تعز.. الاعلان عن ضبط متهمين باغتيال المشهري دون الكشف عن اسماؤهم بالتزامن مع دعوات لتظاهرة حاشدة    تعز.. الاعلان عن ضبط متهمين باغتيال المشهري دون الكشف عن اسماؤهم بالتزامن مع دعوات لتظاهرة حاشدة    لقاء أمريكي قطري وسط أنباء عن مقترح أميركي حول غزة    منتخب اليمن للناشئين يفتتح مشواره الخليجي أمام قطر في الدوحة    المنتصر يبارك تتويج شعب حضرموت بكأس الجمهورية لكرة السلة    السعودية تعلن عن دعم اقتصادي تنموي لليمن    شرطة تعز تعلن القبض على ثلاثة متورطين في جريمة اغتيال أفتهان المشهري    عطوان يصف تهديدات كاتس بالهذيان! ويتحدا ارسال دبابة واحدة الى صنعاء؟    تنفيذية انتقالي كرش تناقش الأوضاع المعيشية والأمنية بالمديرية    صنعاء.. البنك المركزي يعيد التعامل مع شبكة تحويل أموال وكيانين مصرفيين    مساء الغد.. المنتخب الوطني للناشئين يواجه قطر في كأس الخليج    صلاح يتقدم على سلم ترتيب أفضل صانعي الأهداف في تاريخ البريميرليغ    شباب المعافر سطروا تاريخهم بقلم من ذهب..    مستشفى الثورة في الحديدة يدشن مخيماً طبياً مجانياً للأطفال    توزيع 25 ألف وجبة غذائية للفقراء في مديرية الوحدة    تعز بين الدم والقمامة.. غضب شعبي يتصاعد ضد "العليمي"    انتقالي العاصمة عدن ينظم ورشة عمل عن مهارات الخدمة الاجتماعية والصحية بالمدارس    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    رئيس الإصلاح: لمسنا في تهاني ذكرى التأسيس دفء العلاقة مع القوى الوطنية    عبدالله العليمي: الدعم السعودي الجديد للاقتصاد اليمني امتداد لمواقف المملكة الأصيلة    ضرورة مناصفة الانتقالي في اللجنة القانونية: لتأمين حقوق الجنوب    عرض كشفي مهيب في صنعاء بثورة 21 سبتمبر    فعالية لأمن محافظة ذمار بالعيد أل11 لثورة 21 من سبتمبر    "العفو الدولية": "الفيتو" الأمريكي السادس ضد غزة ضوء أخضر لاستمرار الإبادة    قذائف مبابي وميليتاو تعبر بريال مدريد فخ إسبانيول    تعز.. خسائر فادحة يتسبب بها حريق الحوبان    الشيخ عبدالملك داوود.. سيرة حب ومسيرة عطاء    بمشاركة 46 دار للنشر ومكتبة.. انطلاق فعاليات معرض شبوة للكتاب 2025    الأرصاد يتوقع هطول أمطار رعدية على أجزاء من 6 محافظات    وزير الخدمة يرأس اجتماعا للجان دمج وتحديث الهياكل التنظيمية لوحدات الخدمة العامة    هولوكست القرن 21    وفاة 4 من أسرة واحدة في حادث مروع بالجوف    0محمد اليدومي والإصلاح.. الوجه اليمني لانتهازية الإخوان    بورصة مسقط تستأنف صعودها    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    إب.. وفاة طفلين وإصابة 8 آخرين اختناقا جراء استنشاقهم أول أكسيد الكربون    بسبب الفوضى: تهريب نفط حضرموت إلى المهرة    البرازيل تنضم لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    الرشيد يصل نهائي بيسان ، بعد الفوز على الاهلي بهدف نظيف، وسط زخم جماهيري وحضور شعبي الاول من نوعة منذ انطلاق البطولة    بن حبريش: نصف أمّي يحصل على بكلاريوس شريعة وقانون    المركز الثقافي بالقاهرة يشهد توقيع " التعايش الإنساني ..الواقع والمأمون"    أين ذهبت السيولة إذا لم تصل الى الشعب    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    موت يا حمار    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البيت الكبير
