كلما زرت مدينة صنعاء القديمة أشعر أني أمام مدينة أزورها لأول مرة رغم أنها مدينتي ومسقط رأسي وذلك لصعوبة فهم أسرار الفن المعماري الفريد لمنازل هذه المدينة التاريخية الضاربة بتاريخها وحضارتها في أعماق التاريخ. كلما أتجول في أزقتها وحواريها بصحبة أي صديق كي أعرّفه بالمدينة القديمة وبجمال منازلها التقليدية باعتباري أحد أبنائها أجدني اكتشفها وكأني أزورها للمرة الأولى فما بال من يزورها فعلاً للمرة الأولى؟!. لأنه من الصعوبة أن يدرك الزائر لمدينة صنعاء القديمة معاني وأسرار فن عمارتها وجمال منازلها التي تعتبر تاج الفن المعماري اليمني الذي أبدع فيه أجدادنا وجعلوه أسطورة معمارية متفردة. لهذا نلاحظ أن السياح والزوار لهذه المدينة التاريخية الساحرة يقفون لساعات طويلة يتأملون أسرار الفن المعماري لمنازل المدينة، لهذا لا غرابة في كل ما كتب عنها ولايزال يكتب من شعر ووصف ومدح وغناء أيضاً. üüü ولا غرابة أيضاً إذا قال عنها أحد المستشرقين بأنها أجمل مدينة على وجه الأرض؛ لأن الزائر بالتأكيد لا يستطيع أن يقرأ بسهولة الهندسة المعمرية لمنازل المدينة والتي تشكل في مجملها كتلة معمارية متناسقة ومتلاصقة مع بعضها البعض لتشكل حصناً منيعاً أمام مختلف الظروف القاهرة. لذلك كلما يمكن للسائح أو الزائر أن يقرأه من هذا الفن الفريد والعجيب هو أنه أمام مدينة فائقة الجمال رائعة المنظر، أنيقة المظهر، تشكل مع مختلف أحيائها وأجزائها وكل تفاصيلها متحفاً مفتوحاً تموج في أحيائه جميع مباهج الحياة. غير أننا للأسف الشديد لا ندرك ما نمتلكه من جوهرة تاريخية وحضارية وسياحية تفوق في جمالها وروعتها كل الوصف.. وهناك العديد من الكتّاب الذين كتبوا عن مدينة صنعاء الكثير والكثير. ذلك أن المدينة القديمة ومنازلها ومساجدها وأسواقها وناسها وعاداتها وتقاليدها وتاريخها وكل تفاصيلها لا تكفي المجلدات لإيفائها حقها من وصف لجمالها وأسرار تصاميمها وبنائها. فكل منزل فيها يروي تفاصيل جميلة وشيقة لإبداع الإنسان اليمني في التفنن بعمارتها ودقة اختيار موادها، كما أن كل سوق فيها يحكي قصة تاريخية مهمة لنهضة اقتصادية وحنكة تجارية عاشتها مدينة صنعاء القديمة على مر العصور التاريخية. أما مساجدها ومآذنها وقبابها وأضرحتها فلها قصص أخرى، فكل شبر وحجر فيها شاهد على إبداع الإنسان اليمني في فن العمارة، وكل شيء فيها يتحدث عن عبقرية الإنسان اليمني في التعامل مع البيئة المحيطة به ليصنع منها أعجوبة تاريخية وإنسانية يبقى صداها على مر العصور. ومن هنا سنحاول أن نرفع أعيننا قليلاً لنرى ذلك الجمال، ونستمتع بذلك السحر، ونحاول أن نخوض في أحد عناصر الجمال التاريخي الساحر من خلال تأمل ما تنطق به منازل المدينة ونسجل ما جمعناه في زياراتنا المتكررة وتأملنا المستمر لأسرار البيت الصنعاني. üüü ومن خلال هذا العرض القصير لهذا الفن المعماري المتميز الذي لايزال شاهداً حياً على عمق وأصالة الحضارة اليمنية العريقة والذي يتجلى ذلك في تصميمه المعماري والعوامل التي أثرت فيه وأدت إلى الوصول إلى هذا الطراز المتفرد من البناء، بالإضافة إلى وظائف الفراغات الهامة في البيت والتي أعطته هوية مميزة وواضحة انفرد بها عن غيره من المباني. وقد أثبت هذا البناء منذ زمن طويل أصالته وقدرته على تلبية كافة احتياجات المجتمع والبيئة والسكان والناتجة عن عادات وتقاليد اجتماعية ومتطلبات بيئية ومناخية، وكذا أثبت أيضاً قدرته على التكيف مع ما يطرأ من تغيير وتجديد في البيئة المحيطة به. من خلال الملاحظة والتأمل نشاهد أن المعماري اليمني قد حرص كثيراً على استخدام المواد المتوفرة محلياً، لذلك نلاحظه أنه استخدم الطين في عملية البناء بالأحجار المهندمة أو الموقصة، كما كان يلجأ إلى التشريب بالجص أو التذويب بالجص لزيادة الربط بين الأحجار وقطع الأحجار الصغيرة الشلف حتى تزيد من قوة الترابط.. وقد لجأ المعماري اليمني القديم إلى جعل الأركان والفواصل في الحجر الحبشي الأسود بسبب خفة وزنه ومتأنته، كذلك لجأ المعماري إلى عمل الفرشات الخشبية من الخشب المحلي الأثل أو الطلح بما يسمى اليوم الجسور الخرسانية، وهذه تقوم أولاً بتخفيف الثقل المتراكم فوق البناء، وثانياً لحماية المبنى من التشققات التي قد تحدث. وتتكون المنازل عادة من أربعة إلى خمسة أدوار، وقد يصل بعضها إلى ثمانية أو تسعة أدوار، إلى جانب الدور الأرضي والمفرج وملحقاته يكون عادة في الدور الأعلى، تتخلل المبنى الطوابق المتوارية التي لا تظهر للعيان وكان البيت الصنعاني غالباً ما يتميز بهذه الطوابق المتوارية، وقد كان يتخذ الأدوار السفلي من المنزل مساكن للأغنام بما كان يسمى «الحر» ولخزن الحطب ومكاناً للطحن وأحقاباً لحفظ علف الأغنام أو البقر إن وجدت ومدج للدجاج وأحقاباً لخزن الحبوب. üüü وكان يتخذ الجزء الشمالي من المنازل مخازن ومطابخ وحمامات وشباك الماء بمقام الثلاجة حالياً، كما تتمتع مختلف المنازل بنجارة فريدة من نوعها ويتميز بوجود شباكين، أو كما يسميها البعض مشربية من الخشب، وهو يطل من جهة الشرق على صنعاء القديمة، حيث يمكن للواقف فيها أن يرى صنعاء الحضارة والإنسان المجيد وعظمته من نسج كتلة المباني المتناسقة والمتداخلة وكأنها بساط تمتع بعمل فنان مبدع حاكت يداه هذه السجادة النادرة التي لا يوجد لها نظير على بقاع الأرض، وأما جهة الغرب فتطل على بئر العزب وحمام علي وباقي البساتين. النوافذ في المنازل عادة ذات فتحات كبيرة في الأدوار الثلاثة العلوية وتتكون من ثلاثة مصاريع يتكون المصراع الأول من الزجاج والثاني من الخشب وفيه فتحات صغيرة لخروج الرأس فقط والمصراع الثالث شباك خشبي والنوافذ عليها سحنه من خشب الطيب وعليها رسومات لطيور تثبت بواسطة قيود خشبية غائرة في البناء ومثبته بمسامير وأما النجارة الداخلية والأبواب فهي غاية في الدقة والجمال فعلى الرغم من محدودية أدوات الحفر والزخرفة قديماً إلا إن الحرفي النجار القديم لم يقف أمام هذه المعضلة بل حاول بقدر مايستطيع أن يضفي على عمله الكثير من الجمال والرونق والحفر والتجميل بالمسامير المكويجة أو المسامير ذات الرأس الكبير بحيث جعل عمله رائعاً من خلال تزيينه لهذه الأبواب بالطيسان النحاسية أو الحديدية والمسامير المكويجة أو ذات الرأس وجعل لها المقابض والمغاليق من الخشب والحديد أرضيات المبنى مغطاة بالصلل وهي من مادة الحجر الأبيض أو الحجر الأسود الحبشي والمثبتة بالقطرة من مادة النورة والرماد بحيث تجعلها ثابتة ولايمكن أن تتسرب المياه من خلالها كما تغطى جدران الحجرات الداخلية للمنازل بمادة الجص الأبيض وقد حملت زخارف جصية من أشكال هندسية ونباتية متكررة وأما المفرج فقد زخرف بنقشات فرشات جصية رائعة منها أدعية ومنها آيات قرآنية وجميعها من مادة الجص ويتميز المفرج بفتحات كبيرة جداً تسمى الحروف وللمنزل أو البيت الصنعاني حمام ومطبخ في كل دور من الأدوار العلوية المخصصة للسكن وتكون أرضياتها مقضضة بمادة القضاض التي يستغرق العمل فيها شهوراً حتى تصبح قوية ومتينة لاتسرب المياه سواءً مياه الأمطار أو أي مياه أخرى والدار..وللحديث عن صنعاء وماتحتويه من فن بقية.