عبور القارات كان أسهل من عبور براميل الشريجة جاء ال 22 من مايو 1990م ليعيد اللحمة إلى الجسد الواحد ليلتئم شمل الأسرة اليمنية بعد أن تجزأت إلى نصفين كما هو حال الوطن. . ظلت البراميل خلال السنوات الأليمة في فترة ما قبل (22مايو) تقف عائقاً دون لم شمل الأحبة والأهل والاصدقاء في ربوع اليمن الواحد، حتى تحققت الوحدة ليسدل الستار على معاناة الكثير من جراء مآسي التشطير التي لايدرك حقيقة آلامها إلا من عاش ذلك الزمن وتجرّع مرارة البعد عن الأم والإخوان أو أصدقاء الطفولة،... ذلك البعد الذي لا يتعدى مسافة عشرات الكيلو جرامات لكن تجاوزه أو عبوره كان يتطلب مدة طويلة تستغرق نحو شهر للحصول على إذن أو رخصة للسفر من عدن إلى الشطر الشمالي آنذاك لقضاء إجازة أو عطلة صيفية في مسقط رأسه. فرغم مرور 19عاماً على إعادة تحقيق الوحدة لاتزال الذاكرة تختزن صورة عن ذلك الواقع الأليم ومشاهد وأحداثاً تظهر معاناة التردد على وزارة الداخلية والتي خصصت مبنى خارج فنائها لمنح تراخيص السفر إلى الشمال وكذلك التردد على اقسام الشرطة والمباحث ولجان الدفاع لاستكمال تعبئة الاستمارة المطلوبة والتي بموجبها تمنح الرخصة بالسفر، فيما كانت مصلحة الهجرة والجوازات تختص بطلب السفر إلى بقية دول العالم وان كان السفر محصوراً على عدد من الدول إلا أن الإجراءات لم تكن بذاك التعقيد والتطويل فعبور القارات كان أسهل وأخف وطأة من عبور براميل المفاليس أو الشريجة للوصول إلى القرية أو إلى مدينة تعز. هذه السطور نرصد ملخصاً لسنوات المعاناة في زمن التشطير لنذكر به زمناً كان شيئاً من الماضي ولم يتكرر في وطن 22مايو. دون سابق إنذار أبو مجد يتذكر تلك السنوات بالقول: كنت أقضي العطلة المدرسية ومناسبات الاعياد في القرية بين أوساط أسرتي، فجأة وفي مطلع السبعينيات تحديداً وجدت السفر من عدن إلى القرية لم يعد ممكناً ولم أدرك مايدور لصغر سني، وكل ما أدركه إنني حرمت من زيارة أمي وإخوتي الصغار وفيما انقطعت أخبار الأهل ولم نعد نسمعها إلا عند قدوم أحد من هناك وهذا كان نادراً. وبعد فترة سمعت أن هناك رخص تمنح للسفر إلى الشطر الشمالي، فهرعت إلى المكان لكن وجدت أن ذلك ليس بالسهولة التي تصورتها بل هناك إجراءات لابد من إتباعها بما في ذلك إيجاد ضمين للعودة ويشترط فيه أن يكون مدنياً ولديه سنوات خدمة. ويضيف أبو مجد قائلاً: كنا نحصل على استمارة طلب السفر من مكتب التربية باعتبارنا طلاباً وكنا نبدأ بالمدرسة ثم لجان الدفاع محل الإقامة، منها الحارة والحي ثم المدينة ثم قسم الشرطة أي المباحث ثم العودة إلى مكتب تراخيص وزارة الداخلية بكريتر وتلك الإجراءات كانت تستغرق نحو شهر كامل لأن بعض الجهات تقول لك إطرح الاستمارة وارجع لها غداً.. وهكذا نحصل على رخصة السفر بعد شق الأنفس. وكنا مضطرين إلى زيارة الأهل خاصة الأم والتي أجبرنا على فراقها للإلتحاق بالمدرسة ويقول: أيضاً عندما كانت تتم اللقاءات بين القيادات في الشطرين كنا نسمع عبر وسائل الإعلام مناقشة تسهيل حركة تنقل المواطنين بين الشطرين خلال تلك اللقاءات، وكان ينتابنا شعور بالفرح وتغمرنا فرحة لاتوصف.. ذلك الشعور سرعان مايصبح سراباً عندما لا نجد أي تغيير على أرض الواقع وإن ماقيل من باب الاستهلاك الإعلامي فقط. للضرورة احكام لكن الأخ/سلطان الزبيري يركز على جانب من تلك المعاناة إذ يقول: في إحدى المرات طلب مني إحضار ضمين لاستكمال استخراج رخصة السفر إلى الشمال ولم أجد أحداً يضمنني فإخواني كلهم ضباط في الجيش ولا تقبل ضماناتهم، فالضامن يجب أن يكون مدنياً فأحضرت ضميناً ودفعت له مبلغاً مالياً وكنت مضطراً إلى ذلك لزيارة أسرتي التي حرمت من زيارتها لسنوات فالطمني ظل يتردد ويترقب عودتي من السفر ولم يهدأ له بال حتى عدت بالفعل وألقيت الضمانة، لأنه كان إذا لم يعد المسافر يتم حجز الضمين حتى عودته وهناك حالات كثيرة من هذا النوع. ويتذكر سلطان بمرارة: لقد توفي والدي في الشمال ولم نعلم عن وفاته إلا بعد ثلاثة أشهر وإنها فعلاً كانت مأساة حرمنا حتى من الحزن على والدنا في وفاته. بين القارات والبراميل الأخ علي عبده يقول بسخرية: كان من السهل أن تخرج إلى اي بلد بسهولة لكن من الصعب أن تخطو فوق البراميل على الحدود لتصل إلى الشطر الآخر. وكانت هناك قيود تفرض على الطلاب أو الكوادر لضمان بقائهم في الجنوب وعدم مغادرتهم إلى الشطر الشمالي وهؤلاء كانوا يتطلعون إلى بناء مستقبلهم في واقع أفضل في الشمال ويحلمون في تحسين ظروفهم المعيشية، لذا كان البعض منهم يلجأ إلى التهرب عبر مختلف المنافذ لكن إذا القي القبض على أحدهم فإن مصيره سجن المنصورة. قلق دائم معاناة عبدالرحيم مقبل تبدو بسيطة مقارنة مع ما أوردناه سابقاً حيث كان عبدالرحيم يأتي من تعز إلى عدن للعمل في إحدى الورش وكان عند دخوله حدود الجنوب تعطى له قسيمة العودة والتي بموجبها يستطيع مغادرة عدن وقت ما يشاء لكن عبدالرحيم يقول: كنا نعيش حالة قلق دائم إذا فقدت تلك القسيمة فإننا لن نتمكن من الخروج بسهولة. ويصف لنا الوضع حينها بقوله : كانت هناك حاجة ملحة للعمالة المهنية ونحن كنا نأتي بطلب من صاحب الورشة للعمل في عدن فكل العمالة الماهرة تمكنت من مغادرة الجنوب بطرق شرعية أو غير شرعية تعمل في الشمال خاصة بعد ان شهدت الحياة ركوداً في شتى مجالات الحياة.