لم يكن ابن قيم الجوزية فقيهاً فذاً فقط، ولكنه كان أيضاً عالماً عميق المعرفة بمجالات أخرى قد لايعرفها الكثيرون،ويشهد له في ذلك كتابه الفريد «تحفة المودود بأحكام المولود» وقد تضمن هذا الكتاب سبعة عشر بابا يحتوي كل باب على فصول عديدة تتحدث عن مواضيع شتى في طلب الأولاد ومعاملتهم وتربيتهم وتسميتهم وختانهم وتأديبهم والأحكام الشرعية والآراء المتباينة حول ذلك، أما الباب الأخير فيتحدث فيه ابن القيم الجوزية عن أطوار بنى آدم من وقت كونه نطفة إلى استقراره في الجنة أو النار ويمكننا أن نقسم مواضيع هذا الباب إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: ويتحدث فيه عن أصل النسل وكيفية الاخصاب والعلوق. القسم الثاني: ويذكر فيه أطوار الجنين واستمرار الحمل. القسم الثالث: ويتعرض فيه إلى معاملة المواليد الحديثة فالرضيعة ثم اليافعة فالبالغة التامة النمو. ففي القسم الأول: لقد سبق ابن قيم الجوزية العلماء الأوربيين المتأخرين في وضع نظرية تقول بأن بداية النسل تنشأ عن اجتماع ماء الرجل ونعني به السائل المنوي مع ماء المرأة ونعني به البويضة ولقد وقع كثير من العلماء المتأخرين لعصر ابن قيم الجوزية في أخطاء شنيعة عندما حاولوا تفسير عملية الاخصاب ونشوء الجنين قبل أن يصلوا إلى الحقيقة الساطعة التي وضعها ابن قيم الجوزية قبلهم بما يقارب أربعمائة عام. فقد قال بعض من هؤلاء العلماء مثل «هارلسيوكر» بأن الإنسان والحيوان يتشكل بصورة نسخة مصغرة وكاملة تماماً حتى قبل إبتداءً نموه وتطوره، أما تطوره فهو عبارة عن عملية نمو ليس إلا وتضخم للكائن وكبر في أعضائه الملتفة حول بعضها البعض ومثل هذه الفكرة أخذت تسمية الخلق السبقي Pre formism وهي تزعم بأن جميع أعضاء الجنين موجودة وجوداً سبقياً في البويضة وكذلك ذكر «سوامردام» الهولندي في القرن السابع عشر عندما فتح شرنقة ووجد فيها حشرة ناضجة ومكونة تماماً بأن الفراشة موجودة وكامنة في داخل اليرقة أو حتى في داخل البيضة بينما نجد ابن قيم الجوزيه عند عرضه لهذا الموضوع قائلاً بالرأي السديد، فيقرر النظرية الصائبة عن أصل المتشكل الصحيح للكائن الحي الا وهو اتحاد نطفة الذكر ببويضة الأنثى. ولد أم بنت إذن يذكر ابن القيم بأن في نطفة الرجل حيواناً صغيراً يضم عناصر من أجزاء الجسم كله وكذلك أعلن بأن في بذرة الأنثى مثل ذلك وعلى هذا يحدد مسئولية الذكر والأنثى وأشتراكهما في تكوين جنين الإنسان ويؤيد دعواه ببراهين شرعية وعملية فمن البراهين الشرعية حديث أم سلمة مع الرسول «صلى الله عليه وسلم» واجابته لها «تربت يداك فيم يشبهها ولدها» ومن حديث أخر أجاب فيه الرسول «صلى الله عليه وسلم» اليهودي عن سؤال مم يخلق الإنسان؟ فقال ( من كل يخلق من نطفة الرجل ونطفة المرأة ) أما البرهان العلمي الذي يبرزه ابن قيم الجوزية كدليل على مسئولية الذكر والأنثى في تكوين الولد فهو مشابهة الولد لأمه كمشابهته لأبيه، وأنه لو لم يكن للمرأة شأن أو دور لما شبه بها ولدها ويؤكد على ذلك بقوله «واما الرجل وحده فلا يتولد منه الولد مالم تمازجه مادة أخرى من الأنثى» وبديهي أن المادة الأخرى من المرأة هي البويضة ومن هذا المعنى يجب أن نعيد إلى صاحب هذه النظرية حقه في الابداع والابتكار لا أن ننسبها إلى العلماء الأوروبيين المتأخرين. تشكل الجنين بكل أطواره القسم الثاني في أطوار الجنين واستمرارية الحمل فقد قام بن قيم الجوزية بتحليل كيفية تشكل الجنين بأطواره المتعاقبة بشكل يضاهي في دقته أبحاث العلماء في العصر الحديث في هذا المضمار فهو يذكر تشكل العلقة ثم المضغة ويصف المضغة على أنها قطعة لحم تمكث أربعين يوماً تقدر فيها أعضاء الجنين وصورته وشكله وهيئته ويذكر ابن قيم الجوزية اختلاف الآراء حول أي من الأعضاء يبدأ بالشكل: القلب أم