السلطة في الإسلام، مبدأً وتاريخاً، لابد وأن تكون مدنية التكوين، وإلا سقطنا، دون أن نشعر، في ثيوقراطية أوروبا في عصورها الوسطى.. نعم السلطة واجبة، عقلاً ونقلاً، ولكن شكلها وكيفية ممارستها مسألة متروكة لجماعة المسلمين، حيث إنه لا عصمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا للجماعة، وليس لأي فرد، مهما كانت منزلته.. فها هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبوبكر الصديق «رضي الله عنه»، يقول في أول خطبة له بعد اختياره خليفة، بعد مناقشات ومداولات السقيفة: «ياأيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه عن الآفات، وإنما أنا متبع ولست مبتدع، فإن استقمتُ فتابعوني، وإن زغتُ فقوِّموني..»، هذا هو صاحب رسول الله، وأول المؤمنين به من الرجال، وثاني اثنين إذ هما في الغار، يعترف بأنه من الممكن أن يخطئ، ولا يدعي العصمة، صراحة أو ضمناً، كما يفعل رجال في هذا الزمان، ويطلب من الناس أن يراقبوه، فإن أحسن تابعوه، وإن أخطأ قوموه.. ومن رواية ابن كثير أن الصدِّيق قال في أول خطبة له بعد البيعة: «أما بعد، أيها الناس فإني قد ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني..». يقول الصدِّيق - هنا: إن هنالك من هو خير منه، وهو مَِن هو، ولأجل ذلك يطلب من صاحب العصمة بعد صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الجماعة، أن تكون رقيباً عليه، فهو ليس بمعصوم ولا يدعي أنه أعرف بغيره بحكم الله، ولا أن هذه المعرفة المدعاة هي من يؤهله لحكم الجماعة والقيام بأمورها. وبنفس المعنى يقول الفاروق، عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» في خطبة مشابهة: «يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو مِلتُ رأسي إلى الدنيا؟ إني لأخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تعظيماً لي.. إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني». ويذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» المذهب نفسه حين يقول، موجهاً الخطاب لأصحابه: «فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني». كل ذلك يؤكد أن السياسة في الإسلام هي من «أمور الدنيا» التي يجتهد فيها صاحب الأمر «فرداً كان أو مؤسسة» في البحث عن أفضل السبل لتحقيق مصلحة الجماعة التي فوّضته هذه الوظيفة وبقيت رقيبة عليه.. فصاحب الأمر - هنا - لم يأتِ بتفويض إلهي، كما كان ملوك أوروبا يدّعون في عصورهم الوسطى، ولا وفق شرعية معرفية معينة تجعلهم الأقدر، دون بقية خلق الله، على معرفة حكم الله، كما هو الحال في النظم الثيوقراطية.. وتلك الحركات التي تدعي معرفة بحكم الله دون غيرها من البشر. نعم لقد مرت عهود وفترات كان فيها الخليفة يدعي أنه ظِلُّ الله في أرضه، وينادي بخليفة الله، ولكن لا سند في الدين أو التراث الأول يؤيد مثل هذه المزاعم التي كانت لأغراض شخصية أو أيديولوجية بحتة.. وأكبر دليل على ذلك هو أنه حتى القائلين بالتفويض الإلهي في السلطة، من خلفاء وسلاطين، تجدهم يحرصون على أخذ البيعة ولو بشكل صوري، والبيعة هي ذلك الإجراء الدال على العقد بين الحاكم والمحكوم، أو هو صورة تفويض الجماعة لولي الأمر أو السلطان، مهما كان اللقب الذي يحمله.. فإذا كان ولي الأمر هذا مفوضاً إلهياً، فلماذا البيعة؟ إنه يعلم ضمناً أن الشرعية إنما تنبع أولاً وأخيراً من رضا الجماعة، وهي الشرعية الحقة مقابل الأنواع الأخرى من الشرعيات، سواء ما قام على أساس القوة المجردة أم على أساس مزاعم وادعاءات أيديولوجية مختلفة، مثل التفويض الإلهي ونحوه.. ولأجل ذلك نجده حريصاً على مثل هذه البيعة، لأنها هي التي تجعله حاكماً شرعياً. مدنية السياسة، ومن ثم السلطة في الإسلام، نجدها بكل وضوح في ذلك الانفصال الملحوظ دائماً من تاريخ الدولة في الإسلام، ألا وهو انفصال وظيفة الأمير عن وظيفة الفقيه، منذ العهد الراشد وحتى العهود المتأخرة التي قد لاترقى إلى مثالية العهد الراشدي، ولكنها جزء من تاريخ حضارة الإسلام، وبالتالي لا يمكن نزع صفة «الإسلامية» عنها، وإلا نكون بذلك قد محونا كل تراث نختزنه في شخصياتها العامة قبل أن نختزنه في عقولنا. فأبوبكر وعثمان وعلي، «رضوان الله عليهم أجمعين»، لم يأتوا إلى الخلافة ويتسنَّموا رئاسة الدولة لأنهم الأفقه في أمور الدين، ولكن لأنهم الأقدر على قيادة الدولة ورسم سياساتها في ظل الظروف الاجتماعية والتاريخية السائدة.. نعم كانوا فقهاء في الدين، مثلهم في ذلك مثل بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربين، ولكن الدين ذاته كان على بساطته التي أتى بها سيد البشر محمد بن عبدالله في ذلك الزمان، ولم يكن الفقه قد تحول إلى ذلك التخصص الذي لابد له من متخصص، أو حرفة معينة أو نحو ذلك.. كانوا يفهمون الدين وفق أركانه المعروفة، ووفق حرامه المحدود، ومباحه غير المحدود، وبذلك كان مناط الأهلية للوصول إلى قمة الدولة هو القدرة على القيادة والولاية وليس القدرة على التفسير أو الاشتغال المتفرغ في الفقه وعلوم الدين التي ترعرعت وازدهرت لاحقاً. جاء رجل إلى عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» وسأله: «ما معنى قوله تعالى: «وفاكهة وأبّاً»، فأنا لا أعرفها»، فأدرك الفاروق أن هذا الرجل متفذلك، فضربه بالدرة، وقال: «ما عليك ألا تعرفها؟» وكان في ذلك العهد من الصحابة من تفرغ للعلم الشرعي، مثل عبدالله بن عباس وابن مسعود وغيرهما، ولكنهم لم يضعوا أو يدَّعوا أن الفقه في علوم الشرع جزء من أهلية المسلم للوصول إلى رأس الدولة أو أية وظيفة أخرى.. والحقيقة أن العلم والخلافة لم يجتمعا إلا في علي بن أبي طالب، وهو الذي كان من مستشاري من سبقه من الراشدين، إلا أن خلافة علي «رضي الله عنه» ليست بسبب علمه أو فقهه، ولكن بسبب أحوال اجتماعية وضرورات عملية وسوابق تاريخية وقدرة معينة جعلته يتولى الأمر.. ومن المعروف في مأثوراتنا أن المسلم القوي حتى لو كان فاجراً، خير من المسلم الضعيف، حتى لو كان تقياً عالماً، وذلك فيما يتعلق بالوظائف العامة، إذ أن فجوره على نفسه، أما قوته فهي للجماعة كلها. وفي العهود اللاحقة، وحين تحولت علوم الدين إلى تخصصات دقيقة، نتيجة القضايا الجديدة والتداخل مع الحضارات الأخرى، تحول الفقه وغيره من علوم الشرع إلى دراسات وتخصصات علمية، تهتم بالجوانب الاجتماعية، والحضارية في رسالة الإسلام وشرعه، دون الجانب السياسي. نعم كان الفقه السياسي فقيراً، وكان الفقهاء الأوائل لايشتغلون بالسياسة، لا لقهر الدولة أو السلطة، فقد كان هؤلاء العلماء الأوائل لايخشون غير الله في إبداء آرائهم، وما حدث لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد من محنٍ خير دليل على ذلك، ولكن لأسباب لا علاقة لها بذات السياسة مباشرة.. لقد كانت الدولة الإسلامية، أثناء تكون علوم الشريعة، تضم في طياتها الكثير من التيارات والحركات السياسية التي تؤدلج الإسلام، بما في ذلك السلطة المهيمنة ذاتها.. وكان الصراع بين هذه التيارات وبين الدولة صراعاً أيديولوجياً يعكس صراعاً اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي فإن الوقوف مع السلطة أو الدولة أو ضدهما كان يعني اعتناق مذهب أيديولوجي معين، ومن ثم القول بأن هذا المذهب هو حقيقة ما يريد الإسلام في ذلك المجال.. وكما نعرف جميعاً، فإن المذهب الأيديولوجي هو معادلة صفرية، «إما... أو» فهو إما أن يكون معبراً عن كل الحق، وفق موقف أصحابه، أو هو كل الباطل، وفق موقف أعدائه. أما الفقهاء وعلماء الشريعة فقد كانوا يحملون هماً آخر، هماً إبستمولوجياً أو معرفياً وليس أيديولوجياً.. لقد كانوا يبحثون عن تلك الآليات المعرفية التي من الممكن أن توصلهم اجتهاداً إلى «حكم الله»، بمعنى أن الآليات التي يبحثون عنها مخالفة لآليات أصحاب الفرق السياسية والاجتماعية، فآلياتهم آليات معرفية تحاول الوصول إلى المعرفة الصرفة القادرة على تقديم حلول عملية للقضايا الاجتماعية الجديدة.. أما آليات أصحاب الفرق فهي، كأي آليات أيديولوجية، آليات تبريرية تبحث عن تبرير وشرعية هذا الموقف، أو أصحاب المذاهب وأصحاب الفرق هو فرق بين الابستمولوجي والأيديولوجي.. لذلك نجد أن أصحاب المذاهب «الابستمولوجيون» يقولون دائماً مثل ما كان يقول أبو حنيفة: «هذا ما علمناه، وإن جاءنا خير منه قبلناه»، أو كما يقول الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، أو كما كان يقول مالك: «كلٌّ يؤخذ منه ويترك إلا صاحب هذا القبر».. أما أصحاب الفرق «الأيديولوجيون» فلا تجد لمفهوم الرأي مكاناً في خطابهم، بل هو الجزم والتأكيد على هذه القضية أو تلك. من أجل ذلك ابتعد العلماء عن السياسة، لا لخوف أو عدم قدرة على الخوض فيها، ولكن لأن الهم الذي كانوا يحملونه هو هم اجتماعي معرفي وليس هماً سياسياً أيديولوجياً.. بالإضافة إلى أن العلماء والفقهاء كانوا مدركين أن رجل الفقه هو رجل علم، بمعنى انشغاله بتفاصيل الأمور «تكنوقراطي بالوصف المعاصر»، بينما رجل السياسة ورجل الدولة يهتم بعموم الأمور والسياسات العامة، وبالتالي فإن رجل الفقه قد يكون قادراً على إبداء الرأي في هذه السياسة أو تلك، ولكنه ليس قادراً بالضرورة على صنع السياسة وصياغتها.. بالإضافة إلى ذلك الهاجس الذي يحمله رجل الفقه دائماً، ألا وهو الخشية من انفراط عقد السلطة، وحينئذ لا قيام لدين أو دنيا، فقه أو علم، مذاهب وفرق.. إنه إدراك بأن ما أوجبه الإسلام هو ضرورة وجود السلطة السياسية، أما خلاف ذلك فهو من أمور الدنيا التي يحكمها مبدأ الإباحة، ولذلك لم يستطيعوا، وهم الباحثون عن آليات المعرفة، أن يجزموا بحرمة هذا أو ذاك من أمور السياسة، ولم يستطيعوا، وهم أصحاب الرأي، أن يدخلوا معمعة «التكفير السياسي» الذي خاضت فيه الفرق.. فالتكفير لايكون إلا على أسس دينية واضحة، أما السياسة، فهي من أمور الدنيا، وبالتالي لايمكن إدخال «التكفير» فيها مهما حدث.. إذ أن ذلك يشكل، لو حدث نقضاً للآليات المعرفية التي يعملون من خلالها.