ربما لا يعترف بعضهم بسطوة مرض العصر (القلق) والتوترات النفسية في إحداث مشاكل تعيق تقدمنا الحياتي ، وبعضها يمثل لنا انتكاسة تتسبب في تغيير مجرى حياتنا سلبياً ، ولكن حينما تلتقي تلك التحليلات العلمية مع ما نمتلكه من موروثات اجتماعية وثقافية ودينية في تفسير وعلاج تلك الأمراض النفسية فالأمر يستحق أن نهتم به، فقد توصل غاري ماركوس في مقال علمي اجتماعي نشر في صحيفة التايمز اللندنية إلى أن القلق بشأن المستقبل ما هو إلا هدر غير منطقي لطاقات البشر. فكل إنسان يقلق، الآباء يقلقون على أطفالهم، وهناك ملايين البشر يشعرون بالقلق على مستقبلهم الدراسي والمهني والاجتماعي، كما أننا جميعًا مصابون بالقلق للتزايد السريع في أسعار الغذاء والوقود، ولكن ... هل القلق شيء ضروري وحتمي لا يمكننا تجنبه؟ إن الحكمة التقليدية تقول بأن ما يفعله البشر لا بد من أن له سببًا مقبولاً. ربما لا نحب القلق، ولكن النظرية تقول بأن القلق لا بد وأن له بعض الفوائد.. ربما حوالى 10 في المئة من الأمور التي نقلق بشأنها هي أمور واقعية حقيقة، أما بقية الأمور فهي مجرد هراء قد لا يحدث أو قد حدث ولم يعد في مقدورنا فعل أي شيء بشأنه ( مثل فقدان الأموال في البورصة). وتوضح الدراسات أن الأشخاص الذين يقلقون كثيرا يكونون في العادة أقل فعالية من غيرهم الذين لا يقلقون، كما أنهم في الغالب أقل سعادة. ومن خلال التجارب، اتضح أن القلقين أبطأ في الاستجابة من غير القلقين ( لأن القلق يستهلك الطاقة العقلية التي تعمل بفعالية عند استخدامها في أمر ما) وقد أظهرت دراسة معملية حديثة أجريت في جامعة بنسلفانيا أن مجرد وجود فرصة للقلق لمدة خمس دقائق كافية لتحطيم الحالة المعنوية للشخص.. «ابداع» التقت عدداً من الخبراء النفسانيين وعلماء التنمية البشرية للتعرف من ذوي الشأن عن تفاصيل الموضوع. فوائد القلق ! الدكتورة نادية العريقي أستاذة علم النفس التربوي بكلية التربية جامعة عدن تقول: ربما يكون من فوائد القلق أنه يحفزنا من أجل الاستعداد لاتخاذ موقف. فنحن ندرك التهديد – فقد يكون ثعبان على مسافة قريبة منا – وهنا ترتفع معدلات هرمون الكورتيزول وهو الهرمون الذي يتم إفرازه استجابة للخوف والاستعداد للقتال والدفاع عن أنفسنا، كما أن معظم القلق، في الوقت الحالي على الأقل، ليس بشأن تهديد فوري ولكنه بشأن تهديد بعيد الأمد. ماذا سيحدث إذا فقدت وظيفتي؟ هل سيستمر أصدقائي في حبهم لي؟ إن مثل تلك الأسئلة تستحق الاهتمام ولكنها ليست من ذلك النوع الذي يمكن حله في الحال.. ففي هذه الظروف، تكون مستويات الكورتيزول المرتفعة ضارة بنا. فالهرمون يهيئ أجسامنا للنشاط الجسدي إذا اضطررنا للهرب من الخطر. كما أنه يعمل أيضًا على تثبيط الجهاز المناعي مما يجعلنا عرضة للإصابات. إن ما نحتاج إلى عمله حقيقة هو الاسترخاء والتفكير بوضوح، ولكن التطور يقودنا عادة في الاتجاه المعاكس، فالتوتر عادة يؤدي إلى القلق والشلل و الاكتئاب أكثر مما يؤدي إلى التوصل إلى حلول مبتكرة. وقد وجد العلم بأن أولئك الأشخاص الذين ينغمسون في مشاكلهم ويبحثون عن الدعم الاجتماعي تنخفض لديهم مستويات الكورتيزول أكثر من أولئك الذين لا يفعلون ذلك. أصل القلق وتضيف الدكتورة نادية ... وأصل كلمة القلق هي كلمة إنكليزية تعني الخنق. وهذا ما يفعله القلق عادة بالشخص، فالقلق يسيطر على عقولنا حتى لا نستطيع التفكير في أي شيء آخر. وعندما يتمكن منا القلق يصبح قويًا ويستنزف وقتنا وطاقتنا. وما هو أسوأ أن يتحول القلق إلى ضريبة مفروضة على قلوبنا. وفي بداية هذا العام ربطت دراسة إنجليزية بين الأزمات المالية وتزايد عدد الأزمات القلبية، وهذا قد يرجع إلى أن