نحاول- في هذه القراءة - الإجابة عن السّؤال الآتي: هل ثمّة قطيعة حقيقيّة بين المبدع والمتلقّي في الواقع الإبداعيّ والثّقافيّ العربيّ؟ وإذا كان ثمّة قطيعة حقيقيّة فما أسبابها الحقيقيّة؟ وما دور المناهج النّقديّة المعاصرة في هذه الأزمة القطيعية؟ هل أسهمت هذه المناهج في حلحلة هذه الأزمة؟ أي في ردم الهوّة القائمة بين المبدع والمتلقّي؟ أم أنها - بالعكس- قد أسهمت في تأزيم هذه العلاقة؟! وما السبيل لتجاوز هذه الأزمة؟! -1- وفي محاولة الإجابة عن السّؤال الأوّل المتعلّق ب«أزمة الإبداع العربيّ المعاصر» يمكن القول: إنّنا نعتقد أنّ ثمّة أسباباً ذاتيّةً وموضوعيّةً (تاريخيّةً) ناجمةً في جملتها عن وضع المبدع العربيّ في السّياق الاجتماعيّ أو التّاريخي، أي في سياق علاقته بالآخرين، بالإضافة إلى علاقته باللّغة، وهي تمثّل في جملتها، واحدة من أهمّ الأسباب الحقيقيّة التي نعتقد أنهّا قد أدّت إلى تلك الأزمة القطيعة، وبخاصّة بالنّسبة لشعراء الحداثة الرّواد. على أنّا نعتقد أنّ ثمّة أسباباً أخرى متعاليةً على التّاريخ، أي على الوضع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ للمبدع العربيّ، وهي، في جملتها، أسباب ثقافيّة إيديولوجيّة أو فكريّة ما انفكّت تدفع المبدع إلى التّعالي على المخاطَب العربيّ، ورفض الانفتاح عليه أو التّعامل معه. ويمكننا أن نجمل هذه الأسباب في الآتي: -1- اختلاف سياق الإبداع عن سياق التلقّي: وهو اختلاف ناتج، في الأساس، عن اختلاف سياق التّلقي عندنا، عن سياق الإبداع عند الآخر، أو بالأحرى اختلاف سياق المبدع العربيّ عن سياق المتلقّي العربيّ؛ باعتبار أنّ لكلّ همومه ومشكلاته، أي باعتبار أنّ سياق المبدع العربيّ لا يزال هو سياق الحداثة أو التّحديث، ما يعني أنّ هموم المبدع غير هموم المتلقّي، وثقافته غير ثقافته، فهذا له همومه وثقافته، وذاك له همومه وثقافته، وطرائقه المختلفة والمكتسبة من ثقافة الآخر؛ تختلف عن الطّرائق والسّنن والتّقاليد التي تعوّد عليها المتلقّي العربي(i ). ما يعني أنّ سياق الإبداع العربيّ، قد غدا عند الكثير من مبدعي الحداثة، سياقاً ثقافيّاً في الأساس (همّ الشّاعر فيه همّ ثقافيّ إبداعيّ أكثر منه همّ اجتماعيّ أو تاريخيّ) في حين بقي سياق التّلقي العربيّ سياقاً اجتماعيّاً تاريخيّاً بامتياز، ما أبرز الكثير من النّصوص الإبداعيّة المنتجة في سياق الإنتاج الثّقافي الحاصل، نصوصاً متعاليةً على منطق الواقع، ومتجاوزة لشروط التّاريخ، أي بوصفها نصوصا فوق «زمانيّة» و«فوق مكانيّة»? «فوق تاريخيّة». ومن هنا سرّ غربتها عن عالم المتلقّي الذي التبست عليه مثل تلك النّصوص، على نحو لم يعد يستطيع معه هذا المتلقّي أن يدرك- على حدّ تعبير أحد الباحثين العرب(ii) - لا منطقَ وصلِ هذه النّصوص بما هو مألوف، ولا منطقَ فصلها عمّا هو مألوف؛ وذلك بحكم أنّ هذه النّصوص قد غدت تجاري أنموذجاً في التّجربة الإبداعيّة أو الشّعريّة الكونيّة، هو أنموذج التّجربة الغربيّة الذي تولّد عن تحوّلات وصراعات في نظرية الأدب، كثيرة عميقة، واتّصل بفلسفات عمّقت مجراه، ومكّنت له في الحداثة، بما سمح له أن يخرج عن الإرث التّاريخيّ الذي يثقله بما يرسم عليه من سنن، ويعلق به من تقاليد، الأمر الذي جعل همّ الكتابة الأوّل، هو قتل الأدب (سلطة القديم) وإفراغ الأشكال (الأدبيّة) من تاريخها، وإقصاء كلّ معنى لصق بها من انخراطها في التّاريخ، وارتباطها بالذّاكرة الثّقافيّة، وذاكرة الفعل الجماعي(iii) . فلقد تغيّر في الغرب الإطار