ثورة ال« 14»من أكتوبر الخالدة..عشق الحرية وانتزاع الاستقلال وهي ذات الميزة التي أكد عليها الدكتور حسين مؤنس في كتابه الموسوم "الحضارة" حيث اعتبر الثورة التي تغيب عنها الصورة الحضارية المستقبلية والإعداد الفكري والتصور الحضاري للمجتمع الجديد، مجرد انتقال من استبداد منظم إلى فوضى وظلم للناس غير منظم...غير أن الثورة اليمنية قد امتلكت رؤية وطنية تقدمية أسهمت بفاعلية في تحرير الشعب اليمني من استعمارين أولهما محلي ممثلاً بالنظام الإمامي والثاني ممثلاً بالاستعمار البريطاني، فأصبحت تجربة ثورية إنسانية سخرت لخدمة الإنسان. حماية ثورة سبتمبر شكلت ثورة الرابع عشر من أكتوبر الخالدة امتداداً طبيعياً لكفاح شعبنا اليمني الذي تكلل بالنصر في السادس والعشرين من سبتمبر 1962، النصر الذي أسقط خرافة الحق الإلهي في استعباد الشعب التي كانت تسوقها الإمامة الفاسدة ومن ذلك الباب أصبح الطريق ممهداً لإسقاط خرافة بريطانيا العظمى فقد مثلت ثورة سبتمبر المجيدة سنداً رئيسياً لإنطلاقة ثورة أكتوبر المجيدة لذلك انخرط الآلاف من شباب الجنوباليمني في صفوف الحرس الوطني للدفاع عن جمهورية سبتمبر وكان أمام الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي من الوطن مهمتان؛ تمثلت الأولى في الدفاع عن جمهورية سبتمبر بعرقلة التخريب البريطاني والملكي، أما المهمة الثانية فتمثلت بالاستفادة من الظرف التاريخي الذي ولدته ثورة سبتمبر من أجل الدفع قدماً بمسيرة النضال الوطني التحرري ضد المستعمرين الإنكليز، وعلى ضوء ذلك فقد كان قرار خوض غمار الكفاح المسلح يعلن عن نفسه مستنداً إلى الظروف الموضوعية والذاتية في المجتمع اليمني بأسره ومن هذا المنطلق فقد بدأت في دار السعادة وقصر البشائر بصنعاء الاجتماعات التشاورية لتشكيل جبهة وطنية لتحرير الجنوب واختير لها أحد عشر عضواً برئاسة المناضل قحطان الشعبي. ننتصر أو نموت لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر الخالدة وليدة الصدفة، بل كانت النتيجة الطبيعية لنمو روح المقاومة الوطنية لأبناء شعبنا اليمني العظيم في وجه الممارسات الإجرامية للاحتلال البريطاني فمنذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها أقدام الغزاة التراب اليمني الطاهر، اندلعت عمليات المقاومة التي تنوعت أساليبها بين النضال السلمي والعمليات المسلحة إلا أن واقع الحال أثبت أن "ماسورة المسدس عنوان القوة" على حد تعبير الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لذلك فقد اعتمدت الحركة الوطنية التحررية الكفاح المسلح كخيار استراتيجي لتحقيق الاستقلال وهو ما ترتب عليه تفجر بركان ردفان الذي صب جام غضبه على رؤوس قوات الاحتلال محيلاً الأرض تحت أقدامها إلى جحيم معلناً للعالم "أننا شعب ننتصر أو نموت" كما قال شيخ المجاهدين الشهيد عمر المختار. تفجر الغضب في ردفان في الرابع عشر من أكتوبر 1963 تمكنت قبائل ردفان من خوض معركة ضارية مع القوات البريطانية استشهد على إثرها غالب راجح لبوزة وفي أعقاب ذلك تسارعت وتيرة الأحداث على كافة المستويات حيث عقدت بريطانيا مؤتمراً في لندن في 10 ديسمبر 1963 لحل قضية ما دأبت على تسميته بالجنوب العربي ثم صدرت قرارات الأممالمتحدة في نوفمبر 1964 والتي أكدت حق الجنوب في تقرير المصير ثم حاولت بريطانيا الاستعمارية عقد مؤتمر آخر في مارس 1965 لكن