لم يحدث أن اختلف الناس فى تعريف شيء كما اختلفوا فى تعريف ماهية الثقافة لدرجة تباين فيها الرأى بصورة شديدة التناقض بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ، بل إلى حد اختلطت تلك التعاريف وتداخلت مع مدلولات لمفاهيم أخرى متعددة مثل “ المدنية “ ، “ الحضارة “ ، “ المعرفة “ ، “ التقنية “ ، ولدرجة ان جعلها البعض وعاء شاملا لكل ما يحيط بالانسانية من تراث ومعارف ورموز وتقاليد ويكفي للدلاله على ذلك أن أحد الباحثين قام بحصر حوالى ( 65 ) تعريفا من تعاريف الثقافة ، ولعل ذلك يرجع الى ان الثقافة وعاء يشمل جوانب الحياة جميعا فالثقافة تمثل تلك المعارف المتراكمة والتى تثمر وجهات نظر معينة تصطبغ بها الحياة بالكامل ، اى هى تلك المكتسبات العقلية والمستمدة من تلك المجموعة المتراكمة من المعارف والتى تعمل على تشكيل وجهة نظر واسلوب فى الحياة يؤثر فى الانسان نفسه والمجتمع بأسره ، ومن هنا تأتي الاهمية البالغة للثقافة فى حياة الافراد والشعوب فالثقافة ( والادب رافد رئيس من روافد الثقافة) ليست ترفا فى حياة الامم والافراد شاءت اخذت بها او تركت بل الثقافة ركيزة هامة جدا للتقدم والنهضة ، يقول “ جورج ديهامل “ الاديب الانجليزى صاحب الرواية ذائعة الصيت “ عام 1984م “ : “ يلزم ان يفهم الشعب ان اعز الاغراض واسماها والمتع الدنيوية ومظاهر التقدم جميعها متوقفة على استعمال العقل وتثقيفه وصقله ، وبدون الكتب تصبح حياتنا الفردية والاجتماعية مستهدفة لخطر الانحدار الى الهمجية التى لا يشفى من دائها ، ويجب ان يعلم الجميع ان تثقيف العقل امر جوهري للحياة الصالحة .... “ ، ومن هنا كانت الثقافة ضرورة قومية من حيث اهميتها فى مواجهة الثقافات الوافدة وذلك كعنصر من عناصر الشخصية المتفردة ، خصوصا مع هذا الصراع المرير والشرس فى عصر العولمة بين وسائط الاعلام بشتى أنواعها لمسخ الشخصية الانسانية والسيطرة على موارد المجتمعات ، وكما أن الثقافة هى واسطة الحضارة لذلك كانت لازمة لتكوين وتأسيس الحضارة المتميزة والقادرة على استيعاب احتياجات الانسان والمجتمعات ( المادية والروحانية ) وأشباعها ، وفى نفس الوقت تكوين وسائل الحماية من غزو الثقافات الدخلية ، ويكفي للتدليل على الاهمية الاجتماعية والاقتصادية للمنتج الثقافي أن نذكر أن اكبر صادرات الولاياتالمتحدةالامريكية ليست الطائرات ولا العتاد الحربي حتى ولا الملابس أو المنتج الزراعي الهائل ، بل إنه المنتج الثقافى مثل الموسيقى والكتب وافلام السينما وبرامج الكمبيوتر ، فقد صدرت الولاياتالمتحدةالامريكية من هذا المنتج الثقافى الى العالم عام 1996م ما يقارب من مائة مليار دولار ، وعلى النقيض فى اوطاننا العربية نجد ان الاهتمام بالثقافة اهتمام محدود للغاية وحسب الرأي السائد أنه لا يمكن العناية بالثقافة والدب بالنظر الى ضرورة عاية متطلبات التنمية وبناء الاقتصاد وتدبير موارد المعيشة ويكفى للتدليل على ذلك ان ننظر الى الاحصائيات والتى تشير الى ان الاسرة المصرية ( كمثال ) تنفق نسبة ما يلى على المجالات الاتية : التدخين 6 % ، الصحة 3 % ، الثقافة والرياضة معا 2 % ، وهكذا نجد ان الثقافة والرياضة معا ( على ما لهما من اهمية) قد احتلتا المركز الاخير فى اهتمامات الاسرة المصرية بما ينذر بالخطر والتهديد لهوية المجتمع ، وفى احصائية محزنة اخرى ان متوسط توزيع الكتب الثقافية والادبية يصل الى ( 300 ) نسخة فى العام وهبط توزيع المجلات الثقافية الى اقل من ( 350 ) نسخة للعدد الواحد وتلك النسب فى تناقص مستمر ، كما يصل نصيب القارئ العربي الى نصف صفحة من كتاب في العام بينما يصل نصيب الفرد في امريكا الى ( 8 ) كتب في العام وفى اوروبا الى ( 7 ) كتب للفرد فى العام . بالتالي لم تعد الثقافة حاجة ثانوية يمكن الاستغناء عنها بل من أهم أولويات الحاجات فى المجتمعات خصوصا للمجتمعات التي تخطو على طريق النهضة لما للمنتج الثقافى من مردود مادى ومعنوى على المجتمع .، هذا من ناحية المكاسب أما من ناحية حماية الذات من عدوآن الدخيل فالثقافة ضرورة أمن قومي خصوصا فى المجتمعات النامية ، ويتضح الامر بجلاء أكثر اذا كان لهذه المجتمعات رصيد ثقافي وتراثي معتبر يمكن الاستدلال به والاهتداء بهديه فى وسط متاهة الزحف الاعلامى الهائل والشرس بما يتطلب تضافر القوى على مستوى الافراد والمؤسسات جميعا لتأصيل قيم الثقافة وتحقيق الاداء النافع لها بين كافة طبقات المجتمع . هوامش : 1 – على هامش النقد والادب – على ادهم 2 – قراءة فى عيون المستقبل – فتحي سلامة 3 - ص 18 / مجلة العربي الكويتية – العدد رقم ( 482 ) – يناير 1999م 4- ص 66 / نحن والحضارة والشهود ( الجزء الاول ) – د . نعمان عبد الرازق السامرائى 5 – جريدة الاخبار 10-7-2001م. أديب وناقد مصري