إذا كانت المصلحة المشتركة هي المحور المحرك لتآلف أصحابها في إطار تنظيمي للحفاظ عليها والدفاع عنها، والصراع حولها مع بقية الساعين لانتزاعها أو المنافسين على احتكارها لأنفسهم، فإن هذه المصلحة لا تكفي لإضفاء الطابع السياسي على التنظيمات الحزبية، ما لم تؤطر في إطار يميزها بهوية فكرية، ومن هنا جاءت المذاهب الفلسفية ومدارس الفكر السياسي المعاصر. في تاريخنا العربي المعاصر، رأى علماء السياسة والباحثين في قضاياها وتجاربها، تصنيف الأحزاب السياسية على أساس توجهها العقائدي ومرجعيتها الفكرية، في تيارات كبري بعناوين عامة وعريضة مثل التيار القومي، والتيار الاشتراكي الليبرالي، والتيار الديني، إلى جانب تسميات أخرى دالة على الاتجاه والتوجه، كالتيار التقليدي والمحافظ والعلماني وغير ذلك. الأحزاب اليمنية دخلت تحت هذا التصنيف منذ نشأتها التاريخية قبيل منتصف القرن المنصرم، واستمرت حاملة هذا التصنيف بعد التحولات الجوهرية التي عصفت بالفلسفات ومذاهبها السياسية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، إثر انهيار الاشتراكية ومنظومتها السياسية على المسرح الدولي، وهذه التحولات عصفت عميقاً بالفكر السياسي وتياراته، منتجة غلبة متزايدة للفلسفة الليبرالية، ونموذجها القائم على الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق. ومع ذلك احتفظت الأحزاب اليمنية بتسمياتها القديمة وهي تنخرط في هذه التحولات دون مراجعة منطقية لمرجعيتها الفكرية في المجالين: السياسي والاقتصادي. الديمقراطية المغيَّبة عن فكر كل الأحزاب اليمنية أصبحت هي المرجعية المنتجة لخطابها السياسي، والرأسمالية هي النظام المقبول لديها حتى وهي تصف حزبها بالاشتراكية في اسمه، ومع ذلك فهي أحزاب متمسكة بتصنيفها القديم بين التيارات الثلاثة: اليسار والقومية والدين، وهذا حقها، غير أنها مطالبة بتأصيل الديمقراطية واقتصاد السوق في مرجعيتها الفكرية من باب التطوير الذي قادت إليه التجربة التاريخية والتجديد الذي تتطلبه التحولات الكبرى علمياً وتقنياً في العالم والعصر. الأحزاب اليمنية مطالبة وهي تتجه نحو هيكلة نفسها سياسياً بإعادة بناء منظومتها الفكرية ضمن بنية متسقة في تأصيل الحرية, سياسياً واقتصادياً، تتلاءم ومطلب التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية بحيث لا تقودنا عجلة اقتصاد السوق إلى الفقر المطلق والثراء الفاحش، ولا ينتج عن التعددية السياسية تشظي الهوية الوطنية إلى مكونات متمحورة حول عصبياتها الفئوية والجهوية. لعل الحزب الاشتراكي، وحزب البعث والتنظيم الناصري، معنية بإعادة تعريف الديمقراطية كمفهوم وعملية ونظام، على غير ما حملته من تعريف في مرجعياتها التاريخية قبل عام 1990م، وهذه العملية مرتبطة عضوياً من الناحية الفكرية بمذهبها الاشتراكي في النظام الاقتصادي، وما يترتب عليهما من تصور وتوجه للمجتمع وفئاته التكوينية، فيما يخص المواطنة والمساواة والعدل، في سلطة الحكم وعملية التنمية. والأمر كذلك يخص أحزاب التيار الديني، فيما يتصل بقيم الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق من ناحية الضرورة الموضوعية لتأصيلها بمرجعية الدين خصوصاً، والمخزون التاريخي لتجربة هذا التيار وضع الإسلام في تناقض مع الديمقراطية، غير أن الأهم في هيكلة أحزاب التيار الديني هو تأصيل التعدد الحزبي والاختلاف السياسي بين مكونات هذا التيار الذي تتوحد مرجعيته في الدين، وتتعدد اتجاهات تمثيل هذه المرجعية طائفياً أو حزبياً لما يترتب على هذا التأصيل من مصلحة في الحفاظ على الوحدة الوطنية التي تتمزق حالياً بالطائفية. ومن المهم أيضاً هيكلة العلاقة بين الواقع الوطني للأحزاب اليمنية، وبين امتداداتها خارج هذا الواقع بتوجه قومي أو أممي من أجل الوصول إلى وضوح فكري في دوائر هذه العلاقة وما يرتبط بها من قضايا محورية في الصراع الجغراسياسي بين القوى الكبرى على الساحة الدولية وعلاقتها المؤثرة كلياً في حركة مشروع التحديث السياسي والتنمية الشاملة في أقطار الوطن العربي وبينها. لابد أن نعترف بأننا في اليمن تحديداً وفي المحيط العربي عموماً، شعوباً ونخباً، حديثو عهد بالسياسة، تفكيراً وممارسة، وأننا نفتقر فقراً كلياً للفكر السياسي كما هو مؤطر علمياً وفلسفياً في الحداثة الغربية، لذلك تتعاظم حاجتنا إلى هيكلة المجال الفكري في الأحزاب اليمنية، هيكلة جذرية وشاملة, وأحزابنا قادرة على ذلك فقط إن هي أرادت أن تضع قدمها على أرضية راسخة بالعلم ومتحركة بالتفكير المبدع والخلاق نحو التطور والتجديد، وهذا يتطلب تنظيم حركة الفكر في أطر قادرة على الإنجاز، أي الانتقال إلى هيكلة التنظيم. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك