للهوامش سطوة على المتن ، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم ، والذاهبة إلى التحديد واثبات الحق والمرجع ، فيصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن واكمال صورته ، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم ، فإن وجدت فيها ما تبتغيه ، وإلا دعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. لقاء بلا ربشة: إن تجربة الشاعر الكبير حسين أبابكر المحضار في اقترابه من مدن عدة، تشي بمدى عشق ووله هذا الشاعر بالأمكنة، وذوبانه في تفاصيلها، فهو راصدٍ ذكي لملامح هذه المواضع وفنان تسجيلي من نوع فريد، إذ أنه، كما يبدو، وجد في تفاصيل مسقط رأسه مدينة سعاد الشحر متعة لا تضاهى، فهي المدينة العابقة بالتاريخ والتراث والروح الإنسانية في بكارتها الأولى، ففي هذه المدينة التي احتضنته وتجربته الفنية كان عشقه للمكان قد بلغ به مبلغاً كبيراً لا يستطيع أن يفتك منه، فظلت الشحر – هي سعاد الهوى والروح والقلب – من هنا تحولت الكثير من المدن التي زارها أو مرّ بها أو تتبع أخبارها خيالاً يثري لديه التجربة الشعرية ويشحذها بحرارة من روحه، وظلت الشحر فاتنته التي لا يستطيع البعاد عنها ألم يقل: قريب با بدّل بداري دار معمورة وديرة غير دي الديرة لكن قلبي ما رضي يختار غير الشحر لا وليته الخيرة حبه وتقديره لها من سمح ولها العز والمقدار دار الفلك دار وعزمت السفر دار الفلك دار فالشاعر المحضار استطاعت (سعاده الشحرية) أن تتحول إلى ذات رقيقة يجد عندها سلوته وراحته، وفي بعدها شوقه ولوعته وتعبه، من هنا كان شاعرنا يذهب في ملامسته للمدن برقة العاشق وتساؤلات المعاتب، ولم تخرج مدينة الغيضة عن هذا المسلك الشعري النبيل، ففي رحلته المتخيلة لها، وبعد أن بدأ نصه (طريق أهل الهوى نوف) متسائلاً في المقطع الشعري الأول: وشكم بعد غيبتكم، كما رأينا في الجزء الأول من الهوامش، جاعلاً من هذا المفتتح الحواري منطلقاً لبث شكواه وعتابه وأمانيه، فبعد وقفة العتاب العجلى بينه وغيضته، نجده يلتمس اللقاء في تمنٍ رائقٍ دون تكلف أو ضوضاء لا تليق بحالة الوجد التي في داخله: ودّي نلتقي معكم لا ربشة ولا فوضى بداوه عاسجيتكم عرب ما نعرف الموضة ولكن الفرص ما يسنحين وأحوال الزمن ما يتمين لقن في وسط ظهر الجمل سوف في هذا المقطع الثاني، نلمح كيف عرض المحضار لرغبته في اللقاء، وكيف قدّم لاعتذاره عن البعد والفراق، محملاً الزمن وأحواله المتقلبة السبب الرئيس، فأمنياته باللقاء بعد غيبة طويلة وبعد أن بلغت به جراح البعد ما يبلغه الزمن من غورِ جراح في ظهر الجمل الصبور، فعند هذه الصورة لا يستقيم اللقاء الذي جاد به الزمن إلا وفق رؤية العاشق ( بودي نلتقي معكم لا ربشة ولا فوضى) فالسكينة والهدوء مطلوبتان - لحظتئذ - ونلحظ جمال موسيقى الشعر وتقطيعه بين (فوضى وصداها موضه) والإطلاق في حرف الروي في (فوضى) الذي يستقر عند (هاء) الموضة الساكنة، بما تحمله اللفظتان من عبثية تصاحب ظواهر الموضة وحالات التقليد، وبين أنين الموسيقى في (ما يسنحين، وما يتمين) بما تحملانه من اضطراب نفسي للذات الشعرية لعدم اكتمال الفرص وإتمامها، من هنا كانت (سوف) الجارحة هي المآل الذي وقعت فيه تلك الذات. قسمي بذمتكم: ولطبيعة الأرض الغيضية، يرسم الشاعر المحضار لوحته عن ما تتمتع به هذه المدينة من مزية تؤكد قوله (أياديكم البيضاء) إذ يقول: تلقي زرع جربتكم طمت عالحرث والروضة ونا قسمي بذمتكم رموا لي قسم في غوضة ولو تبغون في القرص ميتين أنا ما باه قرضة ولا دين ثقوا واستأمنوا ليش ذا الخوف عطاء الأرض وجودة ما تنتجه، يدفع بشاعرنا إلى الهمس: ولو تبغون في القرص ميتين، أنا ما باه قرضة ولادين، إذاً، هو ليس طامعاً ولكنه عاشقاً يبذل الكثير مقال القليل، ولا ينسى رصد ملامح التغير الذي تحدثه حالة البذل الذي تجود به أرض الغيضة على من يقطنها أو يرنو إليها: إذا طابت مواردكم وكلين امتلاء حوضه وصل كم حصان اشكم حكم مولاه ترويضه إذا أدبر سبق أم جنحين وإن أقبل أنا ما دري وين تحير العقل قامته والقوف ولأن جزيل العطاء في الغيضة كبير فهي لا تبذله إلا لمن يستحق، ولا تعطيه إلا للجواد الكريم الأصل الأنيق المظهر المتناسق البنيان، حصان أشكم حكم مولاه ترويضه، ورغم ذلك، يتمتع بسرعة لا يقترب منها حصان شاعر الجاهلية امرئ القيس. لنا في ذكركم عيضة: لا يغفل شاعرنا عن جعل خاتمته مفتوحة على تواصل قادم، ولا ينسى أن يذكِّر غيضته المعشوقة، بما في جوفه من نار مشبوبة، لن تنطفئ إلا بتعدد الزيارات، ولن تنمحي من الذاكرة محبتهم ففي ذكرهم وتخيلهم ما يعوّض الروح عن لوعة الفراق. تشوقنّا لرؤيتكم وزاد الرأس في هيضه إذا فاتت زيارتكم لنا في ذكركم عيضه عسى من بعد ذا الصد والبين يقرّب ربنا بيننا البين ويطفي كير مرشون في الجوف وهكذا كان هوى المحضار مع غيضته الجميلة، فلا جاذب قريبة ولا حوف، وطريق أهل الهوى كلها نوف.