عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدن وأصدقاء "2"
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 25 - 03 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
وكان يشرف على تحريرها الشاعر الكبير “سعدي يوسف “ في هذه القصة برغم انتصاري لبطل القصة التي يمثلها أمثال صديقي مبخوت وجعله بدلاً من هروبه يقاوم ويقاوم حتى أوصلته إلى مرتبة عليا وجعلته يحلق في السماء وذلك طبقاً لطبيعة التطور التي كنا نأملها من تلك الثورة الوليدة إلا أنه لما تغير مسار الثورة تغيرت نظرتنا إليها الشيء الذي جعلني بعد أحداث 13 يناير الدامية عام 1986م أكتب أقصوصة “سقوط طائر الخشب” التي نشرت في صحيفة 14 أكتوبر يوم 3 فبراير 1989م و التي تنبأت فيها بسقوط الحكم الشمولي ليس في الجنوب فحسب ولكن في “الاتحاد السوفيتي “ السابق الذي كان يرتكز عليه الحكم خلال مسيرته الاشتراكية.
دامت هذه الجلسات مع هؤلاء الأصدقاء طوال مدة بقائي في جدة والتي استمرت طوال شهر رمضان المبارك،وكنت قد جعلت من تلك الشقة التي يسكن فيها أولئك الأصدقاء مخزناً لكل مشترواتي التي كنت أشتريها من سوق جدة،فقد كنت حينها أجهز لزواج ابنتي، لأن أسواق عدن كانت فارغة من الأقمشة الفاخرة وبعض الأمتعة الغذائية الجيدة، ولهذا فقد قمت بشراء صندوق حديد كبير كنت أخزن فيه كل ما أشتريه في فترة بقائي بجدة، ويحضرني الآن قول أحد الأصدقاء في عدن معلقاً على ذلك بأنه سمع إحدى العجائز وهي تودع بنتها المسافرة إلى جدة عند زوجها وهي توصيها قائلة لها:
“ إذا قالوا لك عندكم شي في عدن ثلاجة؟قولي ماشي عندكم طباخة؟
قولي ماشي .. عندكم شي غسالة؟
قولي ماشي ماشي .. ماشي.
بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى جدة قمت بصحبة صديقي بأداء العمرة، تحركنا بالطريق السريع بسيارته بعد صلاة الفجر لأننا نعلم أن جو مكة في ذلك الشهر سيكون حاراً جداً ولهذا تحركنا بعد صلاة الفجر وعند وصولنا واجهنا ذلك الجو الحار إلا أننا كنا متعودين عليه في عدن ولهذا فلم نأبه به لكننا وجدنا قوالب الثلج على طول الطريق بين الصفا والمروة ، هذه القوالب مخصصة لمن لا يعتاد الحرارة كالأتراك والإيرانيين وغيرهم.
وبعد أيام من عودتي من أداء العمرة الأولى عزمت على زيارة قبر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعندها قام صديقي بجدة وكان يعمل في مكتب الشركة التي يعمل به صديقي في جدة كما حجز لي غرفة بفندق يقع أمام المسجد النبوي مباشرة.. هذا الصديق لصديقي شاب سوداني ظريف وطيب جداً شأن كل أخواننا السودانيين،وما إن حطت الطائرة على مطار المدينة حتى تقدم إليَّ ذلك الشاب وبيده الحقيبة التي هي أخت الحقيبة التي أحملها وهي من هدايا تلك الشركة والتي اتفقنا على أن تكون هي العلامة التي تدل الشاب علي وتدلني عليه، وهكذا ما إن رأيت حامل تلك الحقيبة يتجه إليّ بعمامته السودانية المشهورة وثوبه الأبيض حتى مددت يدي لمصافحته ولكنه وكعادة الأخوة السودانيين تقدم إليّ واحتضنني في شوق وكأنه يعرفني من مدة طويلة وهكذا تم التعارف فيما بيننا، هذا إلى جانب الاستقبال الحار الذي لمسته من جو المدينة، ولأن وقت صلاة الظهر لم يحن بعد فقد اتجهت إلى الفندق ودخلت غرفتي المكيفة لأنام حتى أذن لصلاة الظهر، اتجهت إلى المسجد وبعد الصلاة قمت بزيارة قبر الرسول وخرجت لأنطلق في سوق المدينة التي تقع بجانب المسجد مباشرة، وجعلت أتنقل من متجر لآخر ونظراتي تجوس بين آلاف الأصناف من الأقمشة المتنوعة التي أعجبتني،لم أشتر حينها شيئاً تلك الليلة ولكنني قررت أن لا أختار كل طلباتي من سوق جدة الكبير الذي سيضطرني إلى التردد عليه أياماً طويلة ولهذا فقد قررت أن تكون جولتي لاختيار ما أشاء من تلك السوق في المساء حيث يكون الذهن صافياً والنفس منتعشة، وعند سماعي صوت المؤذن للمغرب في المسجد اتجهت لأجد أن المسجد غاص بالمصلين وأدركت أنني وصلت متأخراً فلم أجد لي مكاناً فيه ولهذا اتجهت لأجد لنفسي مكاناً خارج المسجد، أنهيت صلاتي وجلست بين مجموعة صغيرة من المصلين افترشت الأرض وقد امتدت “سفرة” أمامهم عامرة بما لذ وطاب من الأطعمة والفواكه المتنوعة التي أخذت تنهال عليهم من أصحاب البيوت المجاورة للمسجد، هذه المجموعة هم من الزوار الأندونوسيين عرفتهم بضآلة أجسادهم و “ الصواريم” الجاوي التي يلبسونها والكوافي التي على رؤوسهم..
وكنت أرتدي ما يرتدون إلا أن ليس لدي كوفية ولهذا فقد ربطت منديلاً قطنياً على رأسي وأندسست بينهم كواحد منهم ولهذا ما إن التفت إلى الذي أجلس بجواره حتى أرسل إليّ سيلاً من الحديث باللغة الأندونيسية وقد ظن أنني أندونسي منهم لكن وبعد أن أشرت إليهم بأنني من حضرموت زادت حفاوتهم بي وجعلوا يقربون لي بعض الأنواع من الفاكهة وصحون الشربة، وهكذا أصبحت كل ليلة ألتقي بهم خارج باب المسجد لنفطر سوياً بعد أن أحضر معي كيلو تمر من النوع الفاخر وذلك عندما وجدت أن التمر الذي يوزع عليهم قليل جداً بعد صلاة المغرب والإفطار،عدت إلى الفندق لأستريح حتى حان موعد صلاة العشاء والتراويح، نهضت إلى المسجد لأداء الصلاة ثم بعد ذلك توجهت إلى أحد المطاعم وتعشيت، ثم انطلقت إلى سوق المدينة أبحث عن الثوب الأول الذي قررت أن أشتريه .. حيث أني وحتى لا أشتري شيئاً وأندم عليه قررت أن اختار ثوباً واحداً فقط لكل ليلة وذلك خلال بقائي بالمدينة وهكذا ولمدة أسبوع وبعد جولتي أتناول وجبة السحور ثم أقضي الساعات المتبقية من الليل معتكفاً بالروضة الشريفة حتى إذا حانت الساعة السادسة صباحاً أخرجنا حرس المسجد إلى صحن المسجد المكشوف ليفسحوا المجال للنساء لزيارة القبر بعيداً عن الرجال.
بعد عودتي من المدينة قمت أنا وصديقي وجميع أفراد أسرته بأداء العمرة الثانية التي كانت في يوم جمعة وأذكر أنني وفي النصف من رمضان حدثتني نفسي باقتناء بعض الكتب الأدبية ولأن ليس لصديقي اهتمامات أدبية وهذا شيء مألوف لدى كل من أعرفهم ممن يعملون بجدة ربما أن أوقاتهم لاتسمح لهم بالقراءة أو لأن إيقاع مدينة جدة هو تجاري بحت لهذا أعفيته من مصاحبتي وأخذت أقوم بجولة في بعض المكتبات التي من حولي، ولكن لم يرق لي شيء مما يعرض في تلك المكتبات من كتب، غير أنني وجدت من بين المعروضات كتاباً صغيراً للأستاذ إبراهيم المازني اشتريته لأتمم به مجموعة كتبه التي أحتفظ بها جميعاً، وفي يوم آخر قمت أنا وصديقي بزيارة أحد أصدقائه من السعوديين من أهل جدة الذي استقبلنا في حفاوة بالغة، وقدم لنا التمر وقهوة الهيل، وهي الضيافة الأصيلة التي تقدم للضيوف الأعزاء، وكانت تلك آخر ليلة قضيتها في جدة، فبعد تلك الزيارة وفي وقت متأخر من الليل قمنا معاً بالعمرة الثالثة، وأديت فيها طواف الوداع حيث قمت في صبيحة يوم السابع والعشرين من رمضان بمغادرة جدة عائداً إلى عدن.