الشعب اليمني أفشل تلك المحاولة. عبدالناصر في اليمن في الثاني والعشرين من أبريل 1964 وصل الزعيم العربي خالد الذكر جمال عبدالناصر [رحمه الله] إلى صنعاء في زيارة تأييد ودعم للثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، وفي صنعاء إلتقى عبدالناصر وجهاً لوجه بجماهير شعبنا وكعادته تحدث إليهم مفتوح القلب والوجدان وذكرهم بماضيهم البعيد حين كانت اليمن معين الثورة ضد الطغيان والاستبداد والسيطرة حيث قال: بعد الثورة الإسلامية الكبرى سارت اليمن في هذا الطريق ونشرت الإسلام في ربوع آسيا وفي كل بلاد آسيا، كانت هذه أيها الإخوة رسالتكم ورسالة شعب اليمن الحر، شعب اليمن الثائر الذي تثقف برسالة محمد بن عبدالله وسار بها بين مشارق الأرض ومغاربها لينشرها من أجل الدين ونجح في رفع راية الإسلام حتى أتت فترة من الزمن تحكمت فيها بهذه البلاد فئة من الطغاة أرادوا أن يحولوا حريتكم وعزتكم إلى تكبيل بالحديد فقاومتم...وأضاف عبدالناصر قائلاً: عن بريطانيا لابد وأن تجلو عن عدن، إن كلاً من عدنوالجنوب أرض عربية وإنه من المستحيل تماماً على بريطانيا أن تفرق بين عرب وعرب أو يمنيين عن يمنيين. وفي تعز وأمام عشرات الآلاف من أبناء شعبنا وجه القائد عبدالناصر في خطابه إنذاراً إلى بريطانيا قائلاً: إن بريطانيا التي تنظر إلى ثورتكم بكراهية وحقد يجب أن تحمل عصاها على كتفها وترحل من عدن، إننا نعاهد الله على هذه الأرض المقدسة أن نطرد بريطانيا من كل جزء من الوطن العربي ولقد بذلنا الدماء وضحينا بالأرواح وحققنا النصر وسنبذل الدماء ونضحي بالأرواح ونحقق النصر كما حققناه في مصر واليمن. خطة صلاح الدين في هذا الوقت كان الصدام العسكري على أشده بين القوات المصرية وقوات الاحتلال البريطاني على الحدود بين اليمن الجمهورية واليمن المستعمرة وبالذات في منطقة بيحان وبالتالي دخلت مصر في صميم العمل على طريق كفاح الجنوب من أجل التحرير.. ويقول عزت سليمان وكيل المخابرات العامة المصرية أن المصريين قد فتحوا معسكراً لتدريب المتطوعين وإعدادهم للكفاح المسلح في الجنوب وأطلقوا على هذه العملية اسم صلاح الدين واستمرت عمليات الكفاح ضد الاستعمار تزداد عنفاً وضراوة وكانت مصر المصدر الرئيسي لها في السلاح والتدريب حيث نفذت خطة صلاح الدين حتى النهاية. العمل الفدائي وفي هذا العام 1964 عملت الجبهة القومية على توسيع نطاق العمل المسلح في المناطق الريفية ومهاجمة المعسكرات البريطانية، وعملت في ذات الوقت بالتعاون مع الخبراء المصريين على تدريب صفوف واسعة من المقاتلين على حرب التحرير الشعبية، كما عملت على تدريب الكوادر العسكرية واختيار أصلب العناصر وأكثرها نضجاً في الوعي السياسي وذات الخبرة التنظيمية لتتولى مهام العمل الفدائي في عدن وتولى فيصل عبداللطيف في البداية مسؤولية العمل الفدائي في عدن ولما كُشف خلفه في القيادة عبدالفتاح إسماعيل الذي خاض تجربة العمل الفدائي بتفرد بالغ حيث ازدادت كثافته وتنوعت أساليبه وبالتالي ازدادت خسائر قوات الاحتلال وعملائه المحليين. تنظيمات الثورة في منتصف عام 1965 عقد في تعز مؤتمران سياسيان؛ الأول نظمه أعضاء التجمع الوطني الذين أسسوا منظمة التحرير لم يسفر سوى عن الإعلان عن اسم المنظمة فقط، فيما كان المؤتمر الثاني للجبهة القومية وفيه أقر الميثاق الوطني الذي أكد ضرورة وحدة النضال الجماهيري والاستفادة من