قبل نحو خمس سنوات، كتبت مسرحية «ميدانية»، بمشاهد كرنفالية ، لعرضها بميدان «السبعين» بمناسبة وطنية، بعنوان «سفر الأعراس»، مستوحاة من قصة النبي سليمان «عليه السلام» وملكة سبأ، كما وردت في القرآن الكريم «1» مضطراً لإطلاق اسم «بلقيس» على ملكة سبأ، لكني تجنبت الخرافات في كتب المؤرخين عن الاخباريين العرب، والعرب المسلمين وغير المسلمين، التي أساءت لملكة سبأ، باعتبارها الملكة بلقيس، ولحرصي على دقة صحة المعلومات فيما يخص مملكة سبأ، وآلهتها وطقوس العبادة ومشاكل وهموم أهلها الاجتماعية والاقتصادية، بذلت جهداً وصرفت وقتاً طويلاً، في تقليب صفحات مراجع عدة، قبل البدء في الكتابة، ثم بذل المخرج القدير الفنان جميل محفوظ، الذي تعاونا معاً من قبل أنا كمؤلف وهو كمخرج في تقديم ثلاث مسرحيات، كانت الأولى بعنوان «الزلزال» التي عرضت في المهرجان الثالث للمسرح اليمني «مهرجان باكثير» عام 1995م بصنعاء «آخر مهرجان للمسرح اليمني»، باستنثناء مهرجان «ليالي عدن المسرحية» الذي أوقف وتم إلغاؤه تقريباً بعد دورته الثالثة والأخيرة عام 2007م «2» بذل المخرج جميل محفوظ جهداً كبيراً، لأكثر من عام ، في استكمال رؤيته الإخراجية ، ووضع خطةتحرك المجاميع الكثيرة من قوافل الإبل والحيوانات الأخرى، وموكب الملكة بلقيس، في أحد شوارع صنعاء الطويلة المشهورة، وصولاً إلى ميدان «السبعين» حيث تجري أحداث المسرحية، وكذا حركة الممثلين الرئيسيين، ومجاميع بناء سد مأرب، بالإضافة إلى تصميم الديكور والملابس والإكسسوار، وغير ذلك كثير، مما يتطلبه تقديم عرض مسرحي «ميداني» مصحوب بالرقص والغناء، يليق بمناسبة وطنية عظيمة «22مايو المجيد»، ولتنفيذ هذا العمل الفني الضخم ، الذي لا يزال تنفيذه حلماً فنياً كبيراً بالنسبة لي وللمخرج جميل محفوظ قدر المخرج ميزانية، وجدتها الجهات المسؤولة ميزانية كبيرة مبالغاً فيها، دون أن تناقش إن كان العرض المسرحي «الميداني» «سفر الأعراس» يستحق صرف ميزانية ضخمة، وعلى الرغم من أن المخرج بعد ذلك اضطر مجبراً لشطب بعض من أحلامه الفنية الكبيرة، وطموحاته الإخراجية، التي حلم بتجسيدها في «سفر الأعراس»، وبالتالي هبطت الميزانية إلى نحو «عشرة ملايين ريال يمني»، إلا أن الجهات المسؤولة لا تزال على موقفها الرافض لتنفيذ «سفر الأعراس» أو على الأقل الجلوس مع المخرج لمناقشة العمل، وهي التي تصرف في كل عام عشرات الملايين في المناسبات الوطنية لتنظيم حفلات فنية لا جديد فيها، يعلق في ذاكرة الجمهور ويليق بالمناسبة، بل إن معظم ما يقدم فيها غناء فردي أو جماعي تكرار باهت ومشوه لأغاني فنانينا الكبار العاطفية التي قدموها قبل إعادة تحقيق الوحدة، بل وقبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر ، أو في «أوبريت» شاحب بلا فكرة محددة وواضحة، وبلا رؤية فنية تأليفاً وإخراجاً وتصاغ له ألحان غير معبرة عن معاني النصوص الشعرية، على إيقاع سريع لترقص عليه فرقة الرقص، وفي أكثر من «أوبريت» تدخل «مجامر البخور» وينثر الفل، وترن «الزغاريد»، ليتحول المشهد إلى حفل «غسل» أو «صبحية» عروسة تأكد عريسها في ليلة الدُّخلة» من أنها زُفت إلى بيته عذراء، كما أن