بعد أكثر من عام من زيارتي التي قمت بها إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة ولزيارة صديقي محمد عمر العماري قمت بزيارة أخرى في بداية شهر ذي الحجة عام 1404ه لأداء فريضة الحج وكان سفري في هذه المرة عن طريق مطار عدن، مصطحباً معي امرأة قيل لي إن أخاها سيكون بانتظارها بمطار جدة، وهكذا أثقلت نفسي بذلك القيد الذي قيد حركاتي، وحرمني من التصفح في وجوه من حولي من المسافرين، وهي متعتي التي أمارسها في التعرف على خلق الله التي تتجمع في المطارات والطائرات وغير ذلك فأدقق النظرات في وجه هذا وذاك وكأنني أمام عدد كبير من الكتب تعرض علي واحداً بعد الآخر فأرى الجيد منها والرديء ولهذا ونظراً لوجود تلك المرأة بجانبي فقد ظللت طول وقتي وأنا متخشب على المقعد أتحاشى النظر إلى هنا أو هناك مخافة أن يكون في تصرفي مايسيئها.
كان تحركنا من مطار عدن في حوالي العاشرة صباحاً، لنصل إلى مطار جدة في الحادية عشرة وخمسين دقيقة ولما بحثت عن أخ تلك المرأة لم أجده، أما صديقي محمد فلدي علم مسبق بأنه لن يستقبلني حيث كان يومها يتهيأ للسفر إلى القاهرة لعلاج ابنه الكبير “عمر” الذي أصيب بشلل إثر اصطدامه بباص وهو على دراجته الهوائية كما أنه أعلمني بأنه قد غير شقته التي بباب مكة وسكن بإحدى العمارات الكبيرة بقلب جدة، ولهذا وبعد أن علمت بسفره فقد قررت أن أسكن عند أسرة تقرب لزوجتي كنت قد زرتها في رحلتي السابقة وأعرف عنوانها تماماً، ثم إنني كنت في شوق إلى التعرف على جدة بشوارعها ومتاجرها وأحيائها وعلى هواي أنا وبرجلي، لأنني كنت في رحلتي السابقة التي قضيتها عند صديقي محمد لم أر مدينة جدة إلا من خلال زجاج نافذة سيارته، وقبل أن أتحرك من المطار تلفنت إلى أخ تلك المرأة فأفادني أن أصحبها معي إلى الأسرة التي أنوي السكن عندها وأنه سيمر هو ليأخذها من هناك وهكذا تحركنا في الثانية عشرة ظهراً إلى منزل تلك الأسرة وأدخلت حملي الثقيل إلى غرفة النساء ولجأت إلى غرفة الرجال وأبلغت ابن صاحب البيت الذي يعمل بجدة أن يتركوا لي حريتي وأنني لست في حاجة إلا إلى المبيت بتلك الغرفة ولربما أفضل المبيت في بيت أحد الأصدقاء في بعض الليالي، بعد هذا الاتفاق استراحت نفسي إلى أنني سوف أقضي الأيام التي تسبق أيام الحج حراً طليقاً أتنقل حيث أشاء، وهكذا وفي اليوم الثاني منذ وصولي جدة، أتصلت بأحد الأصدقاء كان يعمل قبل السفر إلى جدة بأحد المتاجر للذهب بناصية حارة الشريف بعدن وبالقرب من العمارة التي كنا نسكنها ذلك الحين قبل أن ننتقل إلى سكننا الحالي الذي يقع نهاية نفس الشارع وعلى بعد عشرات الأقدام من مدرسة بازرعة.. هذا الصديق أخبرني بأنه مستأجر شقة بجانب مجمع سوق الذهب بمفرده وطلب مني أن أنتقل إلى تلك الشقة، فسررت لذلك وقد سلمني المفتاح الآخر للشقة أدخل وأخرج منها على حريتي، هذا الصديق يعمل وسيطاً بين صناع الذهب بمدينة الطائف وبين بعض