التجربة الثورية العربية وشكل فيه هيكلاً تنظيمياً جديداً. اتفاقية جدة وفيما كانت الثورة المسلحة قد بلغت نطاقاً واسعاً شمل تصفية الاستخبارات البريطانية والضباط والجنود والموظفين الإنكليز في عمليات فدائية بلغت 286 عملية فدائية و1372 عملية قام بها جيش التحرير في 12 جبهة أسفرت عن إصابة مئة وأحد عشر بريطانياً بين قتيل وجريح، في ذات الوقت عقدت في 24 أغسطس 1965 ما عرفت باتفاقية جدة لتسوية القضية اليمنية والموقعة من عبدالناصر والملك فيصل وقد عبرت الجبهة القومية عن رفضها لهذه الاتفاقية كونها تسعى إلى إيجاد تسوية في شمال اليمن وهو الأمر الذي يعكس نفسه على الأوضاع النضالية في جنوب الوطن وخشيت من أي اتفاق غير معلن قد يؤثر على حركة النضال المتصاعد للشعب اليمني ضد الاحتلال وعملائه في جنوب الوطن، ويشار في هذا السياق إلى أن السعودية كانت تعد اتفاقية جدة انتصاراً لوجهة نظرها، ولكن مصر كانت ترى أن تقرير المصير يمنح اليد العليا التقدمية في اليمن لفرض إرادة الشعب اليمني وعلى أساس من الوحدة الوطنية، وحدة كاملة للمعسكر الجمهوري. لا بديل عن الاستقلال وبالرغم من كل ذلك وفي خضم المأزق الذي وقع فيه المستعمرون الإنجليز لدرجة دفعتهم للاستنجاد بالأممالمتحدة أصدرت الجبهة القومية بياناً سياسياً في 19 مايو1965 فندت فيه كل إدعاءات ومزاعم المستعمر، وقدمت الحجج الثابتة المؤيدة لرفضها العودة إلى الأممالمتحدة مؤكدة على ضوء ذلك مواصلة شعبنا لنضاله الثوري العادل في سبيل تحقيق أهداف ثورته والتي حددت بالتالي: 1 - التحرر التام من الاستعمار سياسياً واقتصادياً لكل مناطق الجنوب الغربية والشرقية والجزر التابعة لها. 2 - تصفية القاعدة البريطانية الاستعمارية من عدن وكافة فروعها في مناطق الجنوب والجزر التابعة لها دون قيد أو شرط. 3 - إسقاط الحكم السلاطيني الرجعي العميل. 4 - استرجاع الأراضي والثروات المسلوبة وإعادتها للشعب. 5 - تحقيق وحدة الشعب العربي في إقليم اليمن سيراً نحو وحدة عربية شاملة. وقالت الجبهة القومية في ختام بيانها السياسي:"إن الشعب يرى أنه قادر بالثورة وحدها أن يحقق هذه الأهداف التي سقط من أجلها الشهداء والتي أقسم على نفسه التضحية في سبيلها ولن تجدي بريطانيا ولا عملاؤها ولا الانتهازيون والعناصر السياسية المفلسة تمسكهم بقرارات الأممالمتحدة بعد اليوم وليس أمام بريطانيا إلا أن تسلم دون قيد أو شرط والنصر دائماً للشعوب المناضلة". الغزاة يلوحون بالرحيل في أوائل العام 1966 أعلن الرئيس عبدالناصر أن القوات المصرية لن تنسحب نهائياً حتى تفي بريطانيا بمنح جنوباليمن الاستقلال وتجلي قاعدتها من عدن، وخلال فبراير أعلنت بريطانيا بطريقة شبه رسمية أنها ستسحب قواتها من الجنوب بحلول عام 1968. إب حصن الثوار هذا في وقت كثفت فيه الحركة الوطنية من نشاطها السياسي عبر تشكيل مجلس قيادة لجبهة التحرير في القاهرة في مارس 1966 واحتضنت مدينة جبلة بمحافظة إب في الحادي عشر من يونيو مؤتمراً سرياً للجبهة القومية تم فيه تقييم النشاطات السياسية والتنظيمية وتمخضت عنه جملة من القرارات أهمها؛ تكوين وفد للسفر إلى القاهرة للمشاركة في المحادثات بشأن الوحدة الوطنية للقوى الثورية، وتشكيل القيادة العامة من خمسة عشر شخصاً، وباءت كل محاولات الدمج القسري للتنظيمات السياسية الوطنية بالفشل. وفي أعقاب ذلك تصاعدت وتيرة العمل