تستوجب التجربة العلنية للأحزاب اليمنية في تاريخ التعددية الحزبية بالجمهورية اليمنية، دراسة علمية منهجية، بهدف التقييم والتقويم واستشراف المستقبل. إن دراسة الظواهر السياسية من ناحية علمية، تعني عدم الاطمئنان إليها لما تتبدى لنا في الواقع المعيش.. والكشف عن النظام الخاص لمكوناتها والمؤطِّر لحركتها، هذا يعني من زاوية علمية أنه لايجب علينا أن نقف أمام الأحداث والظواهر الخارجية، أو التجارب الفردية والوقائع الآنية التي يتكون منها العمل السياسي، بل يجب أن نتجاوزها إلى العلاقات ذاتها، إلى طبيعة الظاهرة السياسية التي تدرسها، وإلى الاتجاهات الأساسية التي تقف وراءها وتحددها. هذه المقالة مقتبسة من دراسة للكاتب لم تنشر بعد حول الظاهرة الحزبية في الجمهورية اليمنية، وهي محددة بالإشارة إلى دلالة عنوانها على أولوية الوعي وأهمية التنظيم في العمل السياسي عموماً، وفي العمل الحزبي تحديداً، وذلك من منطلق التحقق الانطباعي من صحة الغرض العلمي الخاص بجعل الفراغ الفكري الذي يهيمن على العمل السياسي للأحزاب اليمنية، سبباً من أسباب جمودها التاريخي، وعجزها الحركي عن الفعل المؤثر في الواقع وحركته التاريخية من الماضي إلى المستقبل جزئىاً أو كلياً.. فما المقصود - هنا - بالفراغ الفكري المهيمن على العمل السياسي للأحزاب اليمنية؟ تحولت الساحة الوطنية، غداة قيام الجمهورية اليمنية بوحدة الشطرين، إلى نظام سياسي قائم على دستورية التعددية الحزبية وشرعية وجودها العلني المنظم، وكانت الخارطة الحزبية قبل ذلك مؤطرة على أيديولوجيات الإقصاء والإلغاء التي شكلت مرجعية واحدة وموحدة لأحزاب التيارات السياسية: القومية واليسارية والدينية.. هذه الأحزاب تحولت مع السياق التاريخي إلى جديد الهامش الديمقراطي الناشىء والمنشئ لدولة الوحدة وبها، لكن تحول الأحزاب جاء قاصراً عن تحول مرجعياتها الفكرية أو متجاهلاً لهذا التحول الأساسي للعمل السياسي المنظم في أطر حزبية. لم تنتج الأحزاب اليمنية فكرها المفروض بجذرية التحول التاريخي في الوضع السياسي، دستوراً ونظاماً ومؤسسات، فغابت عن بنيتها التنظيمية ثقافة الاستجابة للتحديات التاريخية المتسارعة، وطنياً وقومياً، ودولياً، الأمر الذي أدى إلى إفقار الوعي الجمعي، للحظة التاريخية، وتنظيم الاستجامة الإيجابية لتحدياتها. ذلك أن الوعي يجعل العمل متحركاً باتساق من مقدمات الفكر إلى مقاصد الفعل، وهذا مصدر الإنجاز الفعلي للمهام المحددة نظرياً بالتخطيط، ومولد التراكم الكمي اللازم للتطور في مسارات العمل السياسي ومراحله المحددة زماناً ومكاناً وفق الممكن في الحاضر والمحتمل في المستقبل. غابت عن أحزاب اليسار المرجعية الفكرية للتحول نحو الديمقراطية بذات القدر من غيابها عن الأحزاب القومية، وعن أحزاب التيار الديني، لأن الظروف المحيطة بالحدث الوحدوي قومياً وعالمياً كانت مضطربة بصورة أضرت بأهمية المرجعية الفكرية للعمل السياسي من جهة، ومضادة للأسس المرجعية بدعوى سقوط الايديولوجيات من جهة أخرى، الأمر الذي هز البنية المرجعية للأحزاب اليمنية، وفرض عليها الصمت المقصود تجاه متطلبات الوضوح الفكري للخطاب والممارسة على الصعيدين السياسي والحزبي. توحدت الأحزاب اليمنية على دعوى الإيمان بالمبادئ الديمقراطية وقيمها المرجعية للعمل السياسي، في نظام الحكم وخارجه، لكنها نأت من استيعاب متطلبات التحول إلى العمل السياسي على أسس ومبادئ الديمقراطية وآلياتها الضابطة والمنظمة للعمل الحزبي، وعلاقاته وصراعاته.. وبعبارة أخرى، نقول: إن الوضع الاجتماعي ظل مرتبطاً بالتحولات السياسية، من ناحيتين: الأولى: اقتصادية نحددها حصراً بالتلازم بين الديمقراطية واقتصاد السوق، والتي تستدعي التجديد في المرجعيات الفكرية للديمقراطية الاشتراكية، لدى أحزاب اليسار والقومية. الثانية: دينية، نحددها حصراً بالتلازم بين الديمقراطية ومدنية السلطة، والتي تستدعي التجديد في مرجعيات الفكر السياسي لأحزاب التيار الديني، حول أسلمة الدول والحكم على ضوء التحولات الواقعية نحو قيم الليبرالية في السياسة والاقتصاد. تاريخياً، كانت الأحزاب اليمنية دينية من حيث توحدها على التمسك بالطابع الديني للسلطة السياسية، كما كانت ليبرالية من حيث توحدها على دعوى الإيمان بالقيم الديمقراطية ومبادئها وآلياتها، مجسدة بهذا حالة من الفراغ الفكري الكامل والعازل بين تاريخها قبل الوحدة وحاضرها بعد ذلك.. وهو ما فرض عليها الجمود والعجز عن الأداء المؤثر في الواقع، والمتحكم باتجاهات حركته إلى المستقبل. هذه اللوحة العامة للوضع الحزبي، ترسم غياب الوعي والتنظيم عن مساحة الفعل السياسي للأحزاب اليمنية على إطار جامع لها في هيمنة الفراغ الفكري على منطلقات العمل السياسي وغاياته.. وللحديث صلة.