بائعي الذهب بذلك السوق، وبالأخص من الباعة الحضارم الذين يملكون بعض المتاجر في ذلك السوق، وكان الذهب يصل إلى شقته كل مساء في أكياس من النايلون يحتوي الكيس على الاثنين كيلو والثلاثة أو الأربعة تماماً مثل أكياس البطاط عندنا، وكل كيس مخصص لأحد أولئك الباعة، وعند وصول تلك الدفعة يقوم بتسجيلها في دفاتره حيث كنت أساعده على ذلك، وبعد تسجيلها أخرج معه لتوزيعها، ثم بعد ذلك ولربما في الحادية عشرة مساء ننطلق بسيارته لنقوم بجولة واسعة في أحياء جدة وشوارعها كشارع الحمراء “الكورنيش” وبعض المتاجر والسوبر ماركت، وفي إثناء ذلك كنا ندخل إلى مشرب لبناني يقدم عصائر كل الفواكه التي خلقها ربنا والعجيب في الأمر أننا نصل في الوقت الذي تصل إليه فتاة فارعة الطول عظيمة الهيئة إلا أنها ليست جميلة ولعلها ممن يقال لهم الشروق. وهم فئة من بادية الشرق.. كانت تقف الساعات بجانب شاب لبناني جميل وتظل تتحدث إليه وهو يقوم بعمله بذلك المشرب.. منظر آخر لفت نظري عندما وجدنا بشارع الكورنيش اثنين من رجال الشرطة يستجوبون فتاة ضبطوها مع أحد الشباب الذي هرب بمجرد رؤيته للشرطة وبعد أن قبضوا عليها هرب وترك المسكينة لمصيرها السيئ ولما حاولت الاقتراب لأتسمع مايدور بين تلك الفتاة والشرطيين نهرني صديقي وسحبني بعيداً عنهم وهو ينصحني بأن لا أتدخل فيما لايعنيني، ومنذ تلك اللحظة التزمت بذلك حتى لا أثير أي مشكلة لصديقي ذاك.. وفي نهاية الجولة وبعد الواحدة صباحاً كنا نتناول عشاءً خفيفاً بأحد المطاعم الصغيرة ونعود إلى شقتنا.
في الصباح يقوم صاحبي مبكراً وبعد أداء صلاة الفجر بمسجد صغير بجانب ذلك البيت الذي نسكنه يغادرني صديقي لأعود إلى النوم من جديد وفي حوالي السابعة أصحو فأتناول وجبة الإفطار التي أعدها بنفسي داخل المنزل، بعد ذلك أنطلق في شوارع جدة أبحث وأنقب عن أصدقائي القدامى الذين لم ألتق بهم بعد، وفيما أنا ذات يوم في تجوالي بباب مكة، وبالقرب من الشركة التي يعمل بها صديقي محمد عمر العماري إذا بي وجهاً لوجه مع أحد رجال مدينتنا غيل باوزير وكان له بعض الأعمال التجارية يديرها بجدة، دخلت عليه فرحب بي وجلسنا سوياً حول أبريق الشاي الأحمر المفضل هناك وأخذ يسألني عن طلباتي فشكرته وطلبت منه أن يدلني على من يعرف من أصدقائي القدامى الذين يعملون في جدة، وذكرت له اسم الصديق “عبدالله بامطرف” وكنا نلقب تلك الأسرة “بيت برعم” هذا الصديق نشأت بيني وبينه صداقة وذلك بحكم وقوع بيته خلف بيت جدي الذي قضيت فيه جزءاً كبيراً من طفولتي بعد انتقالي من بيت والدي.. وكنا في تلك الفترة نكون أنا وهو فريقاً لإعدام الفئران التي تقع في مصيدة جدتي “عيشة” أخت جدي لأمي، والتي كنا ندعوها “عميمة” وقد جاء ذكرها في سيرتي الذاتية بالجزء الأول، هذا الصديق ليس لدي معلومات دقيقة عنه فقد رحل عندما رحلت أنا إلى عدن عام 1954م وبقي بجده ولما استقر هناك أحضر جميع أهله إلى