سبحانك منان أنت: مننت بتكوينك على من لم يكن، بقولك له: يا أيها العدم كن. ومننت بالأرزاق، الواقعة لكل مرزوق بالإنفاق، وبسطت بالإنفاق، ولم تقبض خشية إملاق. ومننت بالهداية للضالين، وبالتفقه على الجاهلين، فأصبح خواصهم بك عالمين، وبطاعتك عاملين، ومن تمام إحسانك إليهم ومنتك، وعدك أن تنقلهم إلى رياض جنتك. سبحانك صادق أنت: الصدق كلامك الأزلي، الناطق بالبرهان الواضح الجلي، الذي ليس عليه في الإيضاح مزيد[لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد] يتوارثه الصادقون عن الصادقين، ويرويه الناطقون عن الناطقين، يتنزه عن مقالات الفاسقين، ويتقدس عن تأويلات المارقين، بتمييز آراء الجهابذة السابقين، الفاتقين بالحكمة عن الحكمة والراتقين، العلماء بالرحمن وما يرد منه، والخبراء بالشيطان وما يصدر عنه. لا تتغشى ظلم الجهل قلوبهم، ولا يلج الشيطان أوديتهم ولا شعوبهم، وذلك لما اتقوا محبوبهم، جعل لهم فرقاناً عرفوا به عيوبهم، فتركوا ما يريبهم إلى ما لا يريبهم، فلا تقبل قلوبهم إلا الصدق وإن كان خفياً، ولا تأبى إلا الكذب وإن كان جلياً. سبحانك وارث أنت: إذ أنت الملك الأول، يتحول كل ملك وملكك لا يتحول، استخلفت عبادك على أرضك استخلافاً، وجمعتهم على موائد رزقك فيها أضيافاً، فكل أضاف بالتملك إليه، ماجعلته مستخلفاً عليه. فلما ظهر منهم ذلك، وأساءوا تصرفهم في مالك، وجهلوا أنك أنت المالك، عزلتهم عزلاً سريعاً، وأمتهم موتاً ذريعاً، ورددتهم إليها بعد ماكانوا عليها، أفلا يعون من كلامك مايسمعون:[إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون]. ثم ورثت الأفعال والأقوال، أدناها وأقصاها، في واضح كتاب[لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها]. سبحانك باعث أنت: بعثت البعثة الأولى، في المدة الأزلية الطولى. بعثت الأرواح، المنبثة في زجاجة المصباح، الفائضة على مشكاة الأشباح، ثم هديتها إلى الصلاح، وألهمتها مناهج الفلاح، إلى أجل معلوم وحد محتوم. ثم قرنت الأرواح الإنسانية بالأجسام الطينية، وأنزلت عليها الكتب الشرعية والأحكام الدينية، فمنهم شقي وسعيد، أمتهم على ذلك إلى يوم الوعيد. ثم تبعث البعثة الأخرى، لمجيء الطاقة الكبرى، بعثة الأشباح المتفرقة الأعضاء، المتباينة الأوصاف والأجزاء، فتجمعها كما فرقتها، وتعيدها كما خلقتها، ومن بديع صنعك وحكمك الباهر العجاب، بعثك إياها لحماً خالصاً من التراب، ومنها أكلت السباع والكلاب، وطارت به الحدأة والغراب، ثم مات أولئك وأكلهم مثلهم من الدواب، وكل ذلك عن نظرك ما غاب، ولا توارى بحجاب. فإذا نفخ في الصور نفخة الجمع، فكأنما ينفتق لكل صغيرة وكبيرة منها سمع، فتتجاذب الأعضاء إلى الأعضاء، وتأتلف الأجزاء بالأجزاء، من جهات شاسعة شتى، فما هو من هذا لا ينجذب إلى هذا، [فإذا هم قيام ينظرون] على مثل صورهم التي ماتوا عليها يحشرون. سبحانك بر أنت: بعبادك الضعفاء، وإن بدت منهم القسوة والجفاء، تطعمهم وتسقيهم، وتمهلهم وتبقيهم، وتمنحهم وتؤتيهم، ويكافئونك بمعاصيهم. فسبحانك يغضبونك وترضيهم، ويمنعونك وتعطيهم، ويقطعونك وتأتيهم، ألم يعلموا أنك باريهم، وبائعهم وشاريهم. سبحانك معلم البر الأبرار، المان به على المصطفين الأخيار، والضان به على الظلمة والفجار والكفار، لا تخلو من لطائف برك، سابحة في بحرك ولا سائحة في برك، ولا ظاهرة في جهرك، ولا باطنة في سرك. سبحانك فتاح أنت: فتحت الأبواب المغلقة، بكل خير ومرفقة، وبكل بر وشفقة، وبكل معروف وصدقة، من منافع الدنيا والدين، فالخلائق بأبوابك والمساكين، هذا يتضرع وهذا يستكين، وهذا يسترزق وهذا يستعين. سبحانك فتاح الأمور والقضايا، على جميع الأمم والبرايا، طوراً بالنعم وطوراً بالبلايا، ذلك قسطك وعدلك في الرعايا. سبحانك فتاح العلوم النافعة، على القلوب الخاشعة الخاضعة، فإذا هي طائعة راجعة، لما خفضت خافضة، ولما رفعت رافعة. سبحانك مبدي أنت: مبدي ومعيد، وموجد ومبيد، أنت البادئ بذاتك لذاتك، قبل ظهور أنوارك وأسمائك وصفاتك، فلما أردت إبداء صور العبيد، وكل مشهود من الخلائق وشهيد، تصورت صاغرة كما تريد، لم تنقص عن مرادك ذرة ولا تزيد، وعلى ذلك نشهد أنك لما بدأت تعيد، ونستشهد بكلامك المنزه المفيد: [أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد] يوم ينفخ في الصور [ذلك يوم الوعيد] تعيد الشقي للشقاء والسعيد للمزيد، لايشك في ذلك عاقل ولا بليد، ولا الشيطان المتجاهل المريد، بشاهد قوله الخبيث الملعون: [رب فأنظرني إلى يوم يبعثون]. فعجباً لعبادك الذين لا يعقلون، أيوقن شيطانهم بالمعاد وهم يشكون، ويثبت البعث والقيامة وهم يمترون: [لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون].