(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) قبل أن ألتقى به، وقبل أن ينضوي في شلتنا التي تعمل بمتجر “ رويال “ في الستينيات كان يسرح بعربة للفواكه يبيعها لبعض الأسر الخاصة في حواري حي كريتر، وأقول الخاصة، لأنه كان ينتقي الأماكن التي تتواجد فيها الأسر الغنية من الموظفين الكبار والتجار من يهود وفرس وغيرهم لأنه يعرف أن مثل تلك الأسر الغنية لا تفاصل كثيراً في الأسعار، ثم إن هناك ميزة أخرى يراها في أمثال تلك الطبقة وهي أنهم يتمتعون بالحرية الشخصية، فما إن يصل أمام منزل إحدى تلك الأسر وتنادي عليه إحدى الفتيات من النافذة تسأله شيئاً حتى يرتقي بطلباتهم ليوصلها إلى داخل غرفهم وبدون حرج منهم، فيدخل ليرى ما طاب له من الجمال الذي لايقف أمامه عائق،فيرى الفتيات، والنسوة الكبار، وهن بأزيائهن البيتية ولربما بأزياء النوم، هذا الجو الذي يعيش فيه يحيى ولو للحظات قصار يكون له زاد طول يومه، وهو رغم تكرار دخوله إلى تلك البيوت واحتكاكه بها إلا أنه كان رغم شبابه الفوار عفيف النفس ليس به شيء من الفجور أو الطيش ولكن تكفيه النظرة أو البسمة، فلا يقوم بما يسيء إلى الأخلاق وإن وجد الفرصة سانحة أمامه. هذه هي حياته من وصوله من قريته “ ريمة” إلى عدن في الخمسينيات، وقد تعرفت عليه في الستينيات وذلك عندما ضم يحيى صاحب العمل الذي أعمل عنده إلى قائمة زبائنه بعد أن عرف أنه رجل كريم لا يفاصل كثيراً في الأسعار وكل ما يهمه هو جودة هذه الفواكه التي يبيعها يحيى فكان يمر علينا كل يوم بالمتجر ويدخل ببضاعته تلك إلى الجانب الداخلي من المتجر الذي به المكتب التجاري الذي يتواجد به صاحب العمل، وكنت حينها المسؤول المالي فيطلب مني صاحب العمل أن أحاسبه، وبعد سنوات وعندما وجد صاحب العمل أن المكتب ذاك لم يعد يتسع لأعماله استأجر مكتباً آخر يقع بالطابق الثاني للعمارة المقابلة للمتحف حالياً، وطلب من يحيى أن يعمل عنده مراسلاً براتب شهري، فوافق على ذلك، وحينها كانت قد بدأت العمليات الفدائية عملها ضد تواجد الإنجليز بعدن وأصبحت الشوارع والطرقات غير آمنة.. أما حبه للجمال فقد استبدل النظرات التي كان يختلسها من ربات البيوت من الأسر التي كان يبيع لها الفواكه بالفتيات اللاتي يعملن في البنوك والبريد والجمارك وسائر المصالح الحكومية التي لها صلة بالعمل الذي يقوم به،وفي تلك الفترة لم أكن ألتقي به إلا نادراً، ولكن بعد الاستقلال وبعد توقف استيراد البضائع إلى عدن وفق التجارة الحرة المتبعة قبل الاستقلال، وبعد استيلاء الدولة على كل أمور الاقتصاد نظراً للتوجه الاشتراكي حينها، في هذه الفترة انتقل مكتب صاحبنا التاجر إلى الحديدة وانتقل يحيى للعمل عندنا بالمتجر وهنا توثقت صلتي به أكثر وأخذت أتعرف على العديد من حكاياته ومواقفه الظريفة. رأيته عصر ذات يوم في موقف سيارات الأجرة الذاهبة إلى الشيخ عثمان وكنت ماراً في طريقي إلى أحد المتاجر، هناك توقفت أراقبه عن بعد دون أن يراني.. كنت على يقين أنه ذاهب إلى الشيخ وبما أنني أعرف أنه لا توجد له أية صلة بالشيخ عثمان لذا أخفيت نفسي لأفاجئه بتلك الرحلة المريبة التي سيقوم بها وجعلت أنتظر حتى أضبطه بالجرم المشهود بعد أن يتربع على مقعد التاكسي.. ولكن السيارة كانت حينها قد امتلأت وغادرت المحطة لتحل محلها سيارة أخرى وتكرر فامتلأت ثانية ثم ثالثة ويحيى مسمر في محله ولكن ما إن جاء الدور على السيارة الرابعة ودخلت فتاتان في الوسط حتى أسرع وركب بجانبهن