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 12 - 02 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
لقد كان عام 1949م هو عام التحول الذي طرأ على حياتي، ففيه تحولت من بيت أبي الصغير إلى بيت جدي الواسع، وفي هذا العام أيضاً تحولت من مدرسة باشراحيل الابتدائية التي داخل سور الغيل القديمة إلى منطقة الصالحية بتلك المدرسة النموذجية الواسعة والمهيأة للجو الدراسي النظامي، وفي نفس العام أنهيت دراستي الابتدائية بنجاح.. إلى جانب هذه التحولات كان فيه انطلاقي في الانخراط في النشاطات الإبداعية كالرسم والقراءة والمسرح، ففي بيت جدي الواسع انطلقت مواهبي تجول في أرجائه الفسيحة، وتتفاعل مع جو ذلك البيت المشبع بروح العلم والفكر، فقد كان أكبر أخوالي المؤرخ سعيد عوض باوزير في تلك الفترة قبلة للعديد من الشباب المتنورين المتعطشين للعلم والمتحمسين للأفكار الوطنية التي كان يروجها خالي سعيد، وهو على الرغم من دراسته في رباط بن سلم بالغيل، الذي تعلم فيه معظم شباب الغيل حينذاك، وعلى الرغم من أنه لم يدرس في جامعة في الخارج، إلا أنه كان واسع الأفق كثير الاطلاع على العديد من الكتب الفكرية التنويرية والسياسية للكتاب الكبار الذين حملوا لواء التنوير في العالم العربي كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن بعدهم طه حسين والعقاد وغيرهم وإنني لأتذكر جلساته التي لم تبارح مخيلتي حتى اليوم تلك اللقاءات التي كانت تتم في الجزء الأمامي من بيت جدي والمخصص للرجال.
في تلك الغرفة الواسعة التي تضم مكتبة عظيمة مليئة بدور الفكر والثقافة كانت الجلسات تعقد بينه وبين عدد من مدرسي المدرسة الوسطى وتلاميذها الذين يشكلون في ذلك الوقت الطلائع الثورية التي أمدت حضرموت وسائر بلاد اليمن فيما بعد بالكفاءات والخبرات العلمية وذلك بعد ان أكملوا دراساتهم في كليات وجامعات الدول العربية والأجنبية من هذه الغرفة تبدأ المناقشات والحوارات المستفيضة حتى إذا ولى النهار أو كاد، خرجوا إلى “البرندة” التي تقع أمام تلك الغرفة والتي تتوسطها شرفة خشبية عريضة تهب من خلالها نسمات باردة عذبة في أيام الصيف.. في هذا المكان الجميل تتواصل النقاشات من الخامسة مساء حتى وقت من الليل.. في هذا الجو المشبع بالروح الثقافية الوطنية، التي أضرمت شراراتها ذهني الخامل، بدأت الحياة تدب في أوصالي فقد كنت أجلس بعيداً عنهم أستمع وأنصت إلى تلك النقاشات الجادة والجديدة علي فتزيد من توقد ذهني وتفتحه، هذا إلى جانب تعرفي على المكتبة التي كانت تحتوي إلى جانب الكتب الأدبية والفكرية على العديد من المجلات والصحف المصورة وكتب الأطفال.. من هذه المكتبة تعرفت على عالم الكلمة والصورة، ومنها استقيت أولى معارفي الأدبية والثقافية وذلك من خلال مجلة سندباد وبعض الصحف والمجلات العربية كالهلال والمصور إلى جانب سلسلة كتب الأطفال لكامل كيلاني والأبراشي ودار المعارف وغيرها من الكتب التي تناسب سني حينذاك.. ومن ذكرياتي الأخرى لذلك البيت الشامخ ببوابته الضخمة التي هدمت قبل سنوات أن موقعه يقع مباشرة على الطريق الرئيسي لمدينة الغيل، الذي يعد الحد الفاصل بين حارتي (المقد) (والمسيلة) والذي اصبح مثار كثير من المنازعات بين الحارتين المتنافستين، وذلك نتيجة الجهل المتفشي بين الأهالي، وبتشجيع من القوى الاستعمارية والسلاطين التي كانت تقتضي سياستها بأن يشتغل الناس بأمور جانبية لتلهيهم عن