تمتلئ النفس البشرية بزخم من الأحلام والطموحات والأهداف التي تسعى جوارحها لتنفيذها وتحولها إلى واقع ملموس مشاهد، وبعض منها تنظر إليه تلك النفس بشيء من الاستحالة، بينما غالبيتها تغتاله أيادي الخمول والكسل والانكسار أمام موجات التسويف. وقد أدرك الإنسان عبر العصور هذه الحقائق، وسعى لنبش الانقاض الرابضة على الطاقات الخفية، تقيدها وتمنع الأحلام من الوصول إلى منتهاها... فبدأ في البحث عن أساليب لحث بني جنسه على تحقيق أمانيه وقهر المستحيل انطلاقاً من قدراته وإمكاناته، والبناء عليها لترسيخ مجده. فكان أن شيد الأهرامات في قلب الصحراء المصرية، وزرع بساتين باسقة في جنتي اليمن، وتفنن في تصميم حدائق بابل الأسطورية، كما أن الحب كان له حضور في طموحات الإنسان، حيث كان دافعاً لخلق تحفة إبداعية كانت في حكم المستحيل سميت ب "تاج محل"، وكما كان الحب حاضراً كان الأمن هاجساً لقهر المستحيل عند الإنسان قديماً، فها هو يضرب حصاراً على كل ماهو صيني ويعلن عن ميلاد سورها العظيم، المغامرة والتحدي كانت هي الأخرى حاضرة وبسببها وجد العالم القديم نظيراً له باكتشاف أراض جديدة خلف مياه الأطلسي ضمت إلى ماقبلها من عالم. سميت كل تلك الأعمال والانجازات بعد ذلك عجائب وأشياء خارقة للعادة التي كان سبب تسميتها تلك سمو القدرة الإنسانية والأحلام البشرية والتصميم على مشاهدتها واقعاً يلمس، فكانت حية يشار إليها بالبنان. وحديثاً، سعى الإنسان للمضي على إثر سابقيه، ليس تقليداً، بل تواصلاً لمسيرة الإبداع السالفة.. فكان أن برز للوجود في آخر عقدي القرن الماضي ما أطلق عليه "التنمية البشرية" كعلم حديث يعنى بتنمية القدرة الإنسانية والاعتناء بمقومات الطاقة البشرية الكامنة وتهيئة الظروف الملائمة لإبرازها وتحويلها إلى طاقة عملية حركية تؤتي ثمارها إنجازات وعجائب. والتنمية البشرية علم تتعدى مجالاته وتتنوع، فبدءا من تنمية قدرات الذات، يمكن للإنسان أن يغير من واقع كل مايحيط به نحو الأفضل والأحسن، وباستطاعته أن يلغي من قاموسه لفظ المستحيل الذي تتسمر أمامه طموحات البشر وأحلامهم. ومن هنا كان اهتمامنا في صحيفة الجمهورية بهذا العلم وإفراد صفحتين متخصصتين لإبراز جوانبه ونشر مفاهيمه وطرق مختلف مظاهره الموجودة في المجتمع وتشجيع المبدعين ومعرفة أسباب ابداعاتهم ليمسوا نجوماً يستضيء بنورها الآخرون، والعمل على مناقشة فروعه المتعددة وكيفية تذليلها لخدمة الإبداع الشخصي والمؤسسي. لذا فإن الصفحتين أعزاءنا القراء منكم وإليكم ليشاركنا في تحريرها الصحفيون والمثقفون والباحثون والمختصون بهذا العلم وكذا الطلاب، للدفع بها نحو الإبداع والتنمية، ونشر ثقافة قهر المستحيل وغرس مفاهيم الاتقان والعمل المبدع.