شهدت البشرية وما زالت تشهد ، تطورات هامة ومذهلة في شتى ميادين الحياة المعرفية وعلى جميع الأصعدة وخاصة فيما يتعلق بالتطور التكنولوجي والأنظمة المعلوماتية وأجهزة الأتصال وكافة علوم الحياة الأخرى و بما ان الأدب شكل من اشكال الحياة على هذا الكوكب فقد شهد هو الآخر توثبات في الأجناس الأبداعية تحاول اللحاق بحركتها وايقاعاتها لكي تتناسق مع ايقاعات حركة العصر وتطوراته وقد شملت هذه التوثبات معظم الأجناس الأبداعية في عوالم القصة والرواية والدراسات النقدية والشعر .. وفي الوقت الذي تحمل فيه معظم هذه الأجناس الأبداعية قدرتها الذاتية على مواكبة التطورات بحكم امكاناتها الداخلية التي تمتلك المؤهلات التي تستوعب هذه الخطى المستقبلية مثل القصة والرواية والشعر الحر والدراسات النقدية وقصيدة النثر لإسنادها من قبل قوى ابداعية خلاّقة , استطاعت ان تخطو بها خطوات كبيرة على طريق التطور والتجاوز ، فإن جنساً ابداعياً واحداً يبقى مهدداً امام تيارات الأزمنة القادمة ، وهذا الجنس هو القصيدة الكلاسيكية ، الأب الروحي الذي انطلقت منه كل هذه الأجناس الشعرية وتمردت عليه بسبب عراقة تأريخه والفترة الزمنية الطويلة التي استغرقها والموضوعات التي استهلكها على امتداد فترته الزمنية الهائلة حتى بات من الصعب ان يكتب الشاعر قصيدة يمكن ان تضيف جديداً لهذا الرصيد الابداعي الذي يرتكز على ملايين القصائد التي قيلت على مدى اكثر من الف وخمسمائة سنة ولابد ان نتوقف هنا لنشير الى ان هذا الجنس الابداعي يمكن له ان يتعايش بل وأن يؤكد فاعلية حضوره لكن ذلك يتطلب شيئاً بالغ الصعوبة ، أن يبزغ فجر موهبة نادرة وقدرة ابداعية استثنائية خارقة قادرة على احتواء روح العصر وايقاعه الداخلي ، وألاهم من ذلك قادرة على ازالة قشرة اللغة الشعرية التي استهلكتها الرتابة ، للوصول الى لغة شعرية تستطيع بتوهجها الجديد ، ان تمشي جنباً الى جنب وربما تتقدم بسبب عراقتها واصالتها ورصيدها المعرفي الكبير ، على باقي الأجناس الشعرية الأخرى ولكن العمالقة الذين رسخّوا ابنيتها الشاهقة هم الذين يموتون مخلفين وراءهم فراغات تهدد دائماً بانهيارمن يحاول ان يشيد مثل هذه الأبنية الشاهقة على صعيد المستقبل وبالتالي انهيار تلك القمم الصغيرة التي لا ترقى الى ابنية العمالقة وما لم يولد احفاد جديرون بهؤلاء العباقرة في تحمل أعباء المسؤولية الجسيمة فان القصيدة الكلاسيكية ستواصل الأنسحاب شيئاً فشيئاً لتفسح الطريق للاجناس الأخرى لكي تتقدم وترسخ فاعلية حضورها الأبداعي وتعيش دورة حياتها بامتلاء. وقصيدة النثر هي الجنس الشعري الذي يمتلك اكثر العناصر التي يمكن ان تحقق حالة المواكبة مع حركة العصر المتواثبة ، فقد ولدت هذه القصيدة أصلا من فوضى التمرد على الأستعبادات الشكلية وهي تحمل رفضها لتحديد هويتها ومعالمها وتعدد أشكالها ومع ذلك فانها تصنع في فرضياتها ارادتها الواعية على الانتظام وعلى ان تحتويها وحدة موضوعية مستقلة , ومن جانب آخر فإنها ترتكز في بنائيتها على اقصى قدر ممكن من الايجار فجوهر قوتها يكمن في بنائية تركيبها المضيء كما انها من جانب آخر تتصف بوحدة موضوعاتها ومجانيتها أو ما يصفه النقاد( اللازمنية التي لا تتطور فيها القصيدة نحو اتجاه معين أو ما يمكن ان نختصره بكلمة ( كونيتها)، واذا بحثنا عن جوانب آخرى فأننا نجد انها الجنس الأبداعي الوحيد الذي تقوم دورة حياته على نسق غرائبي من