الدور الذي يجب عليهم أن يؤدوه في إصلاح بلدهم، وتصرفهم عن السعي للتحرر من سيطرة السلطان وحكمه المطلق للبلاد، وجمع الأموال لحسابه الخاص، وإهمال مصالح البلد التي تئن حينذاك من الفقر والجهل والمرض.. وتشتد هذه المنازعات عادة بين الحارتين في الزيارات التي تقام فيها لعبة “العدة” وهي لعبة شعبية مشهورة في حضرموت، في مثل تلك المناسبات تشتد الخلافات بين الحارتين، حيث يسير كل فريق جيشاً كبيراً من الرجال بعصيهم الغليظة التي يحملون معها “الدرق” جمع درقة و”الدرقة” هي الدرع التي يتلقون بها عصى الجانب المنافس لهم عند اشتداد المعارك بينهم، وهي تعني في لعبة العدة الإيقاع للنغم الذي يرتبط به الجميع أثناء الرقص حيث تتطلب رقصة العدة قفزة إلى الأعلى، وفي هذه القفزة التي يقفزها جميع اللاعبين يضرب الجميع عصيهم بهذه الدرقة فيحدث دوي هائل وذلك لكي يغيظوا ويرعبوا الجانب المنافس لهم، في مثل هذه المناسبات التي تجوب فيها هذه الجيوش التي تنتظم صفاً بعد صف تتقدمهم الطبول وشاعرهم الذي يلقنهم أبياتاً من الشعر الشعبي يفخر فيه بحارته ورجالها، من آن لآخر في مثل هذه الحالة والرجال في أشد حماسها يحدث أن تتعدي الجماعة الأخرى على حدودها هنا تبدأ المعارك بالعصي والحجارة، لتخلف بعدها العديد من الجرحى والمصابين بالكسور كما تخلف وراءها الحقد وروح الانتقام لتتكرر مثل تلك المعارك في مناسبة أخرى وتحكي جدتي “نور” أم والدتي أن النساء في السابق كن يشاركن أزواجهن “بالزغاريد” وبجلب الأحجار لهم.
هناك أيضاً مناسبات أخرى.. يحصل فيها مثل ذلك الشجار وإن كان بصورة أخرى وذلك في مناسبات الزواج فلكل حارة حينها مقدمها يأتمرون بأمره وبجانب ذلك المقدم بعض الوجهاء من خاصته تكون لهم الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة في الحارة ولكل حافة رجالها الذين يتولون ترتيب مسائل الزواج كإقامة “الشراع” الذي ينصب عادة أمام بيت الزوج أو الزوجة.. وترتيب وليمة الغداء من ذبح وطباخة.. واختيار المطربة التي ستقيم حفل النساء ويسمونها “المشترحة”، حتى التي تقوم بنقش الحناء والخضاب للعروسة لابد وأن تكون من الحارة التي ينتمي إليها الزوج ويا ويل من يتجرأ ويستعين بمسألة من هذه المسائل من الحارة المنافسة الأخرى، هنا تتم مقاطعة كاملة من كل أفراد حارة الزوج، وربما أفشلوا مثل ذلك الزواج وذلك جزاء لاستعانة ذلك الزوج بأهل الحارة الأخرى، عقول ضالة عشش فيها الجهل وغذتها كما قلنا سابقاً الأيادي “الانجلو سلاطينية” لتشغلهم بسفاسف الأمور عن إصلاح بلدهم، حتى الموت لايخلو من هذه المعارك.. تذكر جدتي “نور” رحمها الله تعالى أنه ذات يوم وبينما كانت جنازة أحد الاموات من حارة المقد وخلفها جموع المشيعين في طريقهم إلى المقبرة وهم يهللون ويكبرون إذا بأقدامهم تدخل ربما بالغلط في حدود حارة المسيلة.. وما إن رأت جماعة من حارة المسيلة ذلك الاعتداء السافر حتى اشتبك الجانبان في معركة بالعصى والحجارة تاركين الميت ملقى على الأرض ولربما أنه كان حينها ينظر إليهم من خلف كفنه ليهزأ من تلك العقول الضالة التي لاترعى حرمة حي أو ميت.. هذه المعارك لم أشهد منها شيئاً اللهم إلا بعض المناوشات البسيطة، وذلك بفضل انتشار الوعي بين الشباب الذين انخرطوا في التعليم بالمدرسة الوسطى وغيرها وبدأوا يشعرون بأن تلك المعارك لاتخدم إلا المستعمر والسلاطين التي تأخذ بمقولة “فرق تسد”.
