حفل تراثنا الحضرمي بالعديد من النصوص الشعرية الغنائية التي حملت رمضان معنى ، وسمات روحية - استقبالاً وتوديعاً - فكان أن سبحت في معانيه وأيامه ، وحلقت في لياليه وسحائبه الربانية ، فذهبت إلى الترحيب به والاستبشار بمقدمه ، كخير الشهور ، التي خصها الرحمن بالمغفرة ، والرحمة، والعتق من النار . للشاعر الراحل الكبير حسين أبي بكر المحضار نصوص كثيرة اتخذت من فيوضات هذا الشهر الكريم معاني لها ، وترجم شاعرنا الراحل خلجات نفسه الشفافة من خلال تلذذه بذكر الله سبحانه رب العزة والجلال ، ولكنه - كذلك - ذهب في نصوصه إلى ما يتلمسه المؤمن ويتمناه من معانقة الكعبة المشرفة ، وزيارة قبر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فكان شوقه الكبير لزيارة مدينةرسول الله قد حرك دواخله وفجر مشاعره الفياضة ، فجاءت رائعته ( طيبة)ومطلعها: إلى طيبة وما في الكون بقعة مثل طيبة ** بها قلبي يطيب إلى الشباك والمحراب والروضة الرحيبة ** ومسجدها الرحيب منازل أنزل القرآن فيها وروح القدس جبريل يعود الحي لي كتبت له العوده وتيسير السبيل ونلمح في هذا المقطع الشعري المحضاري العواطف الجياشة والروح المتقدة شوقا ، وفيض المعاني الرقيق الوقع على النفس الوالهة بالحب لطيبة المكان والإنسان والتاريخ العطر والذكرى التي تختزل كل ما علق في دواخل المسلم لهذه البقعة الطاهرة ، وقد أخذنا إليها الراحل المحضار وأوقفنا نتأمل هذه المعاني التي أرسلها بقوة معبرة عن تصوراته واشراقاته الروحية التي تلبسته وهو يدنو بروحه إلى هذا المشهد الرباني العميق الدلالات والمعاني بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفاً مواضعه المباركة ( الشباك ،المحراب ، الروضة الرحيبة الطاهرة) وهي المواضع التي شهدت نزول الروح القدس جبريل على رسولنا الكريم بآيات القرآن العظيم في هذا الشهر الفضيل، والمحضار بعد أن سكن قلبه وطاب مقاماً استشعر رهبة الموقف اللقاء وجلالته فجاء قوله الدال على هذه اللحظة الإنسانية التي تتماهي فيهاالنفس المؤمنة المطمئنة وقدسية المكان وإيحاءاته ، فالقلوب هنا مليئة بالثقة ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، مشيراً إليها المحضار بقوله : ووقفه يا لها والله من وقفه مهيبة ** لدى طه المهيب قلوب الناس من خلاقها فيها قريبة ** وهو منها قريب عليها تاج من آثار عفوه ومن رحمته إكليل يعود الحي لي كتبت له العودة وتيسير السبيل هذا اللقاء الحميم المكلل بإكليل الرحمن عفواً ورحمة راق للشاعر المحضار وتلذذ به وسيطر على كيانه فلم يعد يشعر بمن حوله ، فكل حواسه تنبهت ونشطت جائلة في زوايا المكان ، منفصلة عن الزمن الآني ، وكان توحده مع المكان الذي صوره أبلغ تصوير من خلال رسمه لوحة شعرية مليئة الصور والمشاهدالمتحركة فيه ، وقد استطاع ان يجعلنا معه في سكنات روحه ونبضات قلبه ،ناسجاً من كل حواسه لحظة غير مكرر مع عظمة هذا اللقاء في لحظته والحدث : هل تتنزل الرحمات كل له نصيبه ** عسى حسن النصي هنا يرتاح عرف المصطفى ونشم طيبه ** ويا ما أحسنه طيب هنا نور السماء لي تنطفي فيه أنوار القناديل يعود الحي لي كتبت له العودة وتيسير السبيل فتكراره لاسم المكان (هنا) في بداية كل شطر دال على يقين ما بعد التحديدالذي يرسله ، وهو ما سوف يرفده بتكراره لاسم الإشارة (من) في المقطع الذي يليه مؤكداً ما ذهب إليه من يقين لا يقبل الشك في خالقه الباري : ومن في الكون عند الله أفضل من حبيبه ** ويا نعم الحبيب ومن غيره يجلي الكرب في الساعه العصيبه ** وفي اليوم العصيب إذا نادى المنادي وين هابيل سافك دم قابيل يعود الحي لي كتبت له العوده وتيسير السبيل ولم ينس الشاعر المحضار ، وهو في هذا المقام المبارك أن يدعو ربه سبحانه وتعالى لكشف الغمة عن وطنه الكبير ، رافعا رجاه إليه أن تتحرر من الأعداءفلسطين الحبيبة التي تئن تحت وطأة الاحتلال الصهيوني ، والعرب والمسلمون يتملكهم الصمت المريع ، وليس من امل منظور في تغيير واقع الحال ، إن لم يكن يزداد سوءاً ، إذ يقول في المقطعين الأخيرين : إذا نا عن حماه اليوم طولت المغيبه ** فسره لن يغيب وحبي له وذكره في لساني رطيبه ** وغصني به رطيب ونوره نور في الدنيا لعيني ومنه الكحل والميل يعود الحي لي كتبت له العودة وتيسير السبيل تشفع يا رسول الله في دفع المصيبه ** عسى المخطي يصيب وتتحرر من العداء فلسطين السليبه ** وكل موطن سليب وتتلاقى قلوب الناس عا لحق لا عالقال والقيل يعود الحي لي كتبت له العوده وتيسير السبيل رحم الله أبا محضار فقد رحل وأمنيته لم تتحقق بعد ، والأمة العربيةوالإسلامية تزداد أوطانهم السليبة وهم عنها غافلون.