وتحركت السيارة وغادرت المحطة وألف سؤال يصيح بذهني .. وعندما حضر في اليوم الثاني إلى المتجر، وهو عادة لا يباشر العمل إلا في الصباح فقط أما المساء فهو مخصص عنده لدخول المباريات في ملاعب الكرة، في ذلك اليوم واجهته بما رأيته وتطرقت إلى التزامه بالعفة التي كان يتبعها وبخروجه عن ذلك الخط المستقيم الذي أعرفه عنه وذهابه إلى الشيخ عثمان ذلك اليوم حيث أوكار السيسبان أيامها المعروفة بالرذيلة شيء مريب، ولكنه نفى عن نفسه تلك التهمة ليحكي لي حكايته التي رأيت أول فصولها تلك الليلة.. صاحبنا يحيى كان كل ليلة يقف أمام أول سيارة عليها الدور فيقف أمامها فإذا كان الركاب من الرجال فقط يدعها وشانها ولكن ما إن تركب أول امرأة حتى يندس بجانبها وهكذا تتحرك السيارة وتتحرك الدماء في جسم يحيى مولولة معربدة فتحمر وجناته التي هي أصلاً حمراء ويغيب في نشوة لذيذة وهو يشم رائحة الأنفاس الأنثوية التي بجانبه، إلا أنه رغم ما يحسه تجاه من تشاطره ذلك المقعد من شوق لا يزال متمسكاً بالعفة فلا يسعى إلى أن يحتك بها بل كان يبتعد عنها كلما مالت السيارة بأحد المنعطفات لتلقي بحملها اللطيف عليه وهكذا يظل متوتراً تارة ومنتشياً تارة أخرى حتى تصل السيارة إلى محطة الشيخ عثمان فيخرج منها ويتقدم ليقف أمام أول سيارة عائدة إلى عدن ليكرر هوايته وينتقي له صيداً سميناً ليجلس بجانبه حتى يصل محطة عدن فيعود مرة ثانية ليركب بجانب امرأة أخرى حتى يحس بالشبع فيعود إلى محله بإحدى الصندقات بحارة حسين وليقضي ليلته وهو يحلم بفتيات التاكسي ويستعرض روائحهن واحدة بعد أخرى أما أجسادهن فهذا في نظره من أكبر الكبائر. وحدث في إحدى جولاته المكوكية تلك وبينما هو جالس ذات يوم بجانب امرأة في حوالي الأربعين من العمر كانت تعمل مومساً بإحدى الحواري وبحكم معاشرتها ومعرفتها بالعديد من الرجال عرفت على التو سذاجة يحيى وغفالته وبدلاً من أن تكون له أصبح هو صيداً سهلاً لها فقررت أن تستغفله وتستدرجه إلى وكرها وقد فطنت من تصرفاته طول الطريق بجانبه إلى أنه رجل عفيف لا يرضى بأعمال الفجور وأن اللمسات والنظرات تكفيه ففكرت أن تمثل أمامه دور المرأة الشريفة التي مات زوجها وتركها في مجتمع الذئاب وتسعى إلى الستر والزواج من رجل طيب مثله، هكذا هداها فكرها الماكر لاستغلال سذاجة صاحبنا يحيى ولهذا فما إن خرجت من التاكسي حتى تركت عمداً صرة ثيابها على المقعد الخلفي التي كانت تجلس به بجانب يحيى وكأنها قد نسيتها ودفعت للسائق أجرته وتحركت مسرعة فما كان من يحيى إلا أن حمل صرتها ولحق بها يناديها وهي لا تلقي إليه بالاً وظلت تمشي وهو خلفها حتى ابتعدا عن حركة المارة ودخلا زقاقاً صغيراً، هنا التفتت إليه في حشمة ووقار وضربت رأسها بيدها كمن فوجئت بأنها أخيراً تذكرت صرة ثيابها وقالت: آسفة عذبتك معي يظهر أن حرارة الجو نستني تلك الصرة ولولاك لكنت فقدتها. ونظرت إليه نظرة آسرة فيها شيء من العرفان والشكر وأردفت قائلة: لو تكمل جميلك وتحملها معي إلى البيت فإنني أكون شاكرة لك عملك هذا. لم يصدق يحيى ما يسمع فصدرت من بين شفتيه تمتمة غير واضحة تماماً حتى أنه لم يدر ما قاله لها ثم تبعها والدنيا لا تسعه من الفرحة حتى وقفت أمام بيت من طابق واحد وأخرجت من صدرها مفتاح البيت وكان مربوطاً بمنديل فاحت رائحة عطره لتتغلغل إلى أنف يحيى وتسكره، فتحت الباب ودفعته ودخلت وواربت الباب جاعلة الباب بينهما وأخذت تحدثه من خلف الباب قائلة: اعذرني يا أخ .. أختي وأخواني خارج البيت ولو كانوا هنا لدعوتك للدخول فأنا أرملة وكلام الناس كثير. وسكتت المرأة لترى وقع حديثها على يحيى الذي أحس ساعتها وكأنه واقف على الهواء وأن قدميه على جناح السحب وأخذت الهواجس تذهب به بعيداً ليمثل زواجه من مثل تلك المرأة الشريفة العفيفة التي لا تطلب سوى الستر، هكذا ظل واجماً أمام الباب ليطرق أذنيه حديثها قائلة: غداً في مثل هذا الوقت تعال لأعرفك على أهلي، ثم أغلقت الباب ليظل بعدها محلقاً في الفضاء ولم تمر لحظات حتى هبط إلى الأرض ليتخذ طريقه عائداً إلى محطة الباصات ولكنه هذه المرة ركب أول تاكسي واجهه وما إن وصل إلى كريتر حتى هرع إلى صندقته بحارة حسين وانزوى فيها وذهب يستعرض كل ما مر به لحظة لحظة ويعيد حديث المرأة أمام مخيلته ليستخلص منه ماوراء الكلمات التي تفوهت بها أمامه وهل هي جادة فيما تقول؟ فإن كانت جادة فهو خير رجل يصلح زوجاً هكذا ظل طول ليله تراوده الأحلام حتى أيقن في نفسه أن المرأة تريده زوجاً وهو لن يجد أحسن منها شرفاً وعفافاً. وفي اليوم الثاني ولم تكد تبلغ الساعة الثالثة حتى كان الشوق قد حمله إلى باب منزلها، دق الباب وانتظر قدومها لهفة ولم تمض لحظات حتى انفتح الباب وظهرت أمامه تسبقها رائحة عطرية نفاذة تكاد تكتم أنفاسه وأدخلته وغطت كل أجزاء جسمها العلوي بمقرمة قطنية بيضاء وعندما مدت يدها لتصافحه صافحته وكفها ملفوفة بتلك المقرمة وقالت له “ اعذرني فقد كنت على وشك الصلاة عندما دققت الباب”. مد يده لمصافحتها ولكنها لم تمكنه إلا من لمس ثلاث أصابع من أصابع كفها الملفوفة ثم نزعتها منه وأجلسته على “ السوفة” التي كان يجلس عليها أحد الرجال وقالت: هذا عبده ابن خالي.. ثم التفتت إلى رجل آخر كان قد افترش أرض الغرفة ويخزن القات وقالت ليحيى :وهذا أخي.. وجلست أمامه على أحد المقاعد مخلفة بينها وبينه مسافة مترين وكان يحيى منذ دخوله الغرفة مطأطئ الرأس في حشمة وخجل موجهاً نظراته إلى الأرض في احتشام وأدب وظل طوال جلوسه معها لم يرفع نظره إليها قط. وهكذا انتهت المقابلة الأولى بينه وبينها وخرج لتصافحه بنفس تلك الأصابع الثلاث الملفوفة بقماش “ المقرمة” وفي طريقه كانت الأحلام تملأ ذهنه تحدثه بيوم القرب والزواج من محبوبته تلك. وفي اليوم الثالث جاء إليها في الميعاد نفسه، ولكن بعد أن حمل لها هدية عبارة عن ثوب ويل وقارورة عطر ممتاز، استقبلته متهللة الوجه وما إن رأت ما يحمله لها حتى ازدادت ابتساماتها اتساعاً وعندما مدت يدها لتصافحه تعمدت أن تفرج عن اصبعين من أصابع يدها وما إن مسته بهذين الاصبعين حتى مسه ما يشبه التيار الكهربائي،قادته لتجلسه على تلك السوفة التي كانت حينها خالية.. جلس في أدب جم ولما رفع رأسه عن الأرض فوجئ بوجود رجلين جالسين على الأرض يخزنان وما إن انتبهت المرأة إلى ذلك حتى سارعت قائلة له: أخي الكبير إبراهيم وابن عمي طارش قد وصلا اليوم من القرية لزيارتي. قام يحيى وصافحهما وهو يحدث نفسه قائلاً: لقد كثر أقاربها فمن أي منهم أخطبها؟ لكنه صرف نظره عن ذلك مطالباً ببعض الوقت لكي يتأكد من حبها له، وهكذا استمرت زيارته لها بينما استمر في حمل كثير من الهدايا لها، وكلما دخل عندها وجد عندها أشكالاً أخرى من الرجال وهي تقدمهم له على أنهم أقرباؤها.. وذات ليلة وقبل أن يتوجه إلى باب منزلها وجد أحد الرجال ينتظره قرب بيتها وما إن وصل إليه حتى جذبه الرجل ثم حياه وأخذ يسوقه حتى ابتعدا عن منزلها وقال له: ما هي حكايتك يا أخ؟