على أن ذكرياتي عن هذا البيت لم تقتصر على الأمور الجدية لوحدها من الحياة فلقد كان لي ولبعض الأصدقاء من الجيران ساعات لهو ومرح بذلك البيت.. وأذكر أنني وأبناء أحد الجيران وكان بيتهم الذي يقع خلف بيت جدي يلقب ببيت “برعم” وإطلاق الألقاب في غيل باوزير على الأخص عادة خبيثة يطلقها الأهالي بعضهم على بعض فهذا يلقب “طست” وذاك “دلة” وثالث “سكين” وآخر “جاح” إلى أخر هذه الألقاب الممقوتة.. وكان لهذا الجار الملقب “برعم” ابن في مثل سني واسمه “عبدالله بامطرف” مع هذا الزميل كونا فريق إعدام للفئران وكان ساحته “الحيوه” وهو الحوش الواسع الذي يقع بين الجزء الأمامي المخصص للرجال والجزء الداخلي الذي يشمل “ضيقتين” على الطريقة المتبعة في البناء بغيل باوزير وبعض المدن الساحلية كالشحر، والتي تتكون كما ذكرنا في وصف بيت والدي من “عطفه” تتجه إلى إحدى الجهتين إما شمال أو يمين.. ومستطيل طويل يرتبط بالمطبخ وفوق هاتين الغرفتين تقع غرفتا النوم لجدي عوض وخالي سعيد أما أخوالي الآخرون أحمد ومحمد وسالم فلم يكونوا قد تزوجوا في ذلك الحين.. وكان لجدتي “عائشة” التي كنا ندعوها “عميمة” وهي أخت جدي عوض هذه الجدة لها مخزن خاص بالضيقة الشرقية تضع فيه حاجاتها من ملابس وبعض المواد الغذائية كالبيض والزيت والخبز.. وكان مخزنها هذا يشكل مستعمرة للفئران كانت تتعايش معهم في أمان.. أو لربما أنها لاتتذكر ماتضعه من خبز فيأتون عليه دون أن تدري، لكن المشكلة بدأت حين أخذت تشكو من اختفاء البيض.. كما أنها كانت تجد أن قارورة الزيت ملقاة على الأرض وهي فارغة من الزيت، وعندما اتجهت أنظارها إلينا..