القلق المزمن والاكتئاب بدوره من الممكن أن يقود الأشخاص إلى إدمان سلوكيات سيئة تؤثر على عمله أو دراسته أو أسرته أو ربما الأكل بشكل مفرط وعدم ممارسة الرياضة.. يقال عادة إن القلق مثل الكرسي الهزاز، فهو يمدك بشيء تفعله ولكنه لا ينقلك إلى أي مكان. ربما زودنا التطور بفرصة للقلق، ولكن هذا لا يعني أنه يجب علينا أن نبلع الطعم. مسببات القلق يونس عبد الحليم من مركز المدار للتنمية الإنسانية يتحدث عن مسببات القلق قائلاً: تتمثل مسببات القلق في ثلاث مجموعات: تلك التي تتطلب اهتمامًا في الحال (أجراس الخطر)، وتلك التي تحثنا على التركيز على المشكلات المستمرة، وتلك المسببات التي تسبق تهديدات مستقبلية. أما المجموعة الأولى التي تسمى أجراس الخطر فتتعلق بالأعمال الخطرة. فإذا رأيت دخانًا مثلاً وكنت قلقًا هل هناك حريق، فإنك تقوم بترك كل شيء والبدء في تحديد ما الذي يجب فعله.. أما المشاكل المقلقة التي تتكرر على ذاكرتنا دائمًا وهي المجموعة الثانية من مسببات القلق مثل أخذ الأطفال دروسهم وواجباتهم اليومية أو تذكرك بأن ترسل بطاقة تهنئة بمناسبة اجتماعية ما فيجب أن تتركها إلى التقويم، فيمكنك أن تستخدم الكمبيوتر أو برامج التخطيط اليومي من أجل التخلص من القلق في مثل هذه الحالات.. أما المشاكل المستقبلية فتستحق الاهتمام ولكن لا تتركها تتحكم في حياتك. حدد وقتًا محددًا كل يوم كي تقلق فيه بشأن المخاطر المستقبلية مثل المشكلات المالية ومستقبلك الوظيفي وما يمكن عمله بشأنها، ولا تجعل نفسك تفكر في تلك القضايا في وقت آخر غير الذي حددته لذلك. لا تضيع طاقتك ويواص الأستاذ يونس ناصحاً: استعد للمستقبل المقلق ولكن لا تنزعج... من الجيد أن تفكر في المستقبل ولكن ليس من المفيد أن تقلق بشأن الأشياء الخارجة عن إرادتك. لا تضيع طاقتك العقلية في مشكلات لا يمكنك أن تفعل أي شيء بشأنها. يجب أن تكون شخصًا عقلانيا ... فالقلق يأتي من التفكير الآلي غير الموجه. فإذا وجدت نفسك تقلق بشأن أمر واحد مرتين في اليوم، اسأل نفسك هل الشيء الذي تقلق بشأنه يمكنك تغييره أم لا. إذا لم يكن في مقدورك تغييره، فاجبر نفسك على التخلي عن القلق بشأنه وفكر في شيء مختلف.. ومن الأشياء المهمة كذلك ألا تقتل نفسك محاولاً أن تأخذ قرارات كاملة ومثالية، فكل قرار تتخذه يستهلك طاقتك العقلية. قد يكون من المفيد أن تفكر طويلا بشأن هل تتزوج أم لا، هل تنتقل إلى وظيفة جديدة أم لا، يكون لك طفل أم لا، ولكن عندما تكون في حالة خيار بين نوعين من السيارات أيها تشتري فلا تقضي وقتا طويلا في ذلك، فالشوكولاته والفانيليا كلاهما جيدتان وفي نهاية الأمر ليس من المهم أيهما تأكل. علاج القلق الدكتورة جيريلين روس مديرة مركز روس للقلق والاضطرابات المصاحبة له والدكتورة لندا أندروس أستاذ مساعد الطب النفسي بجامعة هيوستن تقدمان لك خطوات العلاج من القلق, حتى لايدمر حياتك.. تقول الدكتورة أندروس في كتابها ( القلق مسبباته وعلاجه )إن القلق, على الرغم من مساوئه, فإنه مفيد في بعض الظروف , لأنه رد الفعل الطبيعي لتلك الضغوط القاسية التي قد نتعرض لها في عالمنا اليوم. فالقلق هو الذي يحركنا, ويجعلنا نستعد للمواجهة وأحيانا يعطينا الطاقة لاتخاذ خطوة حاسمة تفرضها الظروف , عندما نحتاج إلى القيام بها..