يُعد شهر رمضان المبارك، شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار، ينتظره جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بفارغ الصبر، ويتهافت فيه غالبيتهم على الامتثال لشعائره وإحياء طقوسه الدينية، المتمثلة في ركن العبادة بتأدية صلاة الجماعة في مواقيتها في المساجد، والتفكير بمناسك العمرة، والإكثار من الأذكار والابتهال للمولى عز وجل، في دور العبادة والمنازل، وترتيل آيات القرآن الكريم وتلاوة المصحف الشريف، وتختيم الختمة من أول سورة حتى آخر آية. حياة المسلم في رمضان لا تنحصر على ترديد ذكر الله واستغفاره طلباً ورجاء لعفوه ومغفرته والفوز بصفحه ورضوانه، بمجرد الخشوع في العبادات والتردد على المساجد والمكوث في حرماتها أكثر ساعات اليوم، إذ لا بد أن ينعكس التزام المسلم وانضباطه بأحكام الصيام، على سلوكه وطبائعه، من خلال مبادرته لوصل الأرحام، وإصلاح ذات البين، والالتصاق بهموم ذوي القربى، ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين بالمال أو الموقف المساند أو المشورة والنصيحة، وإعلاء راية الحق، وإزهاق الباطل ورفع المظالم عن المستضعفين، كل حسب طاقته وعلى قدر استطاعته وموقعه القيادي أو الريادي، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. رمضان في الريف بلا صخب أو ضجيج ولا يختلف اثنان على أن قضاء أيام الشهر الفضيل بين أحضان الأهل والأقارب، يعزز من شعور البهجة في النفوس، ويزرع الابتسامة في حنايا الوجوه ويفيض بالبشر والنور من حدقات العيون، لذلك لا نعجب ولا نستغرب عندما نسمع عن رب أسرة حزم حقائب سفره، وانتقل بكيانه وأفراد عائلته من المدينة المتوفر فيها كل سبل الراحة والعيش، إلى قريته المتواضعة أو الريف المنسي، لينعم بأيام رمضان الخالية من الصخب والضجيج والفوضى، مجسداً بذلك صورة تلاحم الإنسان بأرضه، مهما علا شأنه أو ارتفعت مكانته، معبراً عن مدى حرصه على ربط أبنائه بالجذور التي أنبتت أجدادهم، ونشرت ذريتهم في سائر المعمورة. وبعيداً عن مرتفعات القرى، وهضاب مناطق الأرياف، سنكتفي بلملمة الأوراق المبعثرة، لنجتر الخطى على هدي الأفكار، التي انشغلت خلال الأيام القليلة الماضية وما تزال، بهم الولوج إلى شهر رمضان المبارك، بعتاد نفسي وروحي، قادر على استثمار أيامه لتغليب كفة ميزان الأجر والثواب، ومضاعفة رصيد الحسنات في قائمة الحساب الإلهي. حبة تمر وشربة ماء ودخان سيجارة في مدينة المكلا، كسائر المدن في بلادنا، الكل أجمع، على أن الصوم عن الطعام، يمنح الصائم الشعور بمعاناة أخيه الجائع، ويريح البطن من القلصات والإنزيمات التي تفرزها المعدة أثناء هضمها الطعام خلال ثلاث وجبات تقريباً وعلى امتداد عام كامل، ولكن، ما تفسيرنا لتصرف أولئك الذين يترقبون دوران عقارب الساعة حتى يحين موعد أذان المغرب، فتراهم، يكتفون بشربة ماء على عجل، وحبة تمر، يتبعونها مباشرة بإشعال سيجارة، ينفثون دخانها السام في الهواء الطلق؟! دعك من أولئك النفر، فهم يدمرون صحتهم بأيديهم ويجرحون صيامهم عمداً، وبإمكاننا أن نصبغ عليهم صفة ضعاف النفوس، وفاقدي العزم والهمة. ماراثون موائد الإفطار الرمضانية لا تجد بعض ربات البيوت، حرجاً من جعل أيام الشهر الكريم، مضماراً للبذخ والإسراف، الذي تشهده موائد الإفطار، حيث المحمر والمشمر، والوجبات التي تسبح في بحر من الزيوت والدهنيات، والحلويات المشبعة بالسكر الذي خف وزنه وغلا سعره، والضحية في كل الأحوال رب الأسرة، الذي يكدح ويلهث وينحت الصخر، حتى يؤمن مستلزمات بيته في رمضان. التنافس غير الشريف في طول موائد الإفطار وعرضها، ستتراجع حدته هذا العام، تحت ضربات الغلاء الفاحش ومعاول طفح الأسعار اصبر واحتسب في أزقة شوارع المكلا الضيقة، سألني أحد الموظفين، الذي رفض ذكر اسمه، عن موعد استلام الإكرامية، وخاطبني قائلاً: تصور رمضان العام الماضي استلمت إكرامية من مرفقي الحكومي، وإكرامية من المؤسسة الخاصة التي أعمل بها خلال الفترة المسائية، وحتى الآن يبدو أن عهد صرف الإكراميات ولى وراح، وكله من الأزمة المالية العالمية، بس