تفتح القلوب قبل الأبواب للعم (علوان)69عاماً ساعي البريد الشهير في محافظة عدن.. كل صباح كان يطل ممتطياً دراجته حاملاً الرسائل البريدية من منزل إلى منزل في شوارع و حواري المدينة. يشعر العم علوان اليوم وبعد عمر مديد - 50 عاماً - أن الحميمية واللهفة التي كان يستقبل بها الناس ساعي البريد قد تلاشت بعد أن تبدلت طبيعة عمله لتنحصر في توزيع فواتير الكهرباء والهاتف والمياه. ويرى علوان الذي افنى جل عمره جائلاً بين الأزقة والحواري أن الزمن سلب منه حضوره بين المستفيدين من خدمته ، كما خفتت تلك المراسلات التي كان يحملها ويوصلها لمستخدمي صناديق البريد. مشاعر صادقة على الرغم من الخدمات الجليلة التي يقدمها البريد العام في محافظة عدن وغيرها من محافظات الجمهورية والتراكمية التاريخية لدوره كأقدم بريد في المنطقة إلا أن الحضور التكنولوجي و التطور الهائل لخدمات وسائل المواصلات سلبه دوره، و مكانته وأصبح الهاتف المحمول والبريد الالكتروني يسيطران على إيقاع التواصل للإنسان الحديث. وبرغم الزخم الباذخ الذي تنعم به وسائل الإتصال الحديثة يبقى البريد وساعيه ندي الحضور في ذاكرة ووجدان المجتمع نظير الدور الذي لعبته هذه الوسيلة في التعريف بمفردات الحضارة وتحقيق شيء من التواصل الإنساني. ذكريات جياشة كانت تجعل طوابع البريد قبله على ظروف وجوابات التواصل بين الأهل والمحبين والمثقفين وبين ذكريات الغربة والبعد ولحظات الشوق التي تترجم في مراسيل تنم عن تدفق مشاعر صادقة على الورق عكس سطحية مضامين الرسالة الالكترونية. بشير الخير كعادتها الأشياء الجملية تبقى صامدة في القلب ومنها ساعي البريد ذاك القادم طاوياً في حقيبته الشعور الإنساني في لحظاته قبل التكوين فهو من كان يأتينا بالبشائر، واحياناً بالدموع الطافحة من ورق الرسائل والمشاعر و تقلبات الزمان. وتحدث عدنان الحكيمي - موظف- يقول: اليوم صرنا ننتظر متى يرن جهاز الهاتف وصار ساعي البريد في زاوية المنسيين، و هذا الذي يحز في النفس عندما لا نراه يطرق الأبواب على ظهر دراجته.. واعتبر الحكيمي ما آل إليه حال العم علوان اليوم أحد إفرازات التكنولوجيا في جانبها السلبي كونها من غيبت ساعي بريد عدن و محت ابتسامته المفعمة بالأمل كما صادرت نصيبه من الاهتمام اليومي و رصيد الانتظار لدى مرتقبي وصوله وجولاته. وأرسل عدنان بارقة أمل بإشارته إلى ان هناك من لا يزالون يتواصلون عبر البريد من مختلف الشرائح لاسيما المثقفين والباحثين ومن ينهلون المعرفة فتصلهم الكتب والاشتراكات في المجلات والدوريات والمصادر العلمية والمعرفية. لا يزال دور ساعي البريد - بحسب الحكيمي - كبيراً في تعميق الثقافة باعتباره يعتمد على المخطوط العميق المضمون، عكس التكنولوجيا سطحية المحتوى. ويرى أن البديل قد يلبي الغرض لكنه ليس البديل الطبيعي الذي يحتفظ بالخصوصيات الجميلة، ودلل بأن الرسائل الالكترونية التي قد تنتهي بعد لحظات من قراءتها وسطحية مضامينها عكس الرسائل التي توثق للتاريخ والتي يومض فيها حبر الأحرف لنعود عليها ونستذكر محطات الحياة الجميلة. ويتذكر الحكيمي حكايته مع البريد من خلال المطبوعات والاشتراكات والازدحام الذي كان حاصلاً في البحث عن صندوق بريد فارغ يتسابق إليه الناس كعنوان لتواصلهم بالآخرين من أهل ومحبين وأصدقاء في الداخل والخارج. .وأشار الحكيمي إلى المطبوعات التي اشترك فيها خلال طفولته وأسهمت في بلورة وعيه ومشاركته الثقافية وكتاباته من خلالها، والتي لايزال يحتفظ بأعداد منها وصور سياحية اهديت اليه من أصدقاء ومحبين تجعله يسافر من خلالها وجداناً ويرحل معها عبر اشرعة البريد لعدد من بلدان العالم. ونوه بأن البريد مكنه من ارسال صور ومناظر كثيرة خاصة باليمن عبرنافذة هواة المراسلة في مجلات وصحف عربية وقد أثمرت تلك المراسلات في زيارة عدد من الاصدقاء لعدن واستهواهم جمالها وسحرها وابتسامتها الفريدة. ويصف مدير مكتب الثقافة بمديرية الشيخ عثمان جمال الشاؤوش بدوره رجل البريد بالقول: «ساعي البريد رجل جميل أكد مكانته في المجتمع بحضوره الفاعل في كل يوم على صفحات أيامنا يدق الأبواب حاملاً كل جديد من برقيات الأهل والأصدقاء، وبشائر القدوم بعد الغياب في بلدان الاغتراب». ويرى الشاؤوش أن البديل الالكتروني لا يمكن أن يعوض تلك الذكريات الجميلة مع