للهوامش سطوة على المتن ، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم ، والذاهبة إلى التحديد وإثبات الحق والمرجع ، فيصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن واكمال صورته ، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم ، فإن وجدت فيها ما تبتغيه ، وإلا دعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. شوق ووعد: كعادته في عشقه لتراب أرضه ووطنه، وتغنيه بكل مدينة وواد، ووصفه لكل قرية وشعب وجبل وساحل بحر، خصّ الشاعر والملحن الكبير حسين أبوبكر المحضار عاصمة المهرة (الغيضة) بنصين غنائيين بديعين في رحلته الشعرية واللحنية التي بدأت مع نهاية خمسينيات القرن الماضي، وثبتهما في ديوانه الثاني (ابتسامات العشّاق) الصادر في نهاية الثمانينيات، الأولى في صفحة الديوان (121) بعنوان: مشتاقين، ومطلعها: مشتاقين للربع في الغيضه مشتاقين مرتاحين أو بعدنا هم غير مرتاحين شوفوهم وتخبروا عنهم زوروهم لمّا أماكنهم قالوا حولهم زهر ورياحين مشتاقين وهو نص - كما يبدو - كان بطاقة عشق وولهٍ لمدينة الغيضة التي كانت قمقماً أسطورياً غرائبياً زاده غموضاً بعد المسافات وعدم توفّر خطوط تماس إنساني بين الشاعر وتلك الربوع التي رسم لها شاعرنا المحضار لوحة حميمة خاصة انطلق بخياله إلى فضاءات من البوح النبيل لينسج صوراً شعرية جميلة توحي بمدى شفافية روحه وقدرته على فك شفرات المدن التي يعشقها عن بعد والتحامه النوراني وترتيله جملاً شعرية وألحاناً شجية عذبة، وقد جعل الشاعر الكبير المحضار من النصين متناً شعريا،ً كلاً متكاملاً، يدفعه الشوق العميق للاقتراب من هذه المدينة - الحلم - فقد رحل شاعرنا بخياله مستحثاً (الطيّار) أن يخّف السوق، ففي صدره لا يطاق الشوق: خفّ السوق بالله يا طيّار خف السوق نار الشوق ما شي كماها نار نار الشوق طمنهم بالوصل طمنهم لا تشطن نحن وتشطنهم ما معهم بالوصل علم يقين مشتاقين هذه الأشواق - الخيالية - التي تلهب ناراً في دواخل شاعرنا المحضار، نسج منها تلك الرائعة الغنائية التي جعلت من مدينة الغيضة حديث الناس في داخل الوطن وخارجه، فهو خير من يروِّج لمدنه وخير من يهمس لناسه وخير من يرصد حال الأرض والإنسان، فقد أكمل هذا النص بوصفه لوادي الغيضة الخصب المخضر الغزير الأمطار، فجال بخاطره ليصف (الطير، الشجر، المزارع، الراعي والراعية، والبوش تتبعهم، يا كم من بكرة تحن حنين، فيهمس لنا بعشقٍ رقيق لكم من زين - ما عاد بعده زين – ولكنه زين صعب المنال قصرت بنادق القناصة في صيده، والعشاق الكثر عادوا بخفي حُنين، ليضعنا المحضار أمام غيضة صعبة المراس لا تسند ظهرها إلا لمن يعشقها حدّ الثمالة، وتنفر ممن يحاول صيدها عنوة وفي لحظة مباهاة أو طيش. غيبة ولوعة: في نصه الثاني والذي وسمه ب(الغيضة) في صفحة (122) من الديوان نفسه، يبدأ بجملة دالة على ما ذهبنا إليه من استحالة قنص زين الغيضة، من هنا جاء قوله في تخميسة النص الثاني التي تتكرر بعد كل مقطع شعري - مكملاً - ما ختم به الأول: طريق أهل الهوى كلها نوف ولا جاذب قريبه ولا حوف فجاذب وحوف من مناطق الغيضة، ودونهما البعد والنوف، الانحدار، المميت، ولكن شاعرنا وقد أنس لرغبة غيضته في زيارته - المتخيلة - الثانية همس متسائلاً: وشكم بعد غيبتكم يا حلان في الغيضه وصفوا الناس طيبتكم وأياديكم البيضاء قالوا كل شي عندكم زين قالوا في ثراكم دواء العين ونا محروم حتى من الشوف فنرى كيف تلاعب بنا المحضار في وصفه لطيبة أهل الغيضة وكرمهم الحاتمي ، أياديكم البيضاء، وتعميمه الجمال – كل شي زين – في حياة هذه المدينة الرمز، ففي ثراها دواء العين الحفية، ولكنه يضعنا أما حقيقة قوتها التي تستمدها من كل هذه المعاني الإنسانية النبيلة، فهو محروم حتى من الشوق على الرغم من كونه عاشقاً متميماً دنفاً بحبها، ولنا مع هذا النص كثير من الهمس في الحلقة القادمة.