سيخفق قلبك .. وتتعالى سريرتك .. وتنطلق نسمات الربيع من أدغال أعماقك كتنهيدة خلاص أبدية تسامر قلوب المعذبين .. وترمي لحظتها جانبا” قسوة الزمن ودبابيس الأيام والخريف والحزن وأنت تقبع في ركن من أركان المسجد كما أقبع أنا الآن داخل حرمه متضرعا … أنها الطمأنينة التي تشرح القلوب ، أنها بهجة الروح وصفاء سريرتها ، بل أنها الرحمة التي تلامس الأفئدة ومشاعر النادمين … رحت أتأمل ثلّة من التلاميذ التفوا حول معلمهم الشاب وهو يرتل آيات من الذكر الحكيم ، يرددون ما يتلو بسعادة منقطعة النظير فتعلوا صيحاتهم بألحان رائعة تطاول رسلها الآفاق وتنطلق مبشرة إلى ما وراء الطبيعة والصدى وغيبيات الوجود الأزلي . كانت جوارحي أسيرة تلك الأهزوجة المقدسة وأرتقي شوقا” بين الفينة والأخرى لسماع جديدها .. جديد الترتيل المشوق لمعلمهم المثابر من صعود وانحدار في نغمات نبرته العذبة تارة ، وترديد التلاميذ بصوتهم الناعم الرقيق تارة” أخرى ، أحسست لحظتها براحة الجسد وسكينة النفس وكأني قد قطعت على قدم وساق دروب الأجيال الطويلة وسط الأعاصير والمطر ، وتمنيت أن أتغلغل بين صفوفهم وأعود طفلا” أحبوا وراء سذاجتي وأمتطي صهوة الأمنيات وأنتزع من على سحنتي آثار سنيني العجاف التي هجرها الربيع ورافقتها زوبعة الشتاء ووحل الضياع المهلك .. لامحض سنّة مذهبية ولا فروضٍ عقائدية قذفتني في قوقعة الخشوع تلك بل هي فطرة الهداية الإلهية التي أقنعت الروح على بصق زفير التمرد وتخليص النفس من وسوسة الشيطان والكف عن ذنوبها والعصيان ، فرحمة الهداية أسعفتني بزورق النجاة وأنا أتقاذف في بحر اليأس اللّجي وسط أمواج الخطيئة والطغيان ، وها هي دموعي تسبق بصيرتي تعانق الندم وتتوسل الصفح حتى اختلطت معها شهقات وغصة خرجت منتفظة من أروقة الأعماق أجهشت خلالها بالبكاء الجم كأولئك المحرومين الضعفاء ، ذلك البكاء الحنون الذي يطفئ لهيب الحزن ويرقع ثقوب الضمير ويقزم قامة الكبرياء …وجدت أن غمامة النحس تتساقط من عليائها عند خشوعي والدعاء ، ورأيت في برهة فقد وإغماء أن ملائكة” شداد‘ تحلّق فوق أنقاض النفس تهاجم الشيطان وتجرف أوكاره السوداء ، وراحت عيناي نافذة الروح تسرح في سراب ينقشع عنه الغبار وتنجلي عني سحابة الغموض وتنفتح أمامي جنائن مدهشة الغمار .. تعتقل الأبصار .. ثمارها شيء عجيب وبلا رقيب .. قصورها رحاب ، فيها بروج وصروح وقباب ، تقيم فيها كائنات رقيقة اللمسات .. جذاّبة الهمسات .. كلآلئ نثرت في عتمة الطرقات .. يتوارى عشاّقها خلف خمار من ضباب .أنه ربيع جديد يعدو فوق أنفاسي ، وها هي خيوط الشمس تداعب إحساسي بوداعة وانشراح وأنا أحلّق مستأنسا” مع الطيور والنسمات ، أطارد الرياح وأعبث كالشقي في أروقة السحاب وأهوي خافظا” نحو الحقول أقبّل الزهور وأغني مع حفيف الشجر … ورحت أطوف مبتهجا” فوق رواب ساحرة بقوة خارقة تقمصت أحشائي أخذتني صوب سهول الحواري والقلاع .. نغماتها تطرب الأسماع .. فيها خمر وابتهاج ومتاع .. تضطجع فيها على أرائك مذهبة حواري شقر ناعسة ، ساحرة الكمال .. مفزعة الجمال .. تناديني إحداهن بهمسٍ وشوقٍ ودلال .. وفجأة .. استيقظت بوخزه دبوس من غفوة أحلامي وصوت المؤذن يصيح ( حي على الصلاة .. حي على الفلاح ) لأجد نفسي محاطا” بثلّة التلاميذ وهم ينظرون نحوي ويضحكون ، فقد حسبوني متشردا” .. بلا عقل .. مجنون .