ساعي البريد ولا يمكن لجهاز الهاتف مهما ادخل عليه من تطورات إن يحل بديلاً للابتسامة المشبعة بروح البهجة والسرور والتفاؤل الذي يطل بها كل صبح يشرق فيه ويؤكد جمال الحياة الإنسانية بجملة من المشاعر والأحاسيس يحملها ساعي البريد الإنسان وليس وسيلة إلكترونية. ذكريات وحكايا تحمل ذكريات البريد في عدن كثيراً من الحكايات والقصص الجميلة التي تؤكد حضور وتفاني ساعي البريد بفاعلية في هذه الخدمة، واستخدام الجمل كوسيلة لنقل الرسائل البريدية وتحتفظ الذاكرة الشعبية بتفاصيل حكاية العم صالح الذي اتخذ مكانه المفضل في حارة الجمالة بعدن في الثمانينيات،وقصته مع الجمل الذي لم يحسن معاملته في حله وترحاله في نقل الرسائل من وإلى عدن، وكيف انتهت بغدر الجمل بالعم صالح وإجهازه عليه وتركه جثة هامدة نتيجة الضيم والعذاب الذي لاقاه منه بحسب ما يصفه المتحدثون. وقد تمثل هذه الحكاية خاتمة عهد كان فيه الجمل وسيلة نقل بريدي بين أجزاء الوطن يحمل أشجان وحنين وأمانات بريد تميز بالسرية بعيداً عن مقص الرقيب آنذاك. يا مرسال المراسيل ولم يغب دور ساعي البريد وخدماته الجليلة في الادب الفني فثمة الكثير مما نسمعه لحناً وفناً ونتذوقه نظماً وشعراً تشيد جميعها بدور ساعي البريد، كما تؤكد أعمال كثير من الفنانين على أهمية العلاقة التي يجسدها ساعي البريد كوسيط لنقل المشاعر والأحاسيس باعتباره رجلاً صاحب امانة وسر مؤتمن وعنوان حب يقول عبدالباري ناصر50عاماً - متذكراً أيام غربته في الخليج أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات: كان ساعي البريد يأتي كل يومين أو ثلاث وانتظره في شرفة منزلي وعندما يهل بوجهه يخفق قلبي وأسرع الخطى فأتناول رسائلي منه وأنا أطري عليه بالشكر والثناء وأضمها إلى صدري وبخاصة رسائل أمي ويسترسل: أشم رائحتها في الكلمات أرى صورتها بين السطور ولكن عندما تأتيني عبر البريد الالكتروني أحس بالرسالة كأنها جسد بلا روح. رسائل حاضرة فيما أفاد أحد موظفي مكتب البريد بالشيخ عثمان أن المكتب لديه العديد من الدراجات بكامل تجهيزاتها ومازال الوضع مهيأً لدور أفضل يمكن أن يلعبه ساعي البريد. وأشار إلى أن المراسلات البريدية حاضرة في المناسبات العيدية ولو بشكلها المحدود ومازالت مراسلات الشركات كثيرة وكبيرة، فالبريد يشهد خدمات اليوم اكبر من ذي قبل، كما أن الصناديق(الكابينات)التي تركت منذ تأسيس خدمات البريد في عدن أعيد تفعيلها. فيما يؤكد الرائد عبد الرحيم راشد أن الحياة تكون أجمل عند الرجوع إلى الذكريات الجميلة، فهو - على حد قوله - عندما يشعر بملل من ضغوط العمل ورتابة الحياة يعود لتلك الحقيبة التي تحوي رسائل بريدية لأصدقاء وزملاء في عدد من دول العالم. ولم يعد الرائد راشد بحسب تأكيداته يكتب رسائل، إلا خواطر صغيرة تذهب في أكوام الأوراق وتتلاشى مع مرور الوقت، فالتلفون السيار بات وسيلته المفضلة للتواصل وترميم مساحات الفراغ والتصدع التي أفرزتها عوامل الانشغال والهموم الحياتية. وأفاد بأن رسالة صغيرة وسطحية من التلفون المحمول ليست بالزخم المنسكب من حبر المشاعر على بياض الورق والرسائل. خلفية تاريخية ساهم الموقع الاستراتيجي لعدن، كثيراً في تعزيز وتفعيل الخدمات البريدية حيث كانت محطة فاعلة لتبادل الرسائل بصورة فاعلة من المحيط الهندي إلى أوروبا مع بداية ظهور الطوابع. وعرف البريد في مدينة عدن حسب المصادر التاريخية عام 1839م تقريباً، إي بعد سنة من الاحتلال البريطاني، برغم أن مكتب البريد الرسمي لم يدشن إلا عام 1857م. فيما تشير مصادر أخرى أن عام1937م كان لعدن مجموعات من الطوابع البريدية تحتوي صوراً ومعالم يمنية وعليها اسم عدنAden البريد اليوم وشهد البريد عقب الوحدة اليمنية تطوراً نوعياً وكمياً، وتوسعت خدمات البريد وتنوعت مجالاته المختلفة، بدءاً بالرسائل العادية والعاجلة وصولاً الى خدمة الحوالات المالية والتوفير، وخدمة الرواتب والمعاشات للموظفين والمتعاقدين،وغيرها من الخدمات التي لايزال يقدمها مكتب بريد عدن ومعه مكاتب بريد الجمهورية. وبتفعيل(كابينات) صناديق البريد المنتشرة في معظم مديريات عدن تم إعادة الاعتبار لهذه الوسيلة الحميمة واستعادت وهجها القديم وباتت تفتح كل صباح من قبل ساعي البريد وإن كان في معظم الأحيان يجدها فارغة من إي رسائل توضع فيها.