الفدائي المسلح ووصلت العمليات إلى 500 عملية فدائية وفق الإعلان الرسمي قتل أثنائها 108 وجرح 876 من عسكريي ومدنيي الإحتلال وجنود وضباط وجيش الاتحاد ومدنييه. تنوع وسائل الثورة في مطلع العام 1967 استأنفت الجبهة القومية وجودها المستقل ووجدت في 19 يناير 1967 ذكرى الاحتلال الإنجليزي لعدن فرصة كي تثبت وجودها حين أعلنت الإضراب العام وفشلت جبهة التحرير في محاولتها عرقلة الإضراب الذي حقق نجاحاً كبيراً، وفي اليوم الثاني نظمت الجبهة القومية مظاهرة في عدن وأقدم فدائيوها على تنفيذ العديد من العمليات أصابت 14 بريطانياً بين قتيل وجريح، وفي الخامس عشر من فبراير من العام ذاته شيعت الجبهة القومية واحداً من أصلب عناصرها الفدائية الشهيد مهيوب علي غالب [عبود] والذي استشهد أثناء معركة مباشرة مع قوات الاحتلال البريطاني في الشيخ عثمان استمرت يومين قتل خلالها 21 من جنود الإحتلال، وبرز في موكب تشييع الشهيد القطاع النسائي الذي كانت الجبهة القومية قد شكلته والذي توالت على قيادته العديد من المناضلات ومنهن؛ نجوى مكاوي، زهرة هبة، ثريا منقوش، عائدة علي سعيد، أنيسة الصائغ، وشقيقة علي صالح، وفوزية جعفر وغيرهن. الرد على عدوان حزيران في يونيو/حزيران 1967 وعلى إثر العدوان الصهيوني في الأيام الستة على مصر تصاعد الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني فأوقع عشرات الضحايا في صفوف قوات الإحتلال وسيطر الفدائيون على مدينة كريتر فيما سيطر مناضلو الجبهة القومية بقيادة علي عنتر على الضالع ولحج ثم توالى سقوط المناطق في أيديهم. مفاوضات الاستقلال وبالرغم مما ساد في أواخر ذلك العام من توتر واقتتال بين فصائل العمل الوطني إلا أن الجبهة القومية عبر ممثلها قحطان الشعبي أعلنت خطتها للتفاوض مع بريطانيا على أساس تحقيق الاستقلال الثوري وانتقال السيادة إلى الحكومة الوطنية ورفض كافة القيود العسكرية والسياسية والاقتصادية وقد بدأت المفاوضات في 22 نوفمبر 1967، وبعد ثمانية أيام من المفاوضات أذيع في القصر الملكي البريطاني بياناً أعلن فيه انتهاء الحماية البريطانية على محميات الجنوب العربي، وفي اليوم التالي تم توقيع وثيقة تسليم السلطة ونقل السيادة إلى جمهورية اليمنالجنوبية الشعبية التي أعلن مولدها في منتصف ليلة الثلاثين من نوفمبر 1967 وذلك بعد آخر ساعة من خروج آخر جندي بريطاني من أرض الجنوب وفي اليوم التالي شكلت أول حكومة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية برئاسة الرئيس قحطان الشعبي. الوحدة هي الغاية وهكذا انتصرت ثورة أكتوبر المجيدة لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ شعبنا العظيم جسدت فيها الثورة أهدافها السامية وعلى رأسها إعادة وحدة الوطن اليمني، ولذلك فبالرغم من كل الأحداث التي عصفت بالوطن فقد ظلت الوحدة هدفاً لا حياد ولا تنازل عنه وهو ما ترجمه أحد أبرز قادة الثورة الأكتوبرية المناضل عبدالفتاح إسماعيل في خطابه الموجه لأخيه فخامة الرئيس علي عبدالله صالح والذي قال فيه بعباراته الصريحة:"لنتوحد، السلطة ليست مشكلة، ليكن الوزراء في صنعاء وزراء، والوزراء في عدن نواباً، وصنعاء العاصمة وأنت الرئيس"، وترجم تلك العبارات بالفعل من خلال توقيعه مع فخامة الرئيس علي عبدالله صالح اتفاق الكويت الذي مهد الطريق لإعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م.