الرقص لا يختلف عن الرقص في «المخادر» وحفلات «الغسل والزفاف والصبحية»، في حين أن الرقص على خشبة المسرح، وفي «أوبريت» تحديداً، ينبغي أن يكون رقصاً تعبيرياً، وفي أكثر من «أوبريت» ينتهي المشهد الأخير بمجموعة الراقصين يحملون صورة كبيرة لفخامة الأخ علي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية بهدف موافقة الجهات المعنية «مكاتب الثقافة» على تقديم العمل وصرف ميزانية أكثر سخاء، وبلا أدنى احترام لصورة فخامة رئيس الجمهورية، يطوف بها الراقصون على خشبة المسرح محاطة «بمجامر البخور» و«مرشوشة بالفل». عشرات الملايين من الريالات تصرف في كل عام على هذا النوع من الحفلات العشوائية في المناسبات الوطنية، لكن «سفر الأعراس»، لم يحظ إلى اليوم بأقل اهتمام من الجهات الرسمية. لقد أطلت إطالة لي طائل من إطالتها، قهراً على حال الدراما اليمنية المتردي، لكن المهم علاقة «سفر الأعراس» بملكة سبأ، أو الملكة بلقيس كما سميت من قبل الاخباريين، وأعترف هنا لأول مرة، بأني اتبعت روايات الاخباريين، حين كتبت «سفر الأعراس» وأطلقت الاسم «بلقيس» على ملكة سبأ المذكورة في القرآن الكريم، وأنا غير مقتنع وما زلت إلى اليوم غير مقتنع بأن ملكة سبأ التي ذكرت في القرآن، هي الملكة بلقيس، وأن سبأ التي حكمتها هذه الملكة، هي سبأ اليمنية، فالقصة القرآنية في سورة «النمل» لا تذكر اسم هذه الملكة ولا تذكر أن سبأ هي سبأ اليمنية، التي ذكرها القرآن في سورة «سبأ» «3» «لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلنهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل». نعم اتبعت روايات الاخباريين وأنا غير مقتنع بها، لأني كتبت مسرحية، ولست مؤرخاً وكان هدفي تجسيد جانب من تاريخ وحاضر اليمن المجيد، التاريخ ممثل ببناء سد مأرب، والحاضر ممثل بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية. ومن الطريف أنني، قبل أن أكتب «سفر الأعراس»، كنت متشائماً من الكتابة عن ملكة سبأ، فوجدت في الكتابة عنها خلاصاً من تشاؤمي، والسبب في تشاؤمي أنني رأيت «الهدهد» مرتين أعقبتهما حربان، رأيت الهدهد في المرة الأولى في قرية «عقان» بمحافظة لحج، وبعد نحو اسبوعين، اندلعت حرب 31يناير 1986م في جنوب الوطن سابقاً، ورأيته في المرة الثانية في حديقة «التواهي» بعدن، وبعد أيام قليلة، بدأت حرب صيف 1994م بين مؤيدي الوحدة اليمنية ودعاة الإنفصال، لكني اليوم وأنا أكتب عن ملكة سبأ، أخشى أن تقوم ضدي حرب من نوع آخر، من قبل الذين سيرفضون ادعائي أن ملكة سبأ في سورة النمل ليست يمنية وليست «بلقيس» وأن سبأ المذكورة في هذه السورة، ليست سبأ اليمنية. وأبدأ حديثي معلقاً على بعض مما جاء في المقال الجميل للزميل عبدالرحمن أحمد عبده، بعنوان «هناك من لم يتجاهل «ملكتنا» في «فنون» العدد «14551» الصادر بتاريخ 2009/9/10م، عن مسلسل «بلقيس» الذي بثته قناة «دبي» الفضائية خلال شهر رمضان المبارك الفائت، والحقيقة أنني لم أتابع كل حلقات المسلسل، فالخمس الحلقات الأولى التي تابعتها أشعرتني بالملل لايقاعها الرتيب ثم تابعت عدة حلقات من الحلقات الأخيرة، فلم أجد الإنتاج الضخم الموازي لعظمة