النظام الذي تجتمع فيه المتناقضات بشكل يصعب تصوره، فمن الفوضى ، ومن الفوضى الموغلة في التدمير أحيانا يولد هذا الكائن العجيب ليتكون شكلٌ شعريٌ يتناسق مع طموحات رامبو في تأكيده الدائم على ان اختراعات المجهول تتطلب دائماً أشكالاً جديدة لا يستطيع ان يحققه الشاعر الا عندما يتحول الى الكائن الرائي حاملاً شباك لغته وهي في اوج توهجها لتكون اداة فاعلة لصيده الروحي ، انها بشكل من الأشكال حملة جنون لإعادة التوازن الروحي لهذا العالم قادها شعراء ممسوسون انتهوا في المستشفيات ليموتوا بأمراضم ، ومجانين عاشوا غرباء عن هذا العالم رغم انهم عاشوا في قلبه الساخن وآخرون اذهلتهم الرؤيا فكفوا عن كتابة الشعر ليتركوا ارواحهم تواصل اكتشافاتها بصمت ، وهكذا انتهى لوي بيرتران عرّاب الرمزية الأول ذو الحادية والعشرين عاماً الذي فتح بديوانه الصغير ( غاسبار في الليل ) عصر قصيدة النثر الفرنسية والذي مات في احدى المستشفيات بأمراضه ليولد ديوانه الذي لم يره والذي صدر بعد موته وتتسرب اشعاعاتٌ من ألوانه الغريبة في فوضاها الى قلوب شعراء اصبحوا عمالقة الشعر الحديث في العالم ، فمن اشعاعات بيرتران ذلك الطفل الفوضوي المجنون والمجهول في الأوساط الثقافية عبر ديوانه الوحيد الذي طبعه له اصدقاؤه والذي لم يبيعوا منه اكثر من عشرين نسخة كان بعضها على سبيل الأهداء ، بدأ الجنون يتسرب بوحشية الى ارواح بودلير وملارميه ورامبو وفيرلين وغيرهم ، ومن يدخل في تفاصيل حياة هؤلاء الشعراء اليومية ويتعرف على هول التناقضات المرعبة في نمط سلوكهم الحياتي ، لابد ان يأخذه العجب فهل يمكن لهؤلاء الشعراء الذين لا يصلحون الا للمصحات ان يصلوا حقا وبمثل هذه الأساليب التدميرية لحياتهم ولحياة من هم حولهم ، الى الأيمان العميق بجوهر الروح الأنسانية والوصول الى صيدهم الروحي الذي كرسوا له حياتهم العاصفة ؟ ولا يمكنك وانت تشاهد مدى الفوضى والسخرية والحماقات في حياة هؤلاء الشعراء إلا ان يمسك الذهول والعجب لامتلاكهم قدرة الوصول الى مثل هذه الكنوز التي لا يبحث عنها الا شعراء مرتكزون ثابتون في خطواتهم يمتلكون من المرجعيات ما يثري ارواحهم وثقافاتهم بما يؤهلهم لامتلاك بصيرة نفاذة قادرة على النفاذ الى المستقبل ولا عجب في ذلك فهم يحفرون بدأب العباقرة ومثابرة الأبطال الصابرين لتحقيق ما هو مضيءٌ في خيالاتهم المسكونة دائماً بالرموز التي تمتلك ارواحا وكأنها كائنات حية تلسعهم دائماً وتدفعهم الى مزيد من التوغلات في العوالم المجهولة المبهمة. ولكي نؤكد هول حجم التناقضات في اعماق هؤلاء الشعراء حسبنا ان نتوقف عند اليوم الأخير في حياة الشاعر العظيم رامبو حين كان على فراش الأحتضار فقد طلبوا من الكاهن ان يترفق في انتزاع الأعتراف من هذا الكائن العجيب الذي عاش طوال حياته ملحداً ناكراً للكنيسة متمرداً على اعرافها وتقاليدها ، وحين خرج الكاهن من غرفة رامبو المحتضر استغرب مما كانوا يقولونه عنه فقد وجده من اكثر المؤمنين بل واشدهم ايماناً على الأرض ، والحق ان هؤلاء الشعراء لم يستطيعوا اعادة التوازن الروحي لهذا العالم السائر على شفرة القلق الدائم بل انهم سقطوا ضحايا الفوضى التي تسود فيه ولكن لا احد بامكانه ان ينكر انهم استطاعوا ان يهزوا العالم من اقصاه الى اقصاه بموجهم الشعري الطافح رغم ان حياة اكثرهم كانت قصيرة ، وان هذا الموج العاصف ترك تأثيراته المتلاحقة على اجيال شعرية بأكملها.