كان الجو حاراً، وشمس تموز تشوي الوجوه عندما ظل يركض الشارع كسلحفاة يبحث عن ظلال بارد، أمسك التلفون السيار وراح يضرب الأرقام، ينتظر الرد . كان قلبه يدق مع كل رنة تلفون .. يأتي الصوت ألو؟ بدأت دقات قلبه ترتفع .. قال: لا تنسي الموعد الساعة التاسعة والنصف، عندها هدأ الصوت.. ليغيب بعيداً لم يعرف ما تقول جاء صوتها تعتذر ..(لا أستطيع) صوته في الشارع يعلو الساعة التاسعة والنصف لا يفوتنا الوقت القلب يدق.. بسرعة جنونية وكأنهه طبل أفريقي جاء ليصاحب تلك النغمات كان سريع الإيقاعات جر رجليه إلى أقرب حافلة ليكون هناك.. الشمس الملتهبة في هذا الصباح لا تعرف أحداً، قالت: اسمع أعتذر لظروف طارئة... اعذرني هل سمعت؟!! قال: أسمعك لكن لا عذر الآن الوقت من ذهب (أنا الآن متجه إلى محطة الحافلات) أفكاره مشتتة. بالأمس كانا قد اتفقا على أن يقوما برحلة سياحية لمدة أربع وعشرين ساعة لتخرج من شرنقتها المحبوسة داخل نفسها، فهي محبوسة بين أربعة جدران، ليس لها أنيس سوى نفسها الممزقة الوحيدة. قالت: أريد أن أعرفك أكثر. قال: هذه الرحلة ستعرفينني أكثر.. أخذت رشفة من شراب البرتقال بعد أن خلعت ذلك اللثام.. ظهر وجهها الاقحواني جلياً حزيناً لا يعرف طعم المساحيق الصناعية، كانت تساورها أفكار بالية اطمأنت واتسمت هي.. هدأ القلب تماماً. قالت: اترك الموضوع لرحلة أخرى.. صمم هو على الموعد وأخذ تلفونه السيار واتصل لمكتب الحجز... مقعدين. أخذت نهدة آآآآآآه وارتاحت جوارحه.. وهدى قلبه الملتهب ناراً.. خرج مسرعاً، أخذ حافلة إلى منزله استعداداً للرحلة. هو ينتظر ذلك الموعد من زمن بعيد عندما عرفها وهي تعاني الأمرّين من مرض وحزن. في المنزل اتصل بها قال لها لا تنسي الموعد، كانت شبه موافقة، تداخلت لديه الكلمات والأفكار.. واختلط كل التوقعات التي بناها ((إذا لم توافق ماذا أعمل؟! كل شيء مرتب؛ أريدها أن تكون سعيدة في حياتها) لم يبق من الموعد سوى يوم واحد فقط من موعد الرحلة، هي شبه موافقة غداً سيكون اللقاء.. لم يتصل بها خلال أربع وعشرين ساعة، في الصباح وعند التاسعة أخذ يتصل بها، كانت أفكاره مشتتة، قال لها: أمازلت في البيت؟!، الموعد.. الرحلة ستضيع. قالت: أجلت هذا الموضوع لظروف طارئة، لا أحب البوح بذلك الشيء، الآن كان كلامها يوحي إلى عدم الموافقة، كان كلامها بارداً كقطعة جليد في صحراء حارة، لم يتمالك نفسه هو يعرف أنها ستمانع، ولكن سيصر عليها. قال: الوعد كالرعد ولا .....؟؟ وراح يضرب لها الأمثال لتخرج من ذلك الجو الملتهب والعزلة المنفردة. قالت: اعذرني فأنا لا أستطيع أن أكون معك ظروفي لا تسمح، اقتلبت عنده الموازين كاملة، وأصبح يتخبط، ماذا يعمل، لايعرف ما يفعل ككرة مخروقة فقدت الهواء، هو الآن في الشارع حاملاً حقيبة سفره ومستعداً للسفر، لم يبق من موعد السفر سوى ساعة واحدة قال لها: اتركي كل شيء ونلتقي عند مكتب الحجز، أقفل سماعة تلفونه وركب باصاً لإيصاله إلى مكتب الحجز، بدأت أفكاره تعطي له أقل الاحتمالات، إنها اعتذرت عن السفر لم تأتِ بعد.. وماذا؛ أيواصل السفر أم يعود إلى منزله، لكن إلى أين؟! أجل قطع التذاكر حتى تصل.. لعلها قد ألغت السفر، هي عنيدة لكنها لا تكره الخروج من شرنقتها. اتصلت به قالت له: أين أنت؟!. قال: في محطة الباصات. قالت: لا توجد لدي حقيبة يد. قال: خذي أي شيء.. اطمأن قلبه، وراح يفك رموز الحظ ويجمع تلك الأفكار المشتتة، عربد المفتاح وهدأ القلب... بدأ القلق يساوره، كلما مرّ عقرب الساعة على الدقائق، ينهض مسرعاًً، إنها لم تأتِ ((ساوره القلق أكثر، المكان لم يسعه رأى سوادها من بعيد، هدأت أعصابه، وأصبح كخرقة بالية، وصلت تأخذ نهدة: آآآآآه؛ لقد تأخرت، أجلسها في كرسي الانتظار وراح يقطع تذكرتين، أصبحت أعصابه باردة كقطعة ثلج تنهال منه حبات الماء، غسل قلبه بها وجلس بجانبها. المنادي: المسافرون إلى ..... عليهم أن يأخذوا أمتعتهم، قفزت مسرعة وأخذت كرسيها المخصص بعد أن أعطاها رقم المقعد، تبعها بعد أن رمى أمتعته في خزينة الحافلة.. بدأت الحافلة بالتحرك وهي فرحانة كطفل وجد حلمة أمه!!. كانت بجانبه كحمامة هادئة خرجت من عشها بعد أن تجاوزت مرحلة الخطر، تتأمل حياة جديدة بعد أن كانت محبوسة في قفص حديدي لا ينفك، أخذت تتنفس الهواء وتأخذ نظرة إلى العالم الجديد، الحافلة تضرب بعجلاتها الطريق الأسفلتي وهي تتأمل يميناً وشمالاً. قالت: هل لنا أن نكون في المقدمة، قفزت مسرعة أخذت المقاعد الأولى خلف السائق، وهدأت في مكانها الجديد.. شعرت بالراحة والاطمئنان، قالت: الجو حار، المكيف الذي يعلو سقف الحافلة يعمل بكل قوته بدأت الحافلة تأخذ مجراها نحو الجبال. قالت: هل أكشف وجهي من هذا البرقع؟!. هزّ رأسه وأخذت حريتها، تشابكت الأيدي وبدأت الحرارة تنصب في السالب والموجب، كانت أطراف يدها باردة، تكورت في مقعدها كحمامة هادئة مقصوصة ((الجناحين)). قطع الباص السياحي أكثر من مائه كيلو.. مساحة هذه المدينة كبيرة لم يبق لدينا سوى خمسين كيلومتراً، شدّت جسمها وانتصبت ..... وراحت تتأمل الطبيعة الجميلة، السيارات القادمات من الجبل وتعرجات الطريق الأسفلتي الذي تمثل كثعبان يجري بعد فريسته، وبدأت زخات المطر تنهال على جسم الباص، وهي فرحانة بهذه الرحلة، بدأ كل منهما خمولاً.. بعد الثالثة وصلا المدينة الخضراء، قفز مسرعاً لإخراج حقائب السفر من خزينة الحافلة، كان الجو ربيعياً، وهما يقطعان ما تبقى من المسافة إلى الفندق.. الحمامة تخلع رداءها الأسود لتضع نفسها على السرير مطلقة الحرية، قالت وهي تحدثه لم تعرفني من الأول (ولم تعرف خصائل شعري) تحدثت كثيراً عن حياتها وكيف عاشت وحيدة الأب والأم، أسقطت من عينيها دمعة كانت ساخنة، مسحتها بمنديل كان بيدها، كانت الدموع تنهال بغزارة، تذكرت والدتها المتوفية وكيف تركتها وحيدة. قالت: بعد موت أمي تُركت وحيدة ولم يزورني أحد، حتى أبي وإخوتي. قال لها: ليس هذا وقت الدموع، ننسى الماضي ونعيش الحاضر، مسحت دموعها وأبدلتها بضحكات ليس لها صوت. قالت: إني مسحورة؛ تكورت على السرير كعصفورة تريد أن تطير بعيداً دون أن يعلم بها أحد، غطت جسدها تماماً، أوقفها وأعطاها الأمان، وخرجا معاً في الهواء المنعش، وزخات المطر المتطايرة، أخذا يتجولان إلى جبل المدينة حتى أسدل الليل رداءه، كانت القناديل تضيء حولها والمدينة ساكنة هادئة، في هذا الليل البهيج رشفا فنجانين من الشاي، ثم أخذا نفسيهما للرحيل إلى جانب الجو الهادئ ليسكنا معاً. في الصباح كانت العصافير هي القادرة على ترجمة كلامها من خلال العيون المحبة؛ ليكونا معاً في بوتقة واحدة هي الحب، جاء وقت الرحيل تماسكت الأيدي وارتعش القلب واطمأنت الجوارح فيها، كان الوقت ظهراً وهما يعودان من رحلتهما يتحدثان عن الرحلة الممتعة وجو الصيف الممتع وبداخلهما حديث الذكريات، لا تنسى محبة صادقة تظل ذكرى للأبد، عادت إلى عشها وحيدة كما هي وحيدة.