في جلبة الحديث الذي يسلط الأضواء على الطرائق والتقنيات التي تستخدمها المدرسة، وفي حميّا البحث عن دور المدرسة في تلبية حاجات المجتمع المختلفة ولاسيما حاجات القوى العاملة، يكاد المربون ينسون المهمة التي لا تستقيم سائر المهمات بدونها وهي ماينبغي أن تسعى إليه المدرسة من رعاية لمحتوى التربية ومضمونها، وبوجه خاص من تعهد للثقافة بمعناها الواسع فكرية كانت أم أدبية أم فنية أم علمية أم غير ذلك. قد يبدو من المكرور أن نقول: إن على رأس مهمات المدرسة تزويد الناشئة بزاد ثقافي غني، بل قد يظن بعضهم أن هذه المقولة قد تجاوزها الزمن، وأنها مهمة تحققها المدرسة سهواً، رهواً، وأنها ليست في حاجة إلى مزيد بمقدار ماهي في حاجة إلى أن تربط بالأهداف الجديدة التي أولتها الدراسات الحديثة للمدرسة وعلى رأسها اهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. أي ثقافة نعني؟ وقد يكون هذا الظن صحيحاً إذا ادركنا من الثقافة معناها الضيق المجدب، نعني تزويد ذاكرة الطالب بكتلة من المعارف والعلوم، أما حين نضع الثقافة في موضعها الصحيح ونفهمها حق فهمها نجد أن المدرسة في كثير من انحاء العالم قلما تضطلع بدورها الثقافي الحقيقي، لاسيما بعد انتشار وسائل البث الجامعية وسائر مايعرف باسم المدرسة الموازية.. أجل، الثقافة التي تعرف الناشئ بعصره وزمانه، وتربط هذا العصر والزمان بالتجربة الثقافية الماضية، وتجعله يرى العالم رؤية جديدة من خلال فهمه له فهماً جديداً، وتمكنه من تكوين نظرة متكاملة عن الأشياء بدلاً من النظرة المبعثرة المجزأة، وتحرك عقله كما تحرك وجدانه ولبه وتعرف أن توقظ البراكين الخامدة في أعماقه، وتستطيع بالتالي أن تثير لديه متعة المعرفة ومافيها من إشراق ووجد، مثل هذه الثقافة قلما تعنى بها مدارسنا، وقلما يدرك الكثيرون من المربين آفاقها وأبعادها الخلاقة بل لقد اهمل شأن مثل هذه الثقافة، وضاعت حين اختلط أمرها بآفة رذولة، أنكرتها التربية الحديثة. آفة الاقتصار على امتلاك المعلومات والمعارف، وآفة التضخم المعرفي.. لقد وجهت التربية الحديثة جهدها منذ الربع الأول من القرن حتى الآن إلى أن تبتدع الطرائق التربوية، القادرة على إثارة اهتمام الطالب، وعلى ابتلاعه للمعرفة من غير تأبٍ أو صد. وكأن الموضوعة الصريحة أو المضمرة التي انطلقت منها، هي اعتبار المعرفة التي تقدم جرعات من الدواء المر ينبغي أن نسعى بالطرائق الناجعة إلى أن نغلقها بالحلوى. وليس المجال مجال مناقشة اتجاهات مايسمى بالتربية الحديثة، كما أننا لا ننكر أثر الطريقة لاسيما في المراحل الأولى من الدراسة غير أن ماننكره هو اهمال المحتوى الثقافي للعمل المدرسي وعدم إدراك الدور الكبير الذي تستطيع أن تلعبه الثقافة، الفنية البارعة في تحبيب الطفل للمدرسة وفي تعلقه العميق بالعلم والمعرفة.. بل نزعم أن المتعة التي يخلفها تذوق مثل هذه الثقافة العميقة هي المتعة الحقه التي ينبغي أن تبحث المدرسة عنها قبل سواها. ويزيد في أهمية هذا القول مانجده من سيطرة وسائل البث الجماعية والمدرسة الموازية، ولسنا ممن لا يقدرون أثر تلك الوسائل وهذه المدرسة إن شأنها كبير في أن تنقل العلم لكل إنسان، وفي أن تفتح آفاقة أمام كل متطلع، وإن من مزاياها أنها تقدم تجربة معاشة حية وأن ما تعرضه من ثقافة يتسم