لم يكن الحوار مع عبدالله الراعي سهلاً، لأن الرجل ظل يخبئ أسراراً طمرتها أحداث مرت عليها 54عاماً، أي منذ اندلاع الثورة اليمنية في السادس والعشرين من شهر سبتمبر «أيلول» من العام 2691م، ولأن الأحداث لا تروى من الذاكرة فقط، بل ومن الوثائق أيضاً، فإن هذا الحوار استمر لعدة أشهر، في محاولة لتوثيق مراحل لم يمط اللثام عنها منذ فترة طويلة، ومحاولة لاستعادة تاريخ يحاول الكثير طمسه ومحوه من ذاكرة الأجيال اللاحقة للثورة اليمنية. الفصل الثالث ماقبل اندلاع الثورة ?تشكل المرحلة الممتدة من 8591 وحتى اندلاع الثورة العام 2691 من أهم المراحل في تاريخ اليمن، كيف هي بالنسبة لك؟ - هذه المرحلة تعتبر بالنسبة لي مرحلة الدسومة في مجال النضال الوطني والثوري القومي، والبدء بمشواري واحساسي الجاد بالمسئولية الوطنية؛ففي هذه المرحلة بدأ الشعور لدي بأنني مسؤول أمام الله ووطني بضرورة أن أساهم في انقاذ هذا البلد:فقد بدأ الشعب الميني يقترب من الانقراض، فعملت على تطوير تعليمي وزدت من تثقيفي، وانتمائي الحزبي هو الذي جعلني أقفز قفزة نوعية، سياسية ووطنية وخلقية وقيمية. وصلت حينها في حزب البعث إلى مرتبة قيادية عليا، كقائد شعبة، أعلى سقف قيادي في تلك المرحلة، وتوسعت علاقاتي بالمثقفين والقوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها وعلاقتي السياسية والاجتماعية، وصارت الساحة اليمنية في تلك الفترة حبلى بالشباب الذي كما قلت لا يعوض، والذين كنا نحن ضباط الثورة والكليات العسكرية، جزءاً منهم، لم نكن نعتبر العمل العسكري والالتحاق بهذه الكليات إلا وسيلة من وسائل التغيير، إذ لم يكن يوجد مجتمع مدني، بل كان المجتمع متخلفاً وكأنه يعيش في القرون الوسطى. هذه النخبة التي بذلت جهداً هي نخبة من الكلية الحربية، الدفعتين الأولى والثانية، الأولى خرجت من المدرسة التحضيرية على أساس عنصري، سيف الإسلام الحسن ابن الإمام يحيى، جميعهم من إخواننا وأعزائنا واحبابنا بني هاشم، إلا فرداً واحداً اسمه محسن الأكوع. ثم أخذ الدفعة الثانية من المدرسة المتوسطة والعلمية والثانوية في مقدمتهم علي عبدالمغني وحمود بيدر وعلي الجائفي، وبعد الانتهاء من الاختيار للكلية الحربية، تم اختيار كلية الطيران التي رأسها الزعيم عبدالله السلال، ومن هذه الدفعة التي التحقت بكلية الطيران يحيى المتوكل وأنا وآخرون، ثم جرى اختيار الدفعة الثانية لكلية الشرطة وهي دفعة محسن العلفي، وسبق هذه الدفع تخرج 3أو4 دفع منذ فترة الشهيد العراقي جمال جميل، منهم حسين الدفعي، محمد الرعيني ،عبدالله الضبي، العميد عبدالله الجائفي وآخرون، كانت توجد كلية الشرطة بتعز، وكان من دفعتها صالح الأشول، أحمد الرحومي، علي السلال، محمد حميد يحيي الرازقي ،مجموعة من خيرة المجاميع التي شاركت في الثورة حينها عقدت أول صفقة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا عام 85، عندما زار البدر موسكو وأوروبا الاشتراكية، الصفقة هي الدبابات 34Tوالمدفعية عيار 021، طائرات “يا ك”و”الزينت” ومدفعية مضادة للطائرات 73ورشاشات متوسطة وخفيفة. ?هل كانت أول صفقة أسلحة للبدر؟ - نعم، جلبها البدر ودفعه الزعيمان عبدالله السلال وحمود الجائفي إلى شرائها، وجاءت عندما قام البدر بزيارته المشهورة إلى موسكو وأوروبا الشرقية، وخلال الزيارة اندلعت ثورة 41 تموز عام 85م في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف؛ فطار البدر ومن معه إلى بغداد للتهنئة بالثورة، حينها كان الشهد الزبيري في القاهرة، وكتب قصيدة رائعة اسمها «ثورة الشعب في بلاد الرشيد»،وطالب العراقيين بأن لاينخدعوا بالزيارة بقوله «واسألوهم عن الشهيد العراقي جمال وأين رأس الشهيد؟»، فقد تم إعدام الشهيد جمال جميل في ميدان التحرير بصنعاء ودفن هناك. ?متى التحقت بكلية الطيران؟ التحقت بكلية الطيران عام 0691م وثابرت في دراستي فيها، وفتح حمود الجائفي مدرسة الأسلحة،وهي أسلحة حديثة جاءت من روسيا ويدرس فيها السوفييت أنفسهم،فاستدعي كافة الضباط اليمنيين وهم خريجو مدرسة الشرطة بتعز وكل الضباط الذين درسوا على يد جمال جميل والضباط الذين درسوا في العراق. أخذوا دورات تخصص،مدرعات 34 T،مدفعية من مختلف العيارات،مدرعات، سيارات مصفحة 4X4،لاسلكي، وفتحت المدرسة، وكانت أكثر إمكاناتها بسلاح المدرعات التي تحركت ليلة الثورة، إضافة إلى بعض الذخائر الموجودة في فوج البدر الذي سمي فيما بعد بفوج التحرير. سافر الإمام إلى روما، وأوكل الأمر للبدر وقد أصبح ولياً للعهد بعد أن تمت مبايعته ونفي سيف الإسلام الحسن إلى الأمم المتحدة، وكانت الأمور كلها بيد البدر بجانب أحمد السياغي والاحرار من بقايا حركة 48 والجيش والحرس الملكي وحمود الجائفي وعبدالله السلال، في هذه الفترة والإمام في روما، حدثت أحداث صنعاء، إذ حدث اندساس من جماعة الحسن، احرقوا القصب الذي كانوا يجمعونه على شكل خيم في مجمع الدفاع الوطني، كانت لاتوجد وسائل إطفاء ولاشيء من هذا القبيل، كان حريقاً كبيراً ومخيفاً، وحينها قال مندس إن من قام بالحريق بيت العمري، وكان القاضي يحيى العمري عاملاً «محافظاً» لصنعاء وابن عمه القاضي عبدالملك العمري وزير القصر كان مع الإمام في روما، ثار البدر وتحرك، كانت ثورة في صنعاء، وخطب خطاباً قال فيه: «نحن لانقبل أن نعيش في الظلام كالخفافيش، قد آن الأوان أن نعيش في النور». انطلق البدر وانطلقنا كلنا في هذه الفترة، حينها كنا دخلنا كلية الطيران وبدأنا نطير على «الزينت» ومدرسة الأسلحة مفتوحة، فيها دفعتان، وكلية الشرطة تعمل على رأسها الزعيم عبدالله الضبي،بدأ النهب لبيت العمري وقادوا أسرة العمري إلى السجن حماية لهم، خرج الجيش ينتقم لما عمله بيت العمري عامل صنعاء، نهبوه، دمروه، دمروا مكتبته وهي لاتعوض، وخاصة في المخطوطات،ودمرت بيوت العمري في «السائلة». بعدها خرج البدر عن ماكان يريد أبوه، توسعت حركة التجديد لدخول اليمن إلى عصر الحداثة، ومد البدر يده لعبد الناصر. ? هل كانت الخطوة من البدر؟ نعم،حتى أعداءه من الحسنيين كانوا يسمونه بعد زيارته لموسكو «الأمير الأحمر» ولن تتصور أنه في ليلة الثورة وعندما انقطع الهاتف عن قصره «دار البشائر» أول مافكر فيه هو رفع سماعة التليفون لعبدالناصر، معتقداً أن عمه الحسن هو الذي تحرك. الإمام أحمد اغاضه ماعمله ابنه البدر،ومن حوله،وكان أحمد السياغي تحرك حركة كبيرة،عاد الإمام وخرج إلى الحديدة،وقال خطبته المشهورة «هذا الفرس وهذا الميدان ومن كذب جرب» وحكم بإعدام الملازم شرف المروني إلا أنه