الدماغ أم الكبد ويبرز حجج كل رأي حول ذلك وأما ابن قيم الجوزية فيقول «فليس عندهم دليل إلا الأجدر والأنسب والأوفى والقياس ثم يذكر ابن قيم الجوزية كيفية تشكل المفاصل والأعضاء والعظام والأعصاب وأجهزة السمع والبصر والفم وكيفية فتق الأعضاء بعد أن تكون رتقاً، ومن ثم يركب اللسان ويخطط شكل الجنين وصورته وتكسى العظام باللحم ويربط بعضها إلى بعض أحكم رابط وأقواه وهو الأسر الذي جاءت به الآية الكريمة «نحن خلقناهم وشددنا أسرهم» ويعرض ابن قيم الجوزية لآراء ابقراط حول سهولة اسقاط الجنين في الأربعين يوماً الأولى فيوافقه على ذلك ويضيف معلوماته عن الأغشية الجنينية ويقول بأن وجود الجنين «ويقصد به البرعم الجنيني هنا» ضمن الحجاب «أي الأغشية الجنينية» وأنه يتغذى من الدم الذي يجتمع من المرأة وينزل إلى الرحم أو مايسمى حالياً بالحبل السري وقال ابن قيم الجوزيه أن الطمث لاينحدر مادامت المرأة حاملاً إن كان طفلها صحيحاً وذلك من أول شهر من حملها في الشهر التاسع، ولكن جميع ماينزل من الدم من البدن كله يجتمع حول الجنين على الحجاب الأعلى مع اجتذاب النفس، والسرة طريق وصوله إلى الجنين فيصل الغذاء إليه ويغذيه ويزيد ويتابع ابن قيم الجوزية عرض تشكل أعضاء الجنين فتكلم عن تصلب العظام بالحرارة وانفتاح الفم وثقب الأذنين ثم العينين وامتلائهما بالرطوبة الصافية ويذكر هنا أن الأذنين تتقدمان العينين في الوجود وكذلك يتحدث ابن قيم الجوزية عن استمرارية الحمل فيذكر أن الولادات تقع فيما بين الشهر السادس إلى العاشر وأما مادون السادس فلا يعتبر ولادة بل سقطا. ثم يتعرض ابن قيم الجوزيه لموضوع موت الجنين إذا كان عمره ثمانية أشهر وامكانية عيشه إذا كان عمره سبعة أو تسعة أو عشرة ويتكلم عنه بكلام الخبير المدقق ويقول «إذا أتم الجنين سبعة أشهر عرض له حركة قوية بتحركها بالطبع للانقلاب والخروج فإن كان الجنين قوياً من الأطفال الذين لهم بالطبع قوة شديدة في تركيبهم وجبلتهم حتى يقدر بحركته على أن يهتك مايحيط من الأغشية المتصلة بالرحم حتى ينفذ ويخرج منها خرج في الشهر السابع وهو قوي صحيح سليم لم تؤلمه الحركة ولم يمرضه الانقلاب وإن كان ضعيفاً فهو إما أن يعطب بسبب مايناله من الضرر والألم بالحركة للانقلاب فيخرج ميتاً. وأما أن يبقى في البطن فيمرض ويلبث مدة في مرضه نحو أربعين يوماً حتى يبرأ وينتعش ويقوى فإذا ولد في حدود الشهر الثامن ولد وهو مريض لم يتخلص من مرضه فيعطب ولايسلم، وإن لبث في الرحم حتى يجوز هذه الأربعين يوماً إلى الشهر التاسع قوى وصح وانتعش وبعد عهده بالمرض كان حرياً أن يسلم، وأولاهم بأن يسلم أطولهم بعد الانقلاب لبثاً في الرحم وهم المولودون في الشهر العاشر وأما من ولد بين التاسع والعاشر فحالهم في ذلك حسب القرب والبعد ويقول أيضاً:« ويدلك على ذلك أنك تجد جميع الحوامل والحبالى في الشهر الثامن أسوأ حالاً وأخص منهن في الشهور التي قبل هذا الشهر وبعده، وأحوال الأمهات متصلة بأحوال الأجنة». عندما يبكي الطفل القسم الثالث من الكتاب: في معاملة المواليد الحديثة والرضيعة واليافعة وهنا يتابع ابن قيم الجوزية شرحه الدقيق فيتحدث عن بكاء الطفل ساعة ولادته وأن ذلك دليل صحته وقوته وشهرته فيقول:« وإذا وضع الطفل يده وإبهامه أو أصبعه على عضو من أعضائه فهو دليل على ألم ذلك العضو ويتابع ابن قيم الجوزيه وصفه لحالة الطفل الرضيع فيقول:« فإذا تم له أربعون يوماً تجدد له أمر آخر على نحو ماكان يتجدد له وهو في الرحم فيضحك عند الأربعين، وذلك أول مايعقل نفسه فإذا أتم له شهران رأى المنامات ثم ينشأ معه التميز والعقل على التدريج شيئاً فشيئاً إلى سن التمييز وليس له سن معين بل من الناس من غير الخمس ويذكر ابن قيم الجوزية حوادث لحالات تمييز نادرة جرت قبل سن الخمس سنوات.