بالحيوية والقدرة على التأثير.. إنها تقدم، تستأثر بالحواس وتمتلك القدرة على تفجير صدمات فكرية وعاطفية، غير أن هذه الثقافة التي تبثها تلك الوسائل على قيمتها وشأنها أثر سطحي كما أثبتت الدراسات الكثيرة بل كثيراً مايكون آنياً ينسى بعد حين، وفيها يختلط الواقع بالخيال وتأخذ الأمور شكل «مشهد» يراه الإنسان، ولكنه لا يعنيه أن يكون له شأن فيه وهي فوق هذا وذاك معرضة في كثير من الأحيان إلى أن تفقد معناها وسط مشاغل حياتنا. من هنا كأن شأن الثقافة الناضجة المتكاملة، التي ينبغي أن تقدمها المدرسة في نظرنا شأن لاينازعها فيه منازع، بل هو شأن يسد كثيراً من ثغرات التعرض للثقافات التافهة، أو العارضة أو الملوثة.. ولا نعني بمثل هذه الثقافة مجرد مانعرفه ونألفه، عادة في المدرسة وسواها من اطلاع على آثار المتقدمين والمحدثين في شتى فنون الثقافة.. بل لا نعني بها كذلك مجرد الاهتمام «بالانسانيات الحديثة» التي طال الكلام عنها، نعني العلوم والتقنيات وسواها بل نعني هذا كله وشيئاً أعمق منه وأكثر تكاملاً، نعني الثقافة التي تحدثنا عن ثروات الماضي، والتي تعرف أن تصل ذلك الماضي بالحاضر، وتجعل هذا الحاضر حاضراً فعلاً أمام المتعلم. نعني الثقافة التي تعني حياتنا اليومية عن طريق تعميق ادراكنا لكل مافيها، بل عن طريق جعلنا قادرين على الاستمتاع بجمال الأشياء من حولنا بالأغذية الأرضية على حد تعبير القائل:«بالعزاء الذي نجده في حبة من تين أو كأس من ماء» وهو تعبير الشعراء الفرنسيين المعاصرين، إنها التي تجعلنا ندرك كذلك سحر الأشياء المصنوعة وما يقذف به المصنع والآلة، ومن نتاج له طابع الجمالي المتفرد، بل له «ألحانه ورومانتيكيته» على حد تعبير «بريشت» إنها ترينا فيما ترينا واقع المدينة المدهش على حد تعبير بودلير إنها ترينا بقول موجز مافي امتزاج الإنسان بالطبيعة من ابداع وجمال، وهي فوق هذا كله، تطلعنا على الحركة المستمرة المتصلة للتاريخ، وتجعلنا نحب الحاضر حباً أعمق ونفهمه فهماً أسلم حين نربطه بماضٍ نستمتع بجماله وروعته كما يستمتع الإنسان بذكريات طفولته، وبعد هذا بل وفوق هذا مهمة مثل هذه الثقافة أن تجعلنا نصل إلى الادراك الكلي الشامل للأشياء بحيث تغدو منظومتها أمامنا مترابطة متسقة، إنها تدمج مانحياه ونعيشه، ببنية أوسع وأشمل، برؤية كلية تأخذ الأشياء الجزئية معناها من خلالها. ومثل هذه الثقافة المتعددة الأبعاد والزوايا المتكاملة الأثر، لن تكون ثقافة عقلية محضية، بل ستكون ثقافة تهز الأعماق، أعماق المشاعر والانفعالات إذ لا ثقافة حقة إن لم يكن فيها مايحرك الوجدان والقلب ولعلنا لانغلو إن نحن رددنا «بريشت» بأن هدف الثقافة «أن تتحول كلها إلى متعة فنية». ولا يعني هذا أن مثل هذه الثقافة لن تكون فالوصول إلى الحقيقة إلى المعرفة الحقة في حاجة دوماً إلى وتر عاطفي وانطلاقة انفعالية، ويطول بنا الحديث إن نحن مضينا في تعداد صفات الثقافة المرجوة التي ينبغي أن تكون موضوع عناية خاصة من قبل المدرسة وكل ماقصدنا إليه حين قدمنا هذه الأوصاف المحدودة، أن نبين أن ثمة عالماً واسعاً غنياً تستطيع المدرسة أن ترتاده هو عالم الثقافة العميقة المتكاملة الذي يتأتى من تضامن المواد والمعلومات والنشاطات التي تقدمها، لا من عالم الثقافة العميقة المتكاملة الذي