في كل زيارة إلى القرية تعود بي الذاكرة قليلاً إلى الوراء، حيث لهو الطفولة وأيام الصبا.. القرية مهبط الهوى، ومسقط الرأس، وميلاد الحب والحبيب، بل ومعراج الحب إلى أعلى مراتب النقاء والطهارة والعفاف. هنا في هذا المكان وفي هذا الجو المعطر بنسماته الممزوجة بعبق الأرض والتاريخ.. هنا كانت قصة الحب الأولى.. دمعة البداية.. همسة البداية .. وأية همسة وما أجملها من همسة!! أشعلت في خلايا الروح نابضاً بالدفء والألق.. هنا حزن النهاية، وما أحزنها وما أقساها من نهاية تركت في القلب جرحاً، أبداً لن يلتئم. لكن القرية اليوم لم تعد كما كانت زمان .. إذ تغيّرت معالمها، فلبست ثوب المدينة ورداء التحضر، وخلعت رداء الأصالة والعراقة، وتزيّنت سطوحها بأطباق “الستلايت” بعد أن كانت مملوءة بالورد والرياحين. لم يعد في القرية شيء جميل سوى بقايا ذكريات زاخرة بالبهاء لأيام كانت رائعة الجمال. وقفت على أطلال حائراً متسائلاً.. أسائل القمر والنجوم، والشجر والبشر. السهول والجبال.. أسائل زهر الروابي وذرات التراب: أين اختفى جمال القرية وأين ولىّ وراح؟! من لوّث هواء القرية وأفسد نسيم الصباح؟! مَنْ عكر صفو صباحنا المشرق بالضياء.. من اغتال براءة الريف الهادئ الوديع ؟! مَنْ سلب بهجتنا وأفراحنا؟! من أقفل أبواب الحب والخير والصدق والوفاء؟! ها هي القرية بأشجارها وأحجارها .. بصباحها ومسائها.. وهوائها ونسيمها تسألني بأسى بالغ الأثر:مَنْ فعل كل هذا العبث والخراب؟! حقول الذرة تسألني أين حصاد أيامنا الجميلة وليالينا السعيدة؟! وتسألني زهور الورد والريحان ورائحة الكاذي والمشاقر عمّن سرق عبير القرية الفوّاح .. وعمّن قطف براعم الزهر قبل الأوان. وعمّن استبدل عبق الحب والوئام برائحة الحقد والخصام!! ففي كل أحاول رسم صورة جميلة في خيالي لملامح القرية المليئة بالخضرة والجمال.. والزاخرة بالخير والعطاء والعابقة ببخور الود والدفء والحنان والمترعة بالبشر والهدوء... أعجز عن فعل كهذا، مقارنة بها وحالها اليوم. فكل شيء تغير ولايدعو إلى التفاؤل والأمل. “فوانيس” القرية المسرجة ليلاً أنطفأت.. زهور الريحان والشذاب والمشاقر التي كانت توضع على السقوف والشبابيك وتزين بجمالها وألوانها رائحة الدار... ذبلت ألعاب الطفولة البريئة تلاشت وأختفت. عصافير الصباح لم تعد تعزف ألحان الصباح. الفجر بلا شعاع ورونق وضياء... والصبح بلا روحٍ حتى يتنفس. “نيسان” وما أدراك ماشهر نيسان!!... ذو الورد والزهر هاهو اليوم يتيم.. حزين، دون ورد وزهور بعد أن كانت وروده معلقة على خدود الفاتنات. معالم الزراعة لم يعد يهتم بها أحد.. إذ اختفت “مهاجل” و”مواويل” الفلاحة والحقول لم تعد “محاجين آب” تغطي الشعاب والحقول أندثرت “زوامل” الأعراس والأعياد وحتى رقصة “البرع” لم تعد بذات النشوة والاهتمام فقدنا أغاني الحب والصراب ففقدنا “راعد الخير” و”شوق السنابل” ولم نذق طعماً للراحة والهناء “دواوين” و”مجالس” القرية أغلقت بعد أن كانت مشرعة الأبواب لروادها برحابة صدر وطمأنينة. حتى رمضان شهر الخير والحسنات فقد جزءاً من روحانيته بسبب السهر ومضغ القات. الحقول والوديان وحتى سفوح الهضاب ذات البساط الأخضر صارت قاحلة، وخالية من أي أثر للماشية والرعاة.. إلا من شجرة هنا وأخرى هناك والتي يبدو أنها استعصت وقاومت كل عوامل الحطب والجفاف.. وبعض الحشائش الصغيرة التي لا تعمر في الغالب أكثر من أسبوع وأحياناً شهر عقب رشة مطر خفيفة. أما ليل القرية فكأني أسمعه يردد قول الشاعر، لسواده ووحشته ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي بصبح وما الإصباح عنك بأمثل فهو مظلم.. موحش.. يبعث على الأسى والكدر.. حزين لايعرف الفرح.. وحيد لا أنيس ولاسمير.. لا “أيوب طارش” شفاه الله وأطال في عمره يُسامر الخلاِّن والأحباب حتى ينادي العاشقين مُؤذناً باختفاء القمر والنجوم: ياعاشق الليل ماذا أنت تنتظر نامت عيون العذارى واختفى القمر تسامر النجم والأطياف حائرة تحوم حولك لاتدري.. فما الخبر وأما الصباح فله ألف حكاية وحكاية فهو مظلم كالليل... باهت كالغروب لاشعاع ولاضياء... لادفء ولابهاء حتى نسيم الصباح لم يجد باهي الخد ليسلم عليه كما أعتاد كل صباح وحتى عصافير الصباح سكتت عن ترتيل أنشودة الصباح، وكأنما أصابها الخرس... بل وكأني أراها تقيم مراسم العزاء حزناً وحداداً على ربيع القرية الضاحك الفنان بعد أن أغتالته أيادي البشر وقسوة الشتاء. كطفل صغير يتلهف إلى حضن أمه ليتزود بجرعة حبٍ وحنان... ولمسة دفء، وأمان..وأحن إلى أيام الصبا.. حيث اللعب واللهو في السهول والحقول... أحن إلى زقاق القرية وأيام الفرح والسلا. فالقرية جزء من ذاكرة حياتي.. وكل زيارة لها تبعث الأشواق والحنين. وتمتزج أيام الفرح بأيام الحزن فلا يبقى فيها شيء سوى الألم. وها أنذا أنظر إليها وإلى أماكن اللعب واللهو التي كنا نلعبها وقد استوطنتها يد البناء والعمران.. أوطالتها أيدي العبث والخراب والإهمال. هاهي صورة القرية في ذاكرتي الآن، لم تعد جميلة كما كانت أو كنت أظنها وأراها بعيني. ربما لأن عنكبوت التمدن وأوهام التحضر نسجت خيوطها على كل شيء جميل في القرية.