جدة وتزوج وانقطعت صلته بالغيل، لهذا سألت رجل الأعمال ذاك عنه فأفادني بأنه يعرف منزله فقط ولا يعرف مكتبته التي يملكها وأين تقع، فاستبشرت بمعرفته لبيته، واتفقنا على أن نلتقي في متجره في العاشرة مساء لنذهب سوياً إلى منزله، وفي العاشرة تحركنا وبعد عشرين دقيقة كنا نطرق باب منزله لألتقي به وسط جمهرة من أولاده الكبار والصغار وأخذ يعرفني عليهم واحداً واحداً وإذا بي أرى أمامي عدة أشكال وأعمار لصديقي الذي أعرفه قبل ثلاثين عاماً وهكذا مكثنا بعض الوقت بعد أن غادرنا رجل الأعمال ذاك ونحن نستعيد بعض ذكرياتنا عن سنوات الطفولة العذبة التي قضيناها ونحن بعيدون عن هموم الحياة ومنغصاتها الكثيرة، ولما سألته عن مكان مكتبته القرطاسية التي يبيع فيها أدوات المكاتب والمدارس وحدد لي مكانها إذا بي أكتشف أنها تقع خلف متجر رجل الأعمال الذي أحضرني إليه قبل دقائق، ولكنها جدة الواسعة المترامية الأطراف إلى جانب ظروف الحياة والعمل بها جعلت الواحد منهم لايعرف الآخر حتى وإن كان قريباً منه.. وفي اليوم الثاني دعاني ذلك الصديق إلى تناول الغداء في بيته على أن نلتقي بعد صلاة الظهر في مكتبته تلك بباب مكة، ثم تعرفت خلال تلك الأيام على أسرة كريمة تقع شقتها قريباً من مكتبة صديقي ذاك وصاحبة الشقة تلك هي اخت عمي زوج خالتي وزوجها رجل ظريف من آل وحدين.. هذه المرأة كانت على صلة ببيت جدي بغيل باوزير عند طفولتي بعد زواج أخيها بخالتي، ولهذا كنت أدعوها بخالتي وحين علمت بوجودي بجدة طلبت مني أن أنزل عندها بالشقة حيث لايوجد في الشقة إلا هي وزوجها، ولكنني فضلت عيشة الحرية وكنت أمر بعض الأيام عندها لتناول طعام الغداء، وفي هذه الشقة التي كنت أتردد عليها وقعت لي واقعة ظريفة، فقد كانت هذه الشقة تقع في عمارة كبيرة وبها “مصعد كهربائي” للطلوع والنزول وكانت معلوماتي التي أعرفها عن تلك المصاعد الكهربائية بأنني حينما أصل إلى الطابق الذي أنوي زيارته وذلك بواسطة الزر الذي أضغط عليه يفتح تلقائياً على الطابق الذي أنوي الوصول إليه لكن هذا المصعد ربما أنه قديم أو به عطل ولهذا وعندما وصلت الطابق الذي حددته لم ينفتح الباب فانتظرت لحظة متوقعاً منه أن يفتح لي الباب ولكنه يظل مغلقاً أمامي ولما يطول انتظاري أضغط على الزر من جديد فيعود إلى أسفل العمارة وهكذا ظللت لحظات وأنا أطلع وأنزل وفي إحدى وقفاته بالأعلى جعلت أفكر في الأمر حتى اهتديت إلى الحل وذلك عندما دفعت بباب المصعد إلى خارج فانفتح لأجد نفسي مواجهاً لشقة قريبي ذاك..
لم أدم على التردد على تلك المرأة الطيبة وزوجها الظريف “سهل وحدين” إلا ثلاثة أيام فقط بعدها وصل من عدن زوج عمة زوجتي الذي نزل عندهم لأداء فريضة الحج معي وكان يصحبه والد شريكه في متجره الذي بعدن والذي أرسله ولده لأداء فريضة الحج معنا وكانت أيام بدء موسم الحج قد اقتربت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.