كلّما وصلت إلى الشارع المؤدّي إلى بيتنا، خفق قلبي بسرعة مجنونة. أحياناً، وأنا أتقدّم نحوه، أراه يميل شرقاً، أو ينحني بضعة سنتيمترات إلى الأمام, فأفكّر في الهرولة إليه، باسطة يديّ لالتقاطه. ة كادت أنفاسنا تخنقنا. الستائر القاتمة كانت تزيد الغرفة ضيقاً. سرير صغير، خزانة خشبية، جهاز كمبيوتر مغطّى بطبقة رقيقة من الغبار. شممت رائحة الرطوبة واستعدّ وبر جسدي للمطر. ثم حملني السرير إلى عالم من دون جدران. في تلك اللحظة النادرة، عرفت كم أريد الحياة. كم أعشق قساوتها. سألته عن حبيباته السابقات، شقراوات أوروبا الشرقية. سأل متعجّباً: "كيف تسألين هذه الأسئلة, والآن بالذات?!". صمتُّ وانكفأت إلى نفسي أكثر، ثم سمعت صوت بكائي، يتدافع من دون حذر. ذُعر وسألني:" هل أؤلمكِ؟". قلتُ:"لا. بل دموع الفرح". كنت أكذب، واعتقدت أني نجوت بكذبتي. ة أحصي درجات بيتنا وأنا أرتقيها. حين أجتاز باب المدخل، أبحث عن شرخ الحائط الغربي وعن الفجوة المرمّمة في أعلاه. يمرّ تامر، ابن أختي، بدرّاجته الثلاثية العجلات من أمامي، فيرجعني صخبه من تخيّلاتي، وأنتبه لأمّي تناديني منذ دخلت. أتبع صوتها مهتزّة الخطى، وصورة انفجار قويّ تلمع تحت جفنيّ. في مكاني المفضّل، على الكنبة الواطئة، أجلس أراقب ما استجدّ على الحائط الغربي من شقوق. تتراءى لي طرقات وروافد أنهار وأجساد عارية بأطراف طويلة وتجاعيد جباه وأيادٍ... أسفل الفجوة، عن اليسار، يوجد التلفاز. هنا، حيث أجلسُ، كان جدّي يتابع برامجه الطريفة، "أبو سليم الطبل"، "أبو ملحم"، "بربر آغا". وهنا ابتسم للمرّة الأخيرة. ة من بين الطيّات البيضاء فاحت ابتسامته الهادئة، فشعرت أنّ هذه اللحظة تساوي حياتي، وأردت أن ألتقطها، كي أقول إنّي لمستُ السعادة يوماً. " سأقتلك إذا تركتني"، قال لي وهو يتمدّد على ظهره فوق الغيوم. فقلت: "اذاً سأنتظر الموت الليلة". لم يهتمّ بكلامي. كلّ مرة، أخرج من شقّته، تاركة خلفي عهداً بعدم المجيء ثانية، وبعد أيّام قليلة أو كثيرة، أعود. أجد على طاولته شيئاً اشتراه لي، محفظة بدلاً من محفظتي التي ضاعت، ساعة بدلاً من ساعتي المعطّلة دوماً، شالاً قلت يوماً أنني أنوي شراءه، كي أغطّي به رأسي وأنا متسلّلة إلى شقّته. تخفّيت بالشال وخرجت، مردّدة أنها المرة الأخيرة. لكن! في السوق وفي الجامعة، شعرت بأنّني لو كنت أملك المال، لما اشتريت ساعة جديدة ولا محفظة. هربت من نفسي ومن الوعد الذي أمقته. في المصعد، أدرت ظهري للمرآة. ركضت نحو باب الشقّة وأغلقته بسرعة، كي لا يدخل ظلّي خلفي. نثرت الصور ورحت أذكّره بها وبنا. ما كنّا عليه، ما قلناه، ما فعلناه في خلال التقاط الصور. حشر الصور في حقيبة يدي ورماها نحو باب المدخل قائلاً: "لا تعودي إلا من دونها". ة لم يعد أحد في البيت يبتسم للتلفاز. بعد أن ينهكه اللعب، ينام تامر على البلاط البارد، فتحمله جيهان إلى غرفتنا، وينامان لتوّهما. سرعان ما ألحق بهما، ليس لأنّني متعبة أو ناعسة، بل لأنّني أخاف أن أطيل البقاء وحدي في غرفة الجلوس. في سريري، تحت النافذة وقرب سرير أختي وابنها، لا يعود الشرخ يقلقني. أفتح الكتاب وأقرأ جملة لا تعني شيئاً، كتبها أديب معروف، قد يكون رام بها معنى كبيراً. أرفع نظري إلى السماء محاولةً تحديد مكان القمر. هو الآن في زاوية ما من السماء. أبقي النافذة مفتوحة في انتظاره. كانت جيهان تسخر منّي عندما أقول لها إنّ للقمر رائحة، وإنّي أشمّها حين أراه. في هذه الساعة من الليل، تبدأ تلك الرائحة تطرق نافذتي. هل أوقظها لتعرف أنّني لست واهمة؟ هل أوقظها لأخبرها أنّني أشمّ روائح طفولتي، روائح ثيابي ولُعبي وأغطيتي وكتبي، وسندويتشات المدرسة، والممحاة التي لها شكل إجاصة ورائحة وردة. ورائحة مالك، الطفل الذي كان حبيبي.