستورية والاعتكاف بعدن وهكذا ما ان وصل البيض من امريكا الى عدن في 19 اغسطس 1994 – قادما من امريكا – حتى بدأت الازمة السياسية فوراً ، حيث بدأ يمارس سلطات السيادة والسلطة التنفيذية معا في ربوع الجنوب كما وأنه لا يزال مشطراً .. وعبر لقاءاته الجماهيرية والحزبية وخطبه في المناسبات وزياراته للمنشآت بدأ الغمز واللمز دون الكشف عن المستور حول اسباب خلافه مع الرئيس ، وقال : انني فوجئت بأن مكتبي في صنعاء يفوق فخامة وابهة مكتب نائب الرئيس الامريكي .. وانه لن يعود الى صنعاء لأنه ظل بلا عمل ولا كلف بمهام على مدى ثلاث سنوات .. واندلعت في اعقاب خطبه واحاديثه حملات اعلامية متبادلة وضارية بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر تزعمتها صحيفة صوت العمال التي تصدر في عدن وصحيفة 22 مايو التي تصدر من صنعاء .. وقيل في حق الرئيس ونائبه اكثر مما قاله مالك في الخمر .. تجريحا وتشكيكا في الذمة السياسية والمالية واتهامات بالتآمر ومحاولة الاحتواء والغاء الطرف الآخر .. لكن المكتب الفخم الابهة في صنعاء من دون عمل او مهام محددة لم يكن بالطبع السبب المباشر لغضب النائب ولا كان وراء اعتكافه وخلافه مع الرئيس ، وانما ما اسفرت عنه نتائج الانتخابات النيابية من فوز حزب التجمع اليمني للاصلاح بعدد اكبر من الدوائر اهلته لاحتلال المركز الثاني بعد حزب المؤتمر .. وتراجع الحزب الاشتراكي الى المركز الثالث .. الامر الذي فرض صيغة ائتلافية جديدة للحكم ونهاية ثنائية سلطة السيادة التي ظلت قاصرة على المؤتمر والاشتراكي خلال الفترة الانتقالية .. وهكذا خلال غياب النائب في امريكا ، استقر الاجماع في مجلس الشعب على طرح تعديلات دستورية تواكب نتائج الانتخابات ، من بينها منح الرئيس صلاحيات اختيار نائبه ، الامر الذي فسره البيض بمحاولة الرئيس التراجع عن الاتفاقات التي تمت بينهما حول استمرارية اقتسام السلطة وادخال تعديلات دستورية في غيبته رغم تمثيل الحزب الاشتراكي بنوابه في مجلس الشعب والتزامهم رأي الاغلبية الديمقراطية ، ومشاركتهم في مناقشة التعديلات .. واذا كانت البداية انتزاع رئاسة البرلمان من الاشتراكي لحساب حزب الاصلاح .. ومنح الرئيس خيار انتقاء نائبه وليس عبر الانتخاب فأي مصير اذن كان ينتظر نفوذ الاشتراكي في قسمة السلطة بعد ان بلغت التعددية الحزبية في اليمن نحو 13 حزبا وقتئذ ! تشاؤم دون أمل فى الوفاق سألني الرئيس علي عبد الله صالح كعادته عن رؤيتي للاوضاع في اليمن عندما التقيته بالقصر الجمهوري في صنعاء منتصف شهر سبتمبر 1994 وقلت : لعلها الزيارة الخمسين لليمن وعلى مدى ثلاثين عاماً من المتابعة الصحفية لمسيرة الثورة اليمنية في الشمال والجنوب لم افقد ايماني قط في حكمة شعبها العظيم وصبره وميراثه النضالي التاريخي وقدراته الذاتية على اجتياز المأزق وابتكار الحلول الخلاقة للمشكلات والخروج من المحن والكوارث التي يتعرض لها اكثر قوة وتفاؤلا بالمستقبل .. لكني يا سيادة الرئيس اشعر في هذه الزيارة بالتشاؤم الشديد دون بصيص امل في الافق يطمئنني على قرب او امكانية انفراج الازمة السياسية المحتدمة الآن بينكم ونائبكم السيد علي سالم البيض الذي عاد من رحلته العلاجية في امريكا الى عدن وليس صنعاء ليعتكف للمرة الثالثة احتجاجا على شروع البرلمان الى ادخال