دون أن يتأكد صالح من القادم، والليل يسبح في سواده، تناهت إلى أعصابه قشعريرة باردة من الرعب وهو في محراس قاته، فلم يستطع التحكم بدقات قلبه المرتفعة، فسكب نيران بندقيته على قلب الخطوات وارتفع أنين مكتوم، فهرع إلى مكان الصوت ليجد مفاجأة مقتل صديقه بيديه الخاطئتين.. التفاصيل الدقيقة في سياق التالي: كثير من حوادث القتل تحدث بشكل شبه يومي، والسبب الرئيس في ارتكابها هو شجرة القات الملعونة، التي من الأحرى أن نطلق عليها شجرة الزقوم، وتختلف هذه الحوادث من مكانٍ إلى آخر فالبعض يقتلون في محاريسهم، وهذا كثيراً ما يحدث من قبل اللصوص للاستيلاء بالقوة على أغصان القات، وقد اتفقت بعض المناطق الريفية ذات زمن قريب على أن يقتل الحارس اللص في حالة إذا ما ضبطه في حقله، لكن هذا العُرف تلاشى بسرعة، لأن الخسارة البشرية والمادية ستعود على أصحاب القات، إذ أن اللصوص لا يمكن اكتشافهم في حالة قيامهم بارتكاب الجرائم، كما أن التنازع على ثمن هذا العشب اللعين يؤدي حتماً إلى إزهاق الأرواح، والعديد من المشاكل والطعن بالأسلحة البيضاء، والضرب بالرصاص قد حصلت في الأسواق خاصة، وأدى ذلك إلى فقدان الكثير من الأبرياء لأجسادهم، وتتعدد المشكلات بتعدد محلات بيع القات، ناهيك عن الآلام النفسية والجسدية التي تنتاب المدمن، وتستنزف جيوبه، وتشتت أسرته، وغالباً ما يتردد المثل على ألسنة العامة «القات المطري» «الطازج جُنان، والليل الماء والسيلان» غير مدركين أنه يؤدي حتماً إلى الجنون والإنتحار، والعائد إلى إحصاءات جرائم الإنتحار يجد أن أغلبها بسبب القات، هذا غير حوادث السرقة التي تحدث، ويهدف أصحابها إلى تدبير قيمة القات بأي ثمن، وبأية وسيلة، والمصيبة الكبرى أن صغار السن أضحوا أكثر الشرائح تعاطياً للقات والسجائر والشمة بنوعيها البيضاء والسوداء وكذلك الحشيش والمخدرات. وما يهمنا هنا هو القات الذي تدور جريمة هذا الأسبوع حوله كونه يقتل أعز الأصدقاء و أقرب الأقارب، و«صالح» من الأشخاص الذين لا يحسبون لغدر الزمان وتدابير القدر أي حساب، حيث كان كل همه إعالة أسرته والاعتناء بحقله وتربية قاته وأولاده الصغار، وكان غالباً ما يشقى ويكد في تقليب أرضه وريها بالماء الكثير حتى يحصل على محصولها ويبتاع مشترياته، وكانت تربطه بالكثير من أبناء قريته صداقات قوية ومتينة، وخصوصاً «حيدر» الشاب ذا الأخلاق الطيبة الذي كان إلى جانب مجاورته له في المنزل، مجاوراً له في الحقل، وتكررت الاجتماعات في المقايل الصغيرة والكبيرة، فتقاربت القلوب إلى حد التماهي، فكانوا لا يكادون يقترقون، إلى أن جاء المساء ملبوسًاً بالضباب والمطر والظلام الكثيف، فاستأذن «حيدر» صديقه «صالح» بالانصراف بعد أن خزنا مدة في محراس الأخير، متعللاً بأنه سيذهب للطواف في أشجار قاته والتأكد من أن يد اللصوص لم تمسها بسوء، وبحذرٍ دار في حوله مطفئاً بطارية جيبه، والليل ينذر بالوحشة الرهيبة، وانصرمت ساعة وحيدر ما زال ثابتاً لا يريم، وفي نيته أن يغادر المكان إلى منزله المبتعد عنه بكيلو ونصف الكيلو من المتر، ولما تأكد من خلو المكان وأمانه غادرت أقدامه البقعة بخطواتٍ خفيفة وبطيئة لا تكاد تُسمع، وفي نيته عدم إشعار جاره وصديقه صالح، وعلى أطراف الحقل أحس صالح بوكسات «وقع خطوات» فنادى متأكداً وقد احتمى بجدار حجري، ولم يجبه أحد، فتزايدت شكوكه ومخاوفه معاً، وتخيل المكان مليئاً باللصوص الجبارين، ولم يشعل إتريكه حتى لا يفضح مكانه، وتخيل أنهم قد قضوا على ثمرة عمره ومن العار أن يفعلوا ذلك وهو قائم بالحراسة، حيث ستتحدث عنه المنطقة برمتها موبخةً اياه، ومتهمة له بالجبن والسذاجة، ولن يستطيع أن يقابلهم وجهاً لوجه، الأمر الذي سيجعله رهين عزلته، وثارت حمية الشجاعة والخوف في نفسه، فأزال أمان بندقيته، واطلق زخات رصاصه الحارقة الخارقة على المكان الذي تنبعث منه صدى الأقدام، فارتفع أنين مكتوم أرغمه على الذهاب بسرعة إلى مصدر الصراخ المكظوم، وفي المكان المعلوم سلط كشافة على وجه المقتول، فكانت المفاجأة المجنونة، وكان صديقه ورفيق دربه حيدر، فحاول بيأس إنقاذه، لكن الدماء كانت أغزر من أن يُسد نزيفها، وفاضت الروح إلى باريها، فيما ظل الجسد الممزق مرمياً حتى تجمع الناس حوله، وجاء رجال الأمن لمعاينة مسرح الجريمة.. كان صالح في حالةٍ يرثى لها من السهر والإعياء والحزن والقهر والتعب والإرهاق، فلم يقو على حمل جسده، وأغمي عليه حتى وجد نفسه ما بين عشيةٍ وضحاها يقاسي ألمين مظنيين: ألم قتله خطأً لأعز أصدقائه، وألم انحباسه بين جدرانٍ أربعة.