لاشك أن الدراما التلفزيونية السورية نجحت في السنوات القلائل الماضية إلى حد بعيد في كسر الاحتكار العتيد الذي تمتعت به وفرضته الدراما المصرية على المشاهد العربي لعقود خلت. لكن الامتثال لظروف التسويق ودواعي العرض والطلب تفرض حتما بصماتها المؤثرة على النواحي الإبداعية لأي عمل درامي كبير لذا فقد علت الأصوات المنتقدة للجزء الرابع من مسلسل باب الحارة الذي تابعناه في رمضان . ركز النقاد (السوريون خصوصا) على المعالجة التاريخية في العمل لكونه يتناول فترة زمنية ليست موغلة في القدم بل ثلاثينيات القرن الماضي التي شهدت شمول بلاد الشام بنظام (الانتداب) الفرنسي في أعقاب الحرب العالمية الأولى بينما خضع العراق وفلسطين ومصر للانتداب البريطاني كما هو معروف . يزعم النقاد أن الجزء الرابع من المسلسل الذي كتبه كمال مرة وأخرجه بسام الملا استند إلى واقعة تاريخية افتراضية لا أساس لها من الصحة في التاريخ ألا وهي واقعة حصار الحارة وإحاطتها بالجنود والدبابات الفرنسية كما رأينا . وجادل النقاد العارفون بالبيئة الشامية بان الحصار المطبق الذي ظهر في العمل لا يمكن حدوثه على أرض الواقع نظرا لطبيعة الحارة الشامية (والعربية غالبا) التي تلتصق بيوتها بعضها بالآخر التصاقا حميما وتلتقي وتتشابك مع الحارات الأخرى عبر سطوحها ودروبها الضيقة المتعرجة التي لا تتسع للدبابات ويمكن للمرء أن ينفذ بسهولة من هذا البيت إلى ذاك ومن هذه الحارة إلى تلك دون الحاجة إلى أنفاق ودهاليز . لم ينف الكاتب ولا المخرج أن الحصار كان افتراضيا ودفعوا (في اللقاءات الصحفية والتلفزيونية ) بأنهم أرادوا (تجبير التاريخ لمصلحة الواقع ) أي أن حصار الحارة وظف رمزيا ليعني حصار غزة الذي لا يزال طريا في الوجدان العربي وصمود أهل الحارة في وجه المحتل يعني صمود المقاومة في غزة بوجه الاحتلال الإسرائيلي ومن هنا يمكن بسهولة الوصول إلى بقية الدلالات والإحالات الرمزية مثل نقل المؤن عبر الأنفاق وتبادل الأسرى وغيرها . اتسعت الحارة الشامية الصغيرة - إذن -- عبر دلالة الرمز لتعني غزة وجنوب لبنان وكل حالات الصمود والمقاومة وهذا ما يفسر (أيضا) المبالغة الشديدة في تحويل الحارة الشعبية البسيطة إلى ساحة حرب ضروس وعسكرة رجالها ( ونسائها أيضا ) فإذا كانت الأجزاء السابقة من العمل تنتقد لأنها تهمش المرأة العربية وتجعلها تابعة ذليلة (لأبن عمها ) الرجل فها هي الآن في الجزء الرابع تقاتل بشجاعة لا تتوفر للرجال أنفسهم وتصطاد جنود الاحتلال بمسدسها بكل براعة وكأنها تصطاد الذباب وليس جنود فرنسا . وفي رأيي أن لجوء الكاتب في هذا الجزء والجزء الذي سبقه إلى التاريخ السياسي وتركه التاريخ الاجتماعي قد أضعف العمل كثيرا وأفقده طابعه المميز الحميم وفي محاولته للامساك بمختلف الخيوط الاجتماعية والتاريخية أوقع العمل في حيرة وأزمة هوية إذ أنه وعبر أربعة أجزاء لم يرتق إلى مصاف العمل الملحمي التاريخي ولم نلحظ فيه تقدم المسار الزمني وتعاقب الأجيال ولم يستفد الكاتب كثيرا من المزايا التقنية التي تتيحها الدراما التلفزيونية ليحقق نقلات هامة في الزمن فقد كبر المشاهدون أنفسهم وتغيرت أحوالهم كثيرا خلال السنوات الأربع الماضية لكن المسلسل ظل يخطو ببطء شديد وبقيت الحارة بأزقتها ومسجدها وشيخها وحارسها وحلاقها وخبازها وأراملها الشهيرات كما هي وكأنها لا تخضع لقانون التطور الطبيعي . وبينما عاب بعض النقاد على هذا الجزء خلوه من النجوم أعتقد أن هذه إحدى محاسن العمل وليس نقائصه فغياب عباس النوري (أبو عصام) وسامر المصري (العكيد أبو شهاب ) أعطى الفرصة الذهبية لنجوم الصف الثاني للظهور وتطوير شخصياتهم الدرامية التي كانت أقرب إلى النمطية مثل وفيق الزعيم (أبو حاتم ) وميلاد يوسف (عصام) و حسن الدكاك (أبو بشير ) وغيرهم وحتى الشخصيات السلبية أخذت نصيبها من التطوير فحل مصطفى الخاني (النمس ) بنجاح محل شخصية (أبو غالب )الوغد العتيد التي استهلكت كثيرا في الأجزاء الماضية . ورغم كل المثالب والعيوب ينبغي الاعتراف بأن باب الحارة ظل يتمتع بأعلى نسبة مشاهدة وسط الكم الهائل من مسلسلات رمضان وقد أفلح دون غيره في أن يشد كل أفراد العائلة إلى الشاشة بشغف وقت عرضه ويثير عندهم روح الشك والترقب ويحسب لمهارة الكاتب أيضا استغلاله الفذ لغياب (أبو شهاب ) لصالح روح الإثارة في العمل عبر توقع ظهوره في كل لحظة والبحث عن لغز اختفاءه .