تعديلات دستورية من شأنها الاخلال بقسمة السلطة بين حزبي المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي كونهما شريكي قرار قيام دولة الوحدة اليمنية ، وفشل كل مساعي الوساطة في التوصل الى استعادة القيادة السياسية مصداقيتها ووحدة ارادتها الى الحد الذي ادى الى تعطيل اعمال الحكومة والمؤسسات التنفيذية ومصالح الشعب بالتالي ، بينما طفت على السطح ظواهر سلبية خطيرة تمثلت في تبادل الاتهامات بين الحزبين وتجريح الرموز التاريخية التي صنعت الوحدة، وصحيفتا صوت العمال التي تصدر في عدن و22 مايو التي تصدر من صنعاء شاهد على ذلك ، والاخطر من كل ذلك ان القوات المسلحة ما تزال على حالها منقسمة على صعيد التشكيلات ، وحتى الآن وبعد مضي اكثر من ثلاث سنوات على الوحدة لم تشملها اجراءات الاندماج ، وما يزال لكل جيش عقيدته القتالية وولاءاته السياسية كما كان عليه الحال إبان التشطير واخشى ما اخشاه يا سيادة الرئيس ان ينعكس الخلاف السياسي بينكم ونائبكم على القوات المسلحة عبر الزج بها في محاولات تغليب كفة ميزان القوى لطرف على حساب كفة الطرف الآخر وعندئذ سوف يستحيل تدارك الكارثة بعد اشتعال الفتنة ، وربما استدعى الامر كذلك انتهاز القوى القبلية الفرصة وتأجيج الصراع ودعم نفوذها ووراثة السلطة !الرئيس اليمني بعد ان استمع الى تحليلي وتوقعاتي لم يأخذ مخاوفي محمل الجد..واعتبر رؤيتي نابعة من حرصي على الوحدة فحسب .. ووصف الازمة السياسية بأنها مجرد سحابة صيف مآلها أن تنقشع واكتفى بالتنوير .. ثم استبعد التنوير من النشر ضمن سياق الحوار الذي اجريته معه وقال : اعلم انك سوف تواصل الحوار في المقابل مع الاخ النائب في عدن .. اذن فلتطرح عليه كذلك تحليلك وتوقعاتك ومخاوفك . .في عدن التقيت بالسيد علي سالم البيض في مقر اقامته بجبل المعاشق ، وكان سكرتيره الصحفي قد حاول يتحسس القضايا والاسئلة التي اعتزم طرحها على السيد النائب..لكنني اكتفيت بترديد عبارة “حسب الظروف” وقلت له حتى لو انتهى اللقاء دون طرح اسئلة او تلقي اجوبة .. فسوف اكون راضيا.. ويكفي انني التقيت بصديق تربطني به صلات صحفية ونضالية منذ اندلاع ثورة اكتوبر في مواجهة الاستعمار البريطاني وقال : الحقيقة ان السيد النائب لا يرغب في خوض غمار الازمة السياسية مع الصحفيين ووسائل الاعلام كونها مسألة داخلية .. وربما لذلك بدأ السيد علي سالم البيض عند لقائه به متحفظا .. لكني لم اعدم الوسيلة الى اقناعه بجدوي الحوار ، حيث نقلت اليه تحيات زميلي الكاتب الصحفي جمال حمدي بروز اليوسف الذي كان يرقد في مستشفى جامعة عين شمس إثر سلسلة من العمليات الجراحية الصعبة التي اجريت له بسويسرا ومصر انتهت ببتر ساقه اليمنى .. وعندئذ اكتسى الالم والحزن ملامح وجهه وكلماته وقال : لقد قرأت مقالك الذي كتبته عنه في روز اليوسف بعنوان “الكولونيل جمال حمدي” وحاولت الاتصال للاطمئنان لكن تليفون منزله لا يرد .. ثم روى لي تفاصيل جديدة حول الدور الباسل الذي قام به جمال حمدي حين غامر بنقل 20 طنا من الاسلحة والذخيرة التي تخلفت عن القوات البريطانية في قاعدة قناة السويس وقاد قافلة من مائة جمل حملتها من مدينة تعز في الشطر الشمالي من اليمن الى منطقة ردفان التي شهدت اندلاع ثورة اكتوبر في الشطر الجنوبي وهي القصة التي عرضناها من قبل!