انكرنا ذلك ولكنها أصرت على رأيها غير مصدقة أن الفئران تستطيع أن تسرق البيض أو تشرب الزيت من داخل القارورة ويظهر أن تكاثرهم وقلة الخبز الموجود بالمخزن هو الذي جعلهم يسطون على بقية المواد الأخرى.. أو لربما أن غريباً ماكراً قد دخل بينهم وعلمهم ماليس يعلمون.. وكثرت الأقاويل حتى أن البعض أشار إليها بأن تسد الحجر الذي يأتون عبره من جدار المخزن والذي يعد البوابة الرئيسية لهم ولكنها كانت ترفض ذلك وعندها يقين من أن الفئران لادخل لهم بهذه السرقات حتى أن إحدى صويحباتها قالت في ذلك قصيدة طويلة تتحدث بلسانها مدافعة فيها عن الفئران ولايحضرني إلا بيت واحد حيث تقول:
وقال الفار “ماسيبي” وجحري لاتختمونه
ألا يا ليلة الغونه
وكلمة ماسيبي بلهجة أهل الغيل تعني لادخل لي.. بعد هذا الإصرار من جانب جدتي عائشة قررنا مراقبة ذلك المخزن، دخلت صباح ذات يوم وبما أن المخزن كان في ظلام دامس كل الأوقات فقد جعلت بابه نصف مفتوح وبعدت في جانب منه بحيث أستطيع رؤية اللصوص حين يخرجون من وكرهم، وبعد أكثر من ربع ساعة خرج أثنان من الفئران يتشممون ما أمامهم وبخفة وصلوا إلى حيث كانت تقف قارورة الزيت، ولم يكن فيها حينذاك إلا أقل من ربعها أضجعاها برفق وأخذ أحدهم يعالج القرطاس الذي يسد فتحتها فبقي الزيت بداخلها ولم يتدفق كما أرادا لأنه كان دون مستوى الفتحة، عند ذلك لجأ أحدهم ولعله أكبرهم إلى حيلة خبيثة فقد استدار بمؤخرته وأدخل ذيله داخل القارورة وبعد أن غمسه بالزيت أخرجه وهم بلحس الزيت العالق بذيله، وهكذا فعل شريكه واستمرا في هذه العملية حتى أتيا على كل الزيت الذي بداخل القارورة قلت في نفسي: هذا ماكان من أمر الزيت فكيف لهما بشرب ما بداخل البيضة دون أن يتركا أثراً لقشرتها؟
انتظرت لحظة فإذا بالفأرين يعودان إلى شمشمتهما ويقومان بمسح كامل لأرض المخزن، وماهي إلا لحظة حتى كانا بجانب قفة من الخوص بداخلها بيضتان وبسرعة أتجه كبيرهما إلى جانب القفة فإذا هي تنقلب رأساً على عقب وقد تدحرجت منها البيضتان، ثم وصوص الكبير بشيء للآخر، فإذا بالفأر الصغير ينطرح أرضاً على ظهره جاعلاً قوائمه وبطنه إلى الأعلى، وأخذ الكبير يدحرج إحدى البيضتين حتى أوصلها إلى حضن صاحبه، عند ذلك أطبق عليها الفأر المبطوح وتلقفها كما يتلقف حارس المرمى الكرة ليحول بينها وبين الدخول إلى شبكة المرمى، بعد ذلك أتجه الفأر الكبير إلى رأس زميله وعض بفمه على أذنه وجعل يسحبه في رفق متجهاً به إلى الجحر، كل هذا والبيضة في حصن حصين، حتى وصلا إلى مخبأهما، أخذ الفأر الكبير في دحرجة البيضة من على بطن صاحبه في حذر حتى أوصلها إلى باب الجحر عندئذ غابا معاً مع البيضة بعد هذا العرض الذي قدماه أمامي خرجت لأروي للأهل ما رأيته عند ذلك أعلنا حالة الطوارئ بذلك المخزن، وتمكنا من جلب ثلاث مصائد للفئران نصبناها دفعة واحدة بالمخزن، وكلما قنصت إحدى تلك المصائد فاراً خرجنا به إلى الحوش الذي سميناه ساحة الإعدام، وأعدمناه أمام عدد كبير من الأطفال، وهكذا حتى تم لنا القضاء عليهم ثم تم إغلاق ذلك الجحر بالجص وأنهينا تلك الأسطورة، وكنت إلى جانب هذا اللهو واللعب مهتماً