استبدله بالسجن في حجة حتى قامت الثورة عام 26، وسبق هذا الخطاب وحادثة بيت العمري،حادثة بيت الجبري حاكم تعز، وحركة الجيش هذه قادها النقيب عبدالله المقبني بطيبة ثورية دون معرفة أنه اندساس،ولبيت الجبري مشكلة قضائية وخلاف مع بعض العسكر، فكان هذا الخلاف سبباً فتحرك الملازم شرف المروني شقيق الأستاذ أحمد حسين المروني، وحصل أن جرى إعدام كل بيت الجبري،وهو أمر أغضب الإمام أحمد.. نحن تضايقنا بعد عودة الإمام، أوقفنا في كلية الطيران عن الطيران، رحل الخبراء المصريون كلهم من اليمن، خبراء الكلية الحربية،وحدات فوج البدر، الخبراء الذين كانوا يدرسوننا من طيارين ومهندسين، بعد ذلك جاء إلينا خبراء روس، حاولنا التعامل معهم، درسنا مظلات. ?لماذا تم طرد الخبراء المصريين؟ على أساس أن المتحدة هي السبب لكل ماحدث، وأن مد عبدالناصر صار قوياً في اليمن، وأن البدر سلم نفسه لعبد الناصر، وناصر دفعه إلى تلك المحاولات الإصلاحية، فطرد الإمام أحمد الخبراء وحدثت بينه وبين عبدالناصر قطيعة. الفصل الرابع نشوء تنظيم الضباط الأحرار كيف هى رؤيتك فيما يتعلق بتنظيم الضباط الأحرار، كيف بدأت الفكرة والتحركات بصرف النظر عما ورد في الوثيقة؟ نريد أن نعرف الأشخاص الذين دعوا إلى إنشاء التنظيم والتحركات الحقيقية والاسماء لقادة التنظيم؟ - الدافع والحافز لنشوء تنظيم اسمه تنظيم الضباط الأحرار، ذي طابع عسكري بحت، لايمت بأية صلة لأية منظمة مدنية أو حزبية، بسبب التجارب التي مرت بها الحركة الوطنية في الساحة، بداية من الثلاثينيات إلى حركة 84 إلى انقلاب 55، مروراً بالتمردات الشعبية إلى المظاهرات والتمردات الطلابية، وكان آخرها محاولة تنظيم عسكري يدعو إلى إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، وكان أمين سره الملازم عبدالله اللقية، وتفرق هؤلاء الضباط بسبب عدم وجود رؤية شاملة وكاملة لما يريدون القيام به وعدم وجود هيكلة تنظيمية لتنظيمهم. هل كان هؤلاء من خريجي القاهرة؟ - نعم كانوا من خريجي القاهرة، وقد انضم إليهم بعض مجاميع من ضباط الداخل، في حين كنا جميعاً طلبة في الكلية الحربية والبعض منا لم ينته بعد من كلياته: الحربية والطيران والشرطة، ولم يتوفق هذا التنظيم في إعلان نفسه. جاءت محاولة عبدالله اللقية يأساً من عدم الجدوى من قيام أي تنظيم، وبدأ قبل أن يبدأ محمد عبدالله العلفي بالتفكير في الموضوع، وكان اللقية رجلاً نشيطاً وديناميكياً وشعلة من الثقافة الثورية والوطنية، وبدأ يتحسس كل المواقف العسكرية والوطنية فلم يجد جدوى أو مخرجاً لكل المحاولات في حينه، فاتجه التوجه الذي تم، وجاء تعيينه في الحديدة مسؤولاً عن محطة اللاسلكي العسكرية، وهناك التقى زميل له هو الملازم محمد عبدالله العلفي، والعلفي ضابط وطني، مؤمن، وكان مصاباً بمرض في القلب، ظل ملتصقاً باللقية، فهو زميل منذ زمن، قبل أن ينزل إلى الحديدة، وجرى التقارب والتفاهم فيما بينهما، واقتنع كل واحد بأن حياته حالياً هي موت. زادت الإصابة بالمرض لدى محمد العلفي، فتوكل على الله، وحصلت المعجزة التي أنهت أسطورة الإمام التي صورته بأنه لا يقهر، حيث نفذ العملية الشهيدان عبدالله اللقية ومحمد العلفي بمعاونة محسن الهنداونة، وشوهدت الرصاصات وهي تخترق جسد الإمام أحمد وقد اقدموا على تلك المحاولة التي كانت المدخل والدافع الأساسي للتفكير الجدي في موضوع الثورة من عدمها وحتمية قيامها، وقد أصيب الإمام إصابة بالغة جداً، ولو مات في وقته لكان أفضل له، لكن إرادة الله كانت أقوى، فظل عاماً كاملاً يتعذب بعد الإصابة التي أصيب بها من قبل الشهداء الثلاثة قبل أن يتوفى. هل كان خريجو القاهرة قد بدأوا يتحركون لإنشاء تنظيم؟ وهل تمت تسمية هذا التنظيم أم لا؟ - بدأوا يتحركون لإنشاء تنظيم بشكل جدي؛ فقد بدأوا يشعرون بعد عودتهم من القاهرة بحماس وفعالية ثورية بعد ثورة 32يوليو، وكلهم طلائع جيدة، كانوا يجتمعون دائماً في منزل النقيب لطف الزبيري، منهم النقيب علي سيف الخولاني،وعبدالله المقبلي. هذا التجمع كان لابد أن يكون له تسمية، فقط كان ينقص أصحابه الرؤية حول ماذا يريدون؟ وماهي أهدافهم؟ كيف يتوجهون؟ وكيف يبنون التنظيم؟. الهيكلة التنظيمية كانت غائبة، واللقاءات كانت عفوية، بحكم أنهم كانوا خريجين وأصدقاء،ولقاءاتهم كان فيها طابع الصداقة والزمالة والثقة، حتى حصلت بعض التصرفات التي كانت تخرج من هنا وهناك، فتم حل التنظيم فعلياً، قبل أن يقعوا في فخ من الفخاخ. ? هل كان مقر هذا التنظيم في صنعاء؟ - كانت البداية في صنعاء. ?هل كانت هذه مقدمة أولى لنشوء تنظيم الضباط الأحرار؟ - هذه الأجواء كانت قبل أن يقوم عبدالله اللقية بمهمته، لم تكن مقدمة لتنظيم الضباط الأحرار، الحافز الأساسي لنشوء تنظيم الضباط الأحرار، هو حركة عبدالله اللقية ومحمد عبدالله العلفي، أي محاولة قتل الإمام وبالذات فشل هذه المحاولة، فقد ثبت عند الطلائع النخبوية من الضباط الواعين والمثقفين أن العامل الفردي لا يجدي حتى ولو نجح. ?لو نجح عبدالله اللقية ومحمد العلفي في قتل الإمام، كيف كان سيتم التعاطي مع الموقف وكل سيوف الإسلام والأمراء أحياء بالإضافة إلى ولي العهد البدر؟ كيف كانت ستتم السيطرة على الموقف واليمن في حالة حرجة وصعبة؟ - كان الهدف واضحاً، هو إسقاط الإمام واغتياله بأي شكل من الأشكال باعتباره رمزاً للمعاناة وحجر عثرة أمام أي تقدم أو تطور لهذا البلد،وإزالة الإمام أحمد شخصياً، كان هدف الكثيرين ، وهكذا كان التصور بالذات عند القية وزميليه العلفي والهندوانة، أي الرغبة في القيام بأي شيء ، هنا جاءت الجدية لدى بعض الشباب من الضباط، والتأكد من أن العمل الفردي لا يجدي، العمل الارتجالي دون رؤية فكرية وتنظيمية لايجدي، وكان لابد من تنظيم وسور حديدي من السرية ، ولابد من أهداف معروفة وواضحة حول ماذا نريد؟ وكان هناك تفكيراً جديآً لبناء التنظيم. هذه كانت خواطر عند بعض الإخوان كزملاء، أتذكر منهم الملازم علي بن علي الجائفي والملازم محمد الشراعي والملازم علي عبدالمغني وغيرهم من الإخوان، وتجمعت كل هذه الخواطر في فكرة واحدة، وانتقلت من أفراد محدودين إلى مجموعة ، وبدأت في تكوين تنظيم الضباط الأحرار، بداية بلجنة من نخبة وهي اللجنة المكونة من ال51الدعاة، أو اللجنة التأسيسية، بعدها جاءت القاعدة التأسيسية، بعد أن اكتملت الهيكلية التنظيمية للضباط الأحرار، فكانت دعوة الضباط ال51إلى الاجتماع الذي تم في منزل الملازم عبدالله المؤيد. ?في أي تاريخ كان هذا؟ - كان في 1691، ومكتوب بالضبط في الوثيقة.