بالله عليك، أيش أسوي، أشحت أو أسرق، أو أطلب تدخلاً من الأممالمتحدة لجدولة المديونية اللي تثقل كاهلي، عشرون ألفاً عند صاحب البقالة، وعشرة آلاف سلفة من عند واحد صاحبي تعبان وحالته مثل حالتي، وألفان لصاحب الخضرة، طيب وبعدين، قلت له باختصار: اصبر واحتسب. مقاه شعبية تنتشي مقاهي مدينة المكلا، الباطنية واحد، الباطنية اثنين، الباطنية ثلاثة، أسوان، خلال أيام شهر رمضان المبارك، بعبقها الفريد، وتكتظ باحاتها، بعد صلاة التراويح بمرتاديها من مختلف الفئات العمرية والمستويات الاجتماعية، فمن بينهم الدكتور، والمهندس والمسؤول والأستاذ الجامعي، والموظف البسيط، والشاب الطموح، والفتى اليافع، كلهم يجتمعون في حلقات وجلسات، يسودها طابع النقاش والجدال وتبادل وجهات النظر، وعلى أصوات أكواب الشاي والروائح المنبعثة من فنجان القهوة، يمارس الغالبية العظمى من زبائن هذه المقاهي الألعاب الشعبية المسلية، الباشته والكيرم والدمنة، ومنهم من يفضل متابعة الأخبار من على شاشات التلفزيون أو مباريات كرة القدم، وقلة هم أولئك الذين يلتزمون مبدأ الحياد، حيث يقنعون بالتأمل بصمت، والخلود للنفس، بشيء من الصفاء والدعة. لله يا محسنين تنطبع الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك بهدوء نسبي، يسبق اندلاع عاصفة إزاحة الستار عن مهرجان التسول. أبطال مهرجان هذا العام وكل عام في المكلا وغيرها من المدن الكبرى في بلادنا، هم شرائح في مختلف الأعمار منهم كبار في السن يصلون لعمر الشيخوخة والكهولة ومن بينهم من هم في سن الشباب والفتية، ممن تلاحظهم في كل مكان خاصة وقت الذروة يجوبون شوارع المدينة، ويطرقون الأبواب، ويخيمون أمام مقار البنوك ومكاتب الصرافة، والمؤسسات الخيرية، والشركات الاقتصادية. بينما يلجأ بعضهم للاعتكاف في المساجد، وانتهاز فرصة انتهاء فريضة الصلاة ليقف أمام جموع المصلين ليشرح معاناته ويتلو شكواه عله يكسب عطفهم وينال إحسانهم بالأوراق النقدية والريالات المعدنية . الشوارع التجارية في مدينة المكلا هذا العام كعادتها من المحتمل أن تعج بالبضائع وتكتظ بالمواطنين وتزخر بالمتسولين، وغالبيتهم ليسوا يمنيين، ومعظمهم يمارس مهنة الشحاذة في شكل مجموعات، تتمركز في نطاق جغرافي محدد، وتتوزع الأدوار والمهام فيما بينهم لجني الحصاد عبر إيجاد أو رصد الشخص المناسب، الذي سيمنحهم من بركة الله. في أحيان كثيرة يجد الرجل أو المرأة نفسه أمام وضع محرج، فعندما يبادر بالتصدق على أحد المتسولين يفاجأ بأنه محاصر من أفراد مجموعته التي تتربص به، وتوقعه في كمين وتحاول إخراجه عن طوره، وإرغامه على الدفع بالتي هي أحسن. في حين يلجأ بعض الشحاذين إلى الاتجار بالأطفال في عمليات التسول، حيث يدفع بهم أو يعرضهم أمام المارة في الطرقات الحيوية، لإثارة مشاعرهم، وإلهاب أحاسيسهم، والفوز بما تجود به أنفسهم. ومن بين المشاهد الأكثر إيلاماً وقسوة في مهرجان العام الماضي، وربما مهرجان هذا العام، انتشار عدد من النساء الشابات بأطفالهن الرضع والعجائز على جانبي جسر المشاة في خور المكلا المحاذي لموقف بلقيس، وافتراش أخريات داخل باحات المساجد وخارجها، في منظر غير مألوف على الإطلاق يعكس حقيقة اتساع رقعة الفقر في المكلا ومحافظة حضرموت واليمن ككل، رغم نشاط الجمعيات الخيرية الغير مسيسة، وعطايا رجال البر والإحسان في الداخل والخارج ممن يمدون أيديهم للضعفاء والغلابي، بصمت ومن غير جعجعة أو تنطع، فأين يكمن الخلل!؟ اسالوا جهينة، فعندها الخبر اليقين. قولوا آمين رغم كل الظروف العصيبة التي تغتال فرحتنا بحلول رمضان، نجد عزاءنا في الدعاء للمولى عز وجل، صاغرين شاكرين نعمه سبحانه وتعالى التي لا تعد ولا تحصى، واضعين نصب أعيننا، ومستحضرين بأفئدتنا معاناة إخواننا الأعزاء وفلذات أكبادنا الذين سيقضون رمضان هذا العام، في العراء أو بعيداً عن مساكنهم ومنازلهم وقراهم التي دكتها السيول والأمطار، وحولتها خراباً يباباً، فشتت شملهم، وجعلتهم يتقلبون على جمر الشكوى وضيق الحال، قلوبنا معكم، حتى تنجلي الغيمة، وتنزاح الكربة، قولوا آمين!