يتأتي من تضامن المواد والمعلومات والأنشطة التي تقدمها، لا من عالم الثقافة العابرة أو المتناثرة، فمثل هذه الثقافة هي التي تكون الشخصية المتسقة والمتكاملة التي ذاقت طعم الثقافة الحقة فتاقت إلى المزيد. أما مضمون الثقافة ووسائل بثها في النظام المدرسي ولاسيما عن طريق بث معانيها وأهدافها لدى المعلمين، فالأمر يطول الحديث عنه، ولا يتسع المجال له هنا، وحسبنا أن نقول: إن المدرسة في هذا المجال تخطئ غالباً في أمور ثلاثة أساسية: الأمر الأول: هو التريث عند أهمية الطرائق التربوية. الأمر الثاني: الظن بأن «المتعة» في التعليم هي وليدة تجويد الطرق التربوية وحدها، في حين ثمة متعة لا تعلو عليها متعة يمكن أن تتأتى عن طريق العناية بتقديم مضمون ثقافي حي وجذاب بمحتواه ذاته. الأمر الثالث: هو اعتقاد بعض النظم التربوية الحديثة أن توفير بعض شروط الحياة المدرسية الجديدة مثل حرية الطالب، ومشاركته في العمل المدرسي، واللجوء إلى التنويع الذاتي يستطيع وحده أن يتصدى لمسألة العلاقة بين المدرسة والطالب، وفي مقدوره أن يوفر للطالب فردوساً مدرسياً يعرف بالمتعة والحبور. وفي رأينا أن هذه الحلول كلها سوف تظل عاجزة عن أن تجعل المدرسة ثم الحياة من بعد «مصدر متعة» إن لم يمتزج بها مطلب أساسي وهو التوسل بالثقافة الحقة، وبقدرتها على تفجير الطاقات العقلية والحسية من أجل أن تصبح المدرسة حقاً مصدر للمتعة العميقة، لأنها مصدر «ثقافة» حقة. وهذا يشترط، كما قلنا ونقول: أن نحكم صياغة مثل هذه الثقافة الرفيعة التي نتحدث عنها، وأن ندرك الارتباط الوثيق الذي ينبغي أن يقوم بينها وبين ماهو حي، بينها وبين ماهو جميل وماهو خير وماهو حق. وبديهي أن الثقافة التي ندعو إليها لا تقتصر كما سبق أن قلنا على مجرد معرفة آثار المتقدمين والمتأخرين من أدباء وفنانين وعلماء ومفكرين، ومكتشفين وسواهم، كما لا تقتصر على تقديم معرفة علمية وتقنية تربط الطالب بالعصر، إنها تضم هذا كله، مكونة عن طريق النظرة الشاملة والحية روحاً مبثوثة عبر مواد الدراسة، كلها والنشاطات المدرسية جميعها قاسمها المشترك فهم العالم والكون فهماً متكاملاً، جماله في اتساقه وترابطه، ومتعته في عمقه وإبداعه، وكشفه في حجب الحقائق، إنها لتأليف عميق مبتكر بين نظرة الشاعر والأديب، ورؤية العالم والمبدع وأخيلة الرسام والنحات، وعطاء الصانع والمبتكر وتأملات المفكر والمنظر. وقد يتساءل سائل: وهل غرس مثل هذه الثقافة العميقة المتعددة في أبعادها، المتكاملة في رؤاها أمر ممكن في إطار المدرسة؟ وجوابنا الموجز: الأصل أن تعي المدرسة الهدف، وعند ذلك لا تقدم الوسيلة فهي دوماً من جنس الغاية يضاف إلى هذا أن مايمكن ويجب أن تقوم به المدرسة هو غرس بذور مثل هذه الثقافة تدريجياً وتعهدها يوماً بعد يوم عبر المراحل الدراسية المختلفة وترك الأمر للمجتمع الكبير بعد ذلك يتعهدها ويرعاها والشيء الهام هو أن تسلك المدرسة الطريق الجديد منذ البداية، وأن تجتنب الشعاب الملتوية التي قد تقود إلى الضياع، وادراكها لأهمية بث مثل هذه الثقافة العميقة، يجعلها تضع هذه الثقافة على رأس أهدافها وتدفعها إلى أن تصوغ كل شيء في مناهجها وطرائقها، صياغة تؤدي إلى ذلك الهدف الذي تندرج تحته وتنبثق منه في رأينا سائر الأهداف من تنموية واجتماعية وسواها.