صعد إلى سطح العمارة المكونة من عشرة طوابق .. كان ورق كثير يعبر مخيلته .. فكر : أنا في السماء الآن ، ولا أحد يستطيع مهما امتلك من ورق أن يثنيني عن قراري كشاة مريضة ثغت الذاكرة ناثرة في الفضاء الفسيح أمامه نتفاً من شريط حياته : كان أول شيء فعله أبوه بعد ولادته أنْ سجل اسمه في ورق .. وحين قرر ادخاله المدرسة الابتدائية بعد بلوغه السادسة طلب مدير المدرسة “الورق” كشرط للقبول .. وفي المدرسة كان المعلمون يحشون رأسه بورق كثير ما يلبث أن يخرج من فتحة أخرى في رأسه ، ومع هذا كان حريصاً على إسعاد والده ب«ورقة» كبيرة يحملها اليه نهاية كل عام دراسي .. طوال فترة طفولته لم يجد لعبة يلهو بها سوى طائرات “ورقية” يصنعها من ورق المدرسة ويطيرها في الفضاء كحمامات منتشية بالحرية .. ولم يكن ليجرؤ أن يطلب من والده الدراجة الهوائية التي طالما سهر الليالي حالماً بها لأنه يعلم أن والده لم يكن يملك “الورق” الكافي لشرائها . عندما دخل الجامعة كان قد وصل إلى مرحلة عمرية تتيح له انتقاء الورق الذي يريد له أن يدخل رأسه ويرفض الورق الآخر الذي لا يعجبه .. ولم يكن الأمر ليمر بهذه السهولة .. فقد قبض عليه رجال الأمن بتهمة توزيع “الورق” الهدام .. ولم ينجّه من قبضتهم سوى إمضائه على “ورق” بعدم تكرار فعلته التي لم تفلح محاولاته لإقناعهم بأنه لم يقترفها .. وعندما تعرف على حبيبته لم يستطع بسبب خجله الشديد أن يبوح لها بحبه سوى على ورق ..وحين بادلته الورق بالورق كاد يطير من السعادة ، لكنه لم يكن ليجرؤ على مفاتحتها بطلب الزواج لعدم توفر “الورق” اللازم لذلك. بعد أن تخرج من الكلية كان عليه أنْ يطيّر “ورقاً” كثيراً لأكثر من جهة بحثاً عن عمل ..وبعد لأي ، قُبل في وظيفة “كاتب ورق” في إحدى المؤسسات الحكومية . وكم كانت فرحته عظيمة حين استلم آخر الشهر أول رزمة من “الورق” في حياته .. اشترى هدية ثمينة لحبيبته وغلفها ب «ورق». وللمرة الأولى منذ سنوات جرؤ على طلب يدها .. كان عليهما في البداية أن يذهبا إلى المأذون الشرعي ليسجل زواجهما في “ورق” . لكن هذا الزواج لم يكن ليدوم طويلاً بسبب تطلعات الزوجة للورق الذي لم يكن يملك منه الكثير ، خاصة وأن “الورق” الذي يأخذه نظير عمله يذهب لسداد “ورق” البنك ، و«ورق» الكهرباء ، و«ورق» الماء ، وغيرها من الأوراق الماحقة لبركة الورق .. ولعل “الورقة” التي بعث بها مضطراً وحزيناً ويائساً إلى زوجته التي أصرت على الطلاق كانت القطرة التي أفاضت كأس الصبر لديه . فقد حزم أمره وقرر وضع حد للحياة “الورقية” التي يعيشها . ذهب إلى المؤسسة التي يعمل بها وقذف في وجه المدير ب «ورقة» صغيرة خرج بعدها إلى الشارع لا يلوي على شيء . وحين عاد إلى شقته الواقعة في العمارة المكونة من عشر طبقات عبأ جيوبه بكل ما يستطيع حمله من “ورق” وصعد إلى سطح العمارة . هناك فكر : أنا في السماء الآن ولا أحد يستطيع مهما امتلك من ورق أن يثنيني عن قراري. في صباح اليوم التالي كُتب ورق كثير عن الرجل المجنون الذي انتحر ، والذي وجد من ضمن الأوراق الكثيرة في جيوبه وصيته التي كتبها في وريقة صغيرة : “ احذروا الورق”