لكن عندما يتمكن منك القلق على حد تعبير د. أندروس يستجيب جسدك لعدة تغييرات سلبية مرضية , منها اضطراب في النوم والأكل والتركيز, وقد تصاب على الأرجح بصداع مستمر, وألم في معدتك , وقد يصل الأمر أيضا إلى حد اصابتك بشبه أزمة في التنفس مع سرعة نبض القلب الخائف, والعرق البارد الغزير... كلها أعراض للقلق وأكثرها خطورة هو إحساسك بالاكتئاب وهما يتلازمان كما تقول د. روس, عندما يستبد بك القلق فيشل حركتك ويمنعك من القيام بواجباتك اليومية ونشاطك المعتاد الذي يجب أن تقوم به, هنا تحتاج للمساعدة حتى لاتتأثر حياتك سلبيا بالقلق.. فغالبا مايحولك القلق إلى إنسان غير قادر على اتخاذ القرار السليم , أو تفقد القدرة على مواجهة موقف قد تتعرض له, فتؤجل قراراتك, وتلغي مواعيد مهمة هروبا من المواجهة لمجرد أن خوف القلق يكاد يشل حركتك. فكما تؤكد د. روس أن الذين يتملكهم القلق, يتجنبون المواقف الصعبة ويبتعدون عن التعامل مع الناس وعن أي مواجهة فهم يكونون بلا تركيز, لأن درجة قلقهم عالية جدا, وتحولهم إلى أشخاص مشلولي التفكير والحركة والمواجهة. وتحتاج هذه الدرجة من القلق إلى مساعدة طبية كما ترى د. روس مديرة مركز روس للقلق واضطراباته في كتابها المذكور. كيف تواجهين القلق؟ ينصح الأستاذ يونس عبد الحيليم بأن تضع القلق في حجمه الطبيعي, وتفصل تماما بين المخاوف الحقيقية للحدث الذي تعرضت له, وبين هواجسك وخيالاتك التي تعظم دائما الخطر وقد تحوله إلى كارثة... تعلم كيف تسيطرعلى المخاوف التي تستطيع أن تسيطر عليها... أما المخاوف الأخرى التي لاتقدر على ابعادها فحاول أن تتقبلها واسأل نفسك دائما: ماهي المخاوف التي يمكن ان تسيطر عليها, وما الذي لاتقدر على تغييره؟ وباجابتك الصادقة مع نفسك يمكن القيام بما هو مطلوب.. غالبا ما تكون بحاجة إلي أسرة تحتويك أو صديق تفضي إليه بمخاوفك وقلقك ومشاعرك المضطربة وتساعدك على التحدث في مشكلتك.. تعلم فن الاسترخاء والعلاج هنا, كما تشرح د. نادية العريقي , يسير في خطين متوازيين , أولهما: عليك تحدي الأفكار السلبية, فأية فكرة قد تطرأ, عليك بالتفكير بسرعة فيها وسؤال نفسك هل هي فكرة ايجابية تساعدني على مقاومة القلق أم هي فكرة سلبية قد تزيد من خوفي؟ تقول د. نادية ذلك صعب جدا ولكنه مهم ويأتي بنتيجة ايجابية فعالة. والأمر الثاني هو أن تتعلم فن الاسترخاء.. كيف تأخذين النفس العميق , فعندما يقلق الناس, هم يحبسون أنفاسهم , ونحن بدورنا نحاول أن نعلمهم من جديد كيف يتنفسون بطريقة صحية سليمة تهدئ من روع جهازهم العصبي. وتنصح د. نادية بالقيام بتمرينات اليوجا, أو التأمل, أو القيام بتمرينات رياضية, وهي تؤكد أن الرياضة تأتي بنتيجة مذهلة في قهر القلق. وتضيف د. نادية أنه عليك ألا تخلط في قلقك بين كل الأمور حتي لاتقع في براثن المرض النفسي , فانت قلق من حدث ما , إذن عليك ان تبعد قلقك عن أمور أخرى في حياتك لانك إذا لم تفرق بين أسباب القلق ومصدره, فسوف تخسر السلوك السليم في حياتك, وسوف تفقد علاقاتك الاجتماعية, وتخسر ثقتك في نفسك وقدراتك الفطرية... حاول الا تزيد من الضغوط في حياتك والا تضيف إلى كاهلك ضغطا نفسيا آخر فوق الضغط الذي تعاني منه فعلا.. وتؤكد حقيقة مهمة هي انه كلما كان الحدث المخيف الذي تعرضت له في حياتك كبيرا وضخما ومثيرا للدهشة اخذ منك وقتا طويلا للوقوف على قدميك مرة أخرى سليمة, وإذا كنت مكتئباً, فذلك سوف يعقد الأمور أكثر.. وتقول إن الطلاق هو أفظع شيء قد تتعرض له المرأة ولا تشفى من عواقبه أو القلق الذي نتج عنه إلا بعد سنوات, حتى تستطيع المرأة الوقوف مرة أخرى على قدميها وتسيطر على أحزانها وصدمتها! والحقيقة الأكيدة التي نهمس بها هي انه يجب عليك أن تكافح حتى لاتقف حياتك , يجب عليك أن تملئ حياتك وتشغل فراغك بالعمل وبالعلاقات الاجتماعية الطيبة ، والانشغال بالأعمال الحالية وتحقيق النجاح فيها ، فذلك سوف يضعك على طريق الشفاء من القلق, ومع الأيام ومع العمل الجاد والصحبة الجميلة مع الأصدقاء والأسرة, سوف تفاجأ بأن الخوف والقلق يبتعدان عنك.