حفل تراثنا الحضرمي بالعديد من النصوص الشعرية الغنائية التي حملت رمضان معنى ، وسمات روحية - استقبالاً وتوديعاً - فكان أن سبحت في معانيه وأيامه ، وحلقت في لياليه وسحائبه الربانية ، فذهبت إلى الترحيب به والاستبشار بمقدمه ، كخير الشهور ، التي خصها الرحمن بالمغفرة ، والرحمة ، والعتق من النار . نعود مجدداً لننشغل - في هذه الإطلالة الأخيرة - بنص آخر للشاعر الراحل الكبير حسين أبي بكر المحضار، الذي لم يزل قادراً - بما تركه من تراث شعري ثري وعميق - أن يغزل حياتنا بمعان نبيلة، تستنطق اللحظة لتجعلها دائمة الحضور في زمن الغياب والذكرى، وقد حفلت دواوينه الأربعة المنشورة بالكثير من النصوص الغنائية التي كشفت الكثير من خفايا الروح في أماسي رمضان ولياليه وأيامه وهي تنسرب منا مؤذنة بالرحيل العودة، ومن تلك قصيدته التي مطلعها : مضى رمضان والشوق الذي في القلب لم يمضي وفرض الصوم أديته وما أدى الهوى فرضي ولكن باصبر برضي على عيبة صحابي في الهوى لما تجي الجوده عسى عوده تقع في خير ومسرات جم يا لله عسى عوده والمحضار في هذا المقطع يتخذ من (مضي) رمضان التي انطوت النفس على ذاتها، وأدت ما عليها من فروض ربانية وإنسانية ومجتمعية، يتخذ من ذهاب رمضان واقتراب العيد مشجباً يعلق عليه الكثير من أوجه القصور التي تعاني منها روح الشاعر العاشق الواله لأهله واصحابه، ففي صباحات العيد تعود النفس إلى محيطها الإنساني باحثة عن لحظة مواساة، ونظرة ود، وخيوط صدق تنسجها هذه الصباحات في الواقع المعيش، ولكن المفارقة أن الشاعر قد أدى فرض الصوم الذي عليه، وبذلك من الطبيعي أن يكون قد أدى فروض التواصل مع الآخرين، ولكن ( الهوى) لم يود الذي عليه، وهنا تكمن معاناته التي تسوقه إلى التجلد بالصبر راجياً منهم( الصحاب)( الجودة) العطاء النبيل، وصدق المشاعر، فالرجاء مازال مطمئن النفس بأن المسرات قادمة بكثرة لا محالة، ولكي يعمق التناقض بين الذاهب( رمضان) والقادم ( العيد) المتوجس منه يقول مؤكداً : مضى رمضان ولياليه مرت كلها حلوه وجاء العيد لكن لم يصادفني كما أهوى مضوا وتفرقوا الاخوه مطايا البعد والفرقه على الأبواب مشدوده عسى عوده.... وهنا يفصح المحضار عن الخلل الذي فجر بداخله هذه الشحنات الموحشة في لحظات العيد، إذ أن ( مطايا البعد والفرقة على الأبواب مشدودة) عازمة على الرحيل، فقد تفرق الاخوة ومضى الصحاب كل في سبيله، فالفراق صعب على روح الشاعر، فهو في غربة مكانية وزمانية، أتعبته وأرقته وذكرته ما أنساه إياه رمضان بلياليه الحلوة : فراق الشحر ما أصعبه وفراق أهلها أصعب وإن صدت وإن جارت وقالت سير وأتغرب فيا ما قد بطيت أشرب لبن من ضرعها من عادنا إلا طفل بالخوده عسى عوده.... والمحضار في هذا المقطع يؤكد حبه وانتمائه الكبير لأرضه ( الشحر) فهي الناس، والناس هي، وما تزود به وهو فيها وبينهم ( فيا ما قد بطيت .......) كاف له كي يصبر ويتصبر، حتى بعد أن تنكرت له وجارت عليه ومن أجلها غادرها بجسمه، وبقيت روحه حائمة في أجوائها : ونا عا رغم بعد الدار ما بنسى محبيني وباتذكر مجالسهم وببكي دم من عيني ولا شي بايسليني سوى النجدي قريب الصبح لا نسنس علي نوده عسى عوده.... وهنا ندكر وجيعة الشاعر المحضار، فروحه ممزقة بين صد وهجران من يهوى ويعشق، وبين قلبه غير القادر على نسيانهم وسلوتهم، فهو غارق في تذكرهم والنحيب الجم، ولا يسلي خاطره إلا هذه الرياح الصباحية الباردة التي تنعش ذاكراته، فتلهج لسانه بخفقات قلبه، فيستوقفها، مرسلاً تحياته نحوهم : ألا يا نود ساير نحوهم بلغ تحياتي وذكرهم ولو بالبعض من لحني وأبياتي عسى بعدك خبر يأتي يسلي قلبي المشتاق ويبلغه مقصوده عسى عوده.... ونراه يطالب ( النود النجدي) بعد أن يبلغ تحياته، ويذكرهم ببعض من ألحانه وأبياته التي غزلها ونسجها لهم وفيهم، وحتى تكون كلمة السر لصدقية المرسول من عند الراسل، يطالبه بالعودة إليه بعد أن يستشف منهم مدى بقائهم على العهد، وتمسكهم بالمواثيق العشقية : تراهم ذاكرين العهد لأول أو نسوا عهدي وهل شي عندهم لي شوق زايد مثل ما عندي رمونا هكذا وحدي ندور بعدهم في الأرض من كوده إلى كوده عسى عوده.... وفي المقطع الأخير يعود الشاعر مخاطباً ذاته في مونولوج داخلي مفنداً موقفه بجلاء ودون ريب أو تردد : بلو بالبعد أحبابي وهم بالبعد ما ودوا فما زالوا هم الأحباب إن قربوا وإن بعدوا وفوا بالوعد إن وعدوا فلا ودي لهم منسي ولا جودتي مجحوده عسى عوده.... فمازالوا هم الأحباب إن قربوا وإن بعدوا، وهذه هي روح المحضار الذي رحل وترك لنا تراثاً سنظل نعوده في كل ساعة وحين. تصويب : في عدد الاثنين الماضي ورد خطأ ( هل تتنزل) والصواب ( هنا تتنزل) في بداية المقطع الشعري الثالث،وكذلك في الفقرة التي تليه خطأ ( يرفده بتكراره لاسم الإشارة) والصواب ( لاسم الاستفهام) لذا نعتذر للقراء الكرام. عيد سعيد، وكل عام وانتم في خير وأكثر.