بمراجعة دروسي فتلك السنة هي السنة النهائية للابتدائية وماهي إلا شهور قليلة حتى دخلنا الامتحان واجتزت تلك المرحلة بنجاح، وإنني لأذكر الاحتفال الكبير الذي أقيم لنا عند تخرجنا وختمنا للقرآن الكريم وهي عادة تقام بهذه المناسبة، وختمنا للقرآن لايعني أننا حفظناه عن ظهر قلب كما كان يحفظه الاوائل في رباطاتهم وعزلهم ولكن ختمنا للقرآن بمعنى قراءتنا له من أوله إلى آخره بطريقة سليمة مع حفظ جزء عم الذي كان ملزماً علينا حفظه، هذا اليوم لايزال محفوراً بذاكرتي، كنت رابع ثلاثة من الأقارب والأصدقاء أمين سعيد باوزير ابن خالي واثنان من آل باوزير أبناء عم وآباؤهما من مناصب الحضرة وهي الطريقة الصوفية التي تقرأ فيها القصائد في مدح الرسول بمصاحبة الدفوف الكبيرة، وتسمى “الطيران” بكسر حرف الطاء، هذان الزميلان هما “عنتر وعبدالرحيم” وأذكر أنني خرجت قبل موعد صلاة العصر من ذلك اليوم مع ابن خالي وعلينا الثياب الخاصة بهذه المناسبة ولربما أننا استلفناها من آخرين، وهي عبارة عن شميز فاخر وفوطة حرير، وكوت “جاكته” وعلى الرأس عمامة صوف حلبي، وسبحة طويلة تلتف على الكف اليمني بطريقة خاصة، وهذا هو لبس مشائخ آل باوزير.
خرجنا حينها من بوابة البيت وقد انطلقت خلفنا “الزغاريد” من داخل البيت وامرأة سمراء طيبة دائمة الابتسام واسمها “قرنفل” تهتف حولنا بالصلاة على النبي وبيدها المبخرة ومنها تسبح حولنا موجات عاتية من دخان اللبان زكي الرائحة، ثم اتجهنا إلى دار الحضرة الذي يقع بجوارنا تماماً لننضم إلى صديقينا عنتر وعبدالرحيم وهما في مثل هيئتنا في الزي، وبعد لحظات تقاطر البعض من التلاميذ الذين يسكنون بحارتنا ولما اكتمل عددنا توجهنا إلى الجامع لصلاة العصر، وقد تجمع فيه بقية الطلبة من جميع أنحاء الغيل، وكل طالب يرتدي لباس الطبقة التي ينتمي إليها، وبعد أداء الصلاة انطلقنا ومباخر اللبان تحف بنا من كل جهة وكلما مررنا أمام بيت انطلقت الزغاريد تحيينا بهذه المناسبة السعيدة حتى وصلنا إلى ساحة المدرسة المخصصة لذلك الاحتفال، حيث أمتلأت بطلبة المدارس وبالمدرسين وبالكثير من أهالي الغيل ووجهائها، وبعد أن أجلسونا في صدر المكان بدأ الحفل بتلاوة بعض آيات الله البينات تلاها أحد الطلاب الذين ختموا القرآن الذي أنزله الله رحمة للعالمين ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وإنني لأتذكر الآن حواراً أو محاورة أداها أثنان من أولئك الطلاب وكان أحدهما يمثل شيخاً طاعناً في السن يجلس في مكان قصي بعيداً عن الناس ويمثل الآخر عابر سبيل، وما إن يصل عابر السبيل إلى ذلك الشيخ حتى يتم بينهما حوار كان الشيخ يجيب على أسئلة عابر السبيل بالقرآن الكريم فكان الأول يقول: السلام عليكم، فيرد الشيخ قائلاً: “سلام قولاً من رب رحيم” وهكذا كلما سأل عابر السبيل الشيخ عن مسألة يرد عليه الآخر بآيات من القرآن الكريم تكون جواباً شافياً لذلك السؤال وهكذا مضى بنا الحفل ونحن نحلق في سماء معطرة بروائح البخور والند وتحف بنا ملائكة الرحمن تباركنا وتشاركنا احتفالنا بختم كتاب الله الكريم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.