النّظريّ الذي يمارس خلاله فعل الإبداع، بشكل حاسم، تغيّراً تراجعت بموجبه الحدود الفاصلة بين أجناس الكتابة، وقام النّص بديلاً عن الأنواع، جامعاً لمختلفها، مؤسّساً لفضاء تنتهي إليه مختلف الأشكال، وتنمو في أرجائه كلّ المواقف والتّصوّرات، ولم يعد بالإمكان وضع التّعريفات والحدود، وأصبح الإنسان لا يستطيع أكثر من الإشارة. إنّه يصعب اليوم في الآداب الأوربيّة، تعريف الشّعر، ووضع الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الفنون الأخرى(vi). وإذا كانت ثقافتنا العربيّة بعامّة، لا تزال بمعزل عن تيّارات الإبداع الغربيّ التي أنشأتها ضرورات الحياة الغربيّة نفسها، فكيف لنا نحن الذين لا نزال نعيش حياة أخرى، أن نتمثّل تجارب في القول تطمح إلى الدّخول في تلك المدارات، دون أن نكون قد هيّأنا السّياق الثّقافي والحضاريّ الذي يحتضن تلك التّجارب. نعم إنّ كثيراً من الأشياء قد تغيّرت فينا أو في عالمنا المعاصر، وتغيّرت بعمق، حتى لتبدو وكأنهّا لم يعد لها صلة بما كانت عليه في عالمنا القديم، وأحياناً في الغرب، ممّا يتجاوز بداية القرن، لكن التّغيّر الحاصل في عالمنا ليس بالقدر الكافي الذي يسمح لطموح الكتابة عندنا أن تبدأ من حيث انتهى النّموذج/المرجع عند الآخر؛ فليس من اليسير فصل القارئ العربيّ، عن سياقه التّاريخيّ، عن مرجعيّة القراءة، أو عن سننه في التّعامل مع النّص، وإقناعه بجماليّة أخرى لم يدرك بعد كنهها، ولم يستعدّ بعد لقبولها أو التّفاعل الايجابيّ معها؛ فالخروج عن نظام اللّغة/الكتابة/القراءة، أو على الأصح عن علاقة اللّغة بالأشياء المؤسّسة لتصوّره لعمليّة الكتابة عامّة، وعمليّة الكتابة الإبداعيّة بخاصّة، محرجٌ، مربكٌ، مدخلٌ إيّاه في شروط إنتاج معنى لا يتبيّنها، ومن ثمّ، تراه أميل إلى دفعها، والإعلان عن غرابة مراسمها، فإذا أضفنا إلى ذلك، انهيار النّظام الإيقاعيّ المؤسّس(في وعينا)منذ أربعة عشر قرناً خلت أو ما يزيد لموسيقى الشّعر التي عرفها المتلقّي العربيّ، وعدم توصّل التّجربة الشّعرية الجديدة إلى رسم معالم النّظام(الإيقاعيّ) البديل الذي جاءت هذه التّجربة لتقنع به، وتدافع عنه(v) سهل علينا معرفة سرّ عزوف المتلقّي العربيّ عن التّواصل مع هذه النّصوص. على أنّه يجب الإشارة هنا إلى أنّ كلامنا هنا، إنمّا يتعلّق بتجارب الشّعراء الرّواد؛ أصحاب التّجارب الواعية والنّاضجة، في الوقت نفسه، لا بتجارب بعض الشّعراء الشّباب الذين حذوا حذو أولئك الشّعراء، ونسجوا على منوالهم، رغبةً في إبداع الجديد المختلف، مع عدم قدرتهم عليه، نظراً لعدم امتلاكهم أهمّ شروط الإبداع الجديد، والمتمثّل في امتلاك لغة جديدة، أسلوب جديد في الكتابة، لاسيّما بعد أن غدت لغة الإبداع الجديد(وهي في جملتها لغة رمزيّة) تفرض نفسها على الجيل الجديد، بطريقة آليّة تسلطيّة قمعيّة، أي بما هي أداة جاهزة لقول الجديد المختلف، أو بما هي شرنقة جاهزة لإخفاء حالة العجز عن مقاربة الجديد الحقيقيّ. ما أحال الأزمة في النّهاية أزمةَ إبداعيّةً ثقافيّةً؛ أزمة إمكانات لغويّة وإبداعيّة في المقام الأوّل، فاللّغة-وأعني بها لغة الإبداع الجديد-في وعي جيل الشّباب من المبدعين العرب، قد صارت جاهزة مهيّأة لاستقبال عمل المبدع، وما عليه إلاّ أن يأخذ منها ما يشاء، ليركّب منها أو يصوغ ما يشاء، لذلك فهو تارةً يصوغ منها قصيدةً، وتارةً يبني منها قصّةً، أو روايةً أو مسرحيّةً، وهكذا صارت المسألة إذن سهلة، وفي متناول الجميع، لاسيّما مع ظهور دعوات لإلغاء كلّ الحدود، وإزالة كلّ الفواصل التي ظلّت تفصل بين أجناس القول، وأنواع الفنون، وصار التّمرّد شعار العصر. ومن هنا يمكن القول: إنّ الإبداع العربيّ الجديد يمثّل حالة المثّقف العربيّ، المنتج للثّقافة والآداب والفن، والمغترب، في الوقت نفسه، عن عالم إنتاجه؛ لأنّه ينتجه، في الأغلب الأعمّ، تحت وصاية سلطة قد يتجاوب معها، فيتوقّع منها الاستجابة لخطابه، وقد يتعارض معها، فيكون اصطدامه بها مفسّراً كافياً ومبّرراً، في الوقت نفسه، لعزلته عن الجماهير، وانفصاله عن الإسهام في تحديث وعيها (iv) (iIv) . - 2 - وهذا يقتضي أنّ من أهمّ أسباب القطيعة انطلاقاً ممّا سبق: - اختلاف موقع المبدع( العربيّ) عن موقع المتلقّي؛ فالمبدع ينطلق في كتابة النّص من موقع محدّد هو الموقع الانطولوجيّ، والبحث عن جوهر الفنّ، لذلك فهو ما ينفكّ يحاول أن يقترب من مآتيه، ويقف على أصل انبعاثه. أمّا المتلقّي فينطلق، في عمليّة تلقّيه للنّص، من موقع انتمائه إلى الواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ، من جهة، ومن موقع انتمائه إلى نصوص الكتابة/القراءة السّابقة في الوجود على وجوده، من جهة ثانية، ولذلك فهو ما ينفكّ يحاول أن يبحث في النّص الحديث عن أثر، ويترسّم عن وظيفة، أو هو يبحث عن مناسبة تعقد الصّلة بين نظام نصّ الكاتب، ونظام نصّ القارئ، ويحرّك فهمه الماقبليّ، وذاكرته النّفعيّة، لتقرّر معنى، وتشتقّ نصّاً من نصّ. والقارئ من أيّ موقع تحرّك، يهمّه المعنى، ويهمّه تأويل العلامة، وإدراك ما وضعت لتدلّ عليه(iiiv) ولا يهمّه البتّة ما كان قد أهمّ الكاتب حين كتب. ومن هنا رأينا الشّعراء الجدد يتبنّون الدّعوة إلى ضرورة خلق قارئ جديد، لا يقرأ شعرهم بذائقة قديمة(xi). - 3 - وهذا يعني أنّ من أهم أسباب القطيعة، فضلاً عمّا سبق: -اختلاف زاوية النّظر إلى الإبداع، وبخاصّة الإبداع الشّعريّ، بوصفه- على حدّ تعبير أحد الباحثين العرب(x) - لغة في اللّغة فقط، فالشّعر بخلاف الرّواية والقصّة، لا ينطوي على أي شيء آخر غير اللّغة، أمّا الرّواية ففيها أحداث، وفيها شخوص، وفيها أشياء أخرى تقدّمها للقارئ، في حين الشّعر لا يقدّم شيئاً آخر غير ذاته، غير لغته الشّعريّة، إنّ الأولوية في الشّعر للّغة، من حيث هي لغة، لا لما يجب أن تقوله اللّغة، أو لما يجب أن نفصح عنه من خلال اللّغة. لذلك رأينا من بين أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تلك القطيعة، فضلاً عمّا سبق، انطلاق بعض المبدعين العرب من إيمان راسخ بضرورة نفي الوظيفة التّواصليّة عن اللّغة الإبداعيّة، ما جعل هذا البعض يتعامل مع اللّغة الإبداعيّة بوصفها-فقط-مادّة كشف عن الوجود الفرديّ للموجود الفرد، لا أداة تواصل مع الآخرين، أي بوصفها إمكانيّة مغلقة لمواجهة الوضع الخاصّ بالفرد المبدع في سياق علاقته باللّغة والفكر، الأمر الذي أدّى باللّغة لأن تغدو هي موطن هذا البعض ومنفاه، على معنى أنها قد صارت، بالنّسبة لهذا الفريق-ربّما بسبب عجزهم عن اختراق جدارها والانفتاح على الآخرين من خلالها- بمثابة شرنقة مغلقة توفّر لهم الملاذ الآمن، وتحميهم من «جحيم السّوي» الذي لا يقوى على مقاربته. ومن هنا رأينا تحوّل وظيفة الكتابة الإبداعيّة، في وعي بعض الكتّاب العرب، من وسيلة تواصليّة مع الآخرين، إلى إمكانية لمحاولة فهم الذّات وتحقيقها، وللبحث عن هويّة ممكنة لها، حيث تراجعت العلاقة التّواصليّة بالتّدريج، وانحسرت إلى حدودها الدّنيا، بل إلى منطقة الصّفر، بحيث غدت تلعب دوراً أشبه ما يكون بالمعالجة النفسيّة للذّات الكاتبة.