الملكة بلقيس، كما غلب على الممثلين الأداء المسرحي حتى في نطق الحوار، ولم يكن المسلسل بمستوى بعض المسلسلات السورية من حيث ضخامة الإنتاج، مثل «الزير سالم» و«أبو جعفر المنصور» إلا أن المؤلف كان فعلاً موفقاً بالابتعاد عن الجانب الديني المتمثل بالعلاقة بين النبي سليمان وملكة سبأ، لأنه كان سيضطر لتقديم بعض الخرافات الواردة في كتب المؤرخين والاخباريين المسلمين واليهود التي أساءت للمرأة من خلال الإساءة للملكة بلقيس، أما عن الملابس المثيرة التي «أظهرت زوجة النبي سليمان عارية الكتفين واليدين فهو أمر غير ذي بال، وهو ما أثير من قلة قليلة من مشاهدين عرب ربما متشددين» كما قال الزميل عبدالرحمن، فأنا لا أعترض عليها، حتى لو ظهرت الملكة بلقيس بالمايوه، إذا كانت مطابقة للتاريخ، أما إذا كان تصميمها على هذا النحو المثير اجتهاداً من فريق العمل، فعلى أي أساس اتفق عليه لتظهر الملكة بلقيس عارية الصدر والكتفين والذراعين، علماً أن اللقى الأثرية المكتشفة في اليمن عن سبأ وغيرها من الممالك اليمنية القديمة، ليس فيها ما يوضح تصاميم الملابس التي كانت ترتديها المرأة اليمنية قديماً، فلماذا كان من الضروري أن تظهر بلقيس في المسلسل على هذا النحو المثير دون استناد للوحات وصور ونقوش آثارية، والطريف أن عندي صورة للإلهة ذات حميم اليمنية ترتدي ثوباً محافظاً جداً، فكيف كان الحال مع النساء المؤمنات بها. كما أنني لا أتفق مع قول الزميل عبدالرحمن أن بلقيس كانت ملكة يمنية وزوجة للنبي سليمان وبالتالي فإن بلقيس هي ملكة سبأ المذكورة في القرآن الكريم، فإلى اليوم لم يعثر على نقش أثري واحد فيه إشارة إلى أن ملكة كان اسمها بلقيس حكمت سبأ اليمنية، وأنها ارتبطت بعلاقة ما بالنبي سليمان بل وفي الكشوفات الأثارية في شمال ووسط وجنوب الجزيرة العربية وفي فلسطين ومصر واليونان، لايوجد ما يؤكد هذه المسألة، إلا ما جاء في سورة «النمل» في القرآن الكريم ومن قبل في العهد القديم. والحقيقة أن تاريخنا اليمني فيه أكثر من بلقيس «4» أشهرهن بلقيس بنت الهدهاد، وقد ربط الاخباريون بين اسم أيبها وطائر الهدهد المذكور في القصة القرآنية، فاعتبروا أنها ارتبطت بالنبي سليمان بعلاقة ما وأسلمت على يديه، في حين لا يوجد نقش أثري واحد يدل على أن امرأة كانت ملكة على سبأ أو غيرها من الممالك اليمنية القديمة، وقد أخذ المؤلف مادته الدرامية من الروايات الاخبارية القديمة، وهي لا تتفق في كثير من التفاصيل، وكان للميثولوجيا العربية واليهودية دور كبير في خلق شخصية الملكة بلقيس، جمعوا فيها أخباراً ومعلومات عن ملكات يمنيات «بحسب مزاعم اخباريين يمنيين ويهود من أصل يمني». فهل كانت الملكة بلقيس هي ملكة سبأ المذكورة في القرآن الكريم ، وهل كانت سبأ مملكة يمنية؟ هذا ما سوف اتناوله في الاصحاح الثاني من هذا السفر «سفرالملكة بلقيس». هوامش 1 سورة «النمل» الآيات «20-44». 2 بعد «الزلزال» قدمنا أنا وجميل محفوظ مسرحيتين هما «الساعة الأخيرة» و«جنين». 3 سورة «سبأ» الآيات «15-16». 4 زياد منى «بلقيس امرأة الألغاز وشيطانة الجنس» صادر عن رياض الريس للكتب والنشر» ببيروت الفصل الثالث ص «85 -86».