كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر عندما اتصلت به تسأله عن مكان الغداء، لكن اتصالها كان اعتذاراً وليس حضوراً؛ لأن جسمها منهك ومريضة ولا تستطيع الخروج. حاول معها لكنها أصرّت على كلامها. أقفل تلفونه وراح يبحث عن لقمة عيش في هذه الظهيرة. كان الجو يوحي إلى حرارة معتدلة وشمس تشرين الثاني لها حلاوتها في هذه المدينة الساحلية الجبلية التي لا تعرف سوى طعم الجو الحار صيفاً المعتدل شتاء. في هذه الأشهر الشتوية؛ الوقوف تحت أشعة الشمس له رائحة البحر المتدفق الذي يضرب بمياه الجبل النائم بسكون ووقار لا يأبه لما حوله. مد نظره إلى الأفق البعيد وعاد نظره مرة ثانية. قال في نفس: المنزل أقرب من أي مكان، أخذ ماصاً دفه من لقيمات وجر أذياله إلى المنزل، بدأ يحضر ما أحضره من طعام؛ لكن تلفونه أوقفه عن ذلك، عاودت المكالمة مرة أخرى. قالت: هل تناولت طعام الغداء؟. قال: لا!! لعلي استعد الآن. قالت: أنا قادمة إليك، أريد وووو .. أريد.. وقليل من السمك إذا أمكن من أقرب مكان في منطقتكم. قال: سأنظر في الأمر إذا وجد في هذه الساعة المتأخرة من الظهيرة. قالت: اتصل بي عندما تكون في البيت سآتي سريعاً. راح يجهز نفسه للخروج لشراء ما طلبته، ركب سيارة أجرة وراح يبحث عن مطلوبها، عقارب الساعة تجر أذيلها تسابق الزمن، لم يجد ما طلبته كاملاً؛ عاد مسرعاً إلى المنزل واتصل بها. قالت: دقائق سأكون لديك، ظل ينتظرها، الدقائق والثواني، مرت ساعة كاملة وهو ينتظرها كان كل ما مر من الوقت يقوم قلقاً بفتح الباب لاستقبالها ساوره القلق، قال في نفسه إنها لن تأتي إنها عنيدة، اتصل بها لم تجب، ساوره القلق مرة ثانية، هي أكدت له أنها ستأتي، الوقت يمر بسرعة جنونية، جلس يتأمل الزمن القادم، ماذا يحمل في طياته، صحا من سباته. فتح الباب وجعله مفتوحاً، أخيراً وقفت أمامه فاردة الصدر، لقد تأخرت أليس كذلك؟! إنها المواصلات، أنا جائعة، ضمّته إلى صدرها وكشفت عن وجهها الأقحواني، كان كل شيء معداً من الطعام الذي طلبته؛ لكنه كان بارداً كبرودة الساعة التي مرت، خلعت شرشفها وجلست تلتهم الطعام. قال: أنت عنيدة؛ ألم أقل لك سنذهب للغداء في أقرب مكان لكن كنت عنيدة وبعندك تزدادي محبة عندي. قالت: فكرت أخيراً وغيابك الطويل. أكلا معاً، وراح يقص عليها غيابه الطويل، وقصت له قصة العلاج الشعبي، الضحكة لا تفارق شفتيهما، هدأت نفسها المضطربة والقلقة، هي تشعر بذلك من داخل نفسها، فهي تعاني من الوحدة والفرقة. قالت: الوحدة صعبة.. كان الشرود يرافقها بين عقلها الواعي وعقلها الباطني المضطرب الذي يحتاج إلى سكون تام من ذلك الشرود المنسوب دائماً والذي لا يفارقها، فالماضي جزء من حياتها. قال لها: انسي الماضي واجعلي الحاضر والمستقبل طريق الأمل، فالماضي انتهى ولن يعود، فليذهب إلى الجحيم. نهضت من مكانها وكأن حشرة لسعتها؛ كيف أنسى الماضي وأنا مريضة؟!.. وكأن الماضي عاد إليها من جديد ينخرها. ذرفت دمعة ساخنة مسحتها بكف يدها التي ظلت ترتعش بلطف، حكى لها قصصاً من الماضي الذي يقتل الحاضر والمستقبل. يجب ألا تنظري إليه، هزت رأسها وكأنها تقول: أنت لا تعلم شيئاً بما أعانيه، بدأت تغير وجه الكلام، هل أحضرت الكتب التي وعدتني بها؛ فهي تهمني جداً، فالكتب روح الإنسان الوحيد؟!. قال: أحضرتها في المرة السابقة ولكني نسيتها في شنطتي. قامت ونكشت شعرها الذي غطّى تلك الملامح من وجهها، وكأنها أصبحت قطعة من رخام، نسيت الماضي، شعرها المتدلي الكثيف أملس كقطعة مرمر، راح يتحسس شعرها، سبحان الخالق. قالت: يقولون إن شعري طويل وجميل لكنه “ينفل”. قال: من جماله. قالت: أريد أن أغسل شعري، أشار إلى الحمام، مشت أمامه تقلب شعرها الأسود يميناً ويساراً والمشط الذي يصاحبه، حسدت ذلك المشط وتمنيت ان أكون مكانه، ظل ينتظرها، يعيد ذاكرته إلى الماضي القريب، خرجت تجر شعرها المتدلي الممزوج بالماء والشامبو وقد اكتسب رائحة جميلة كما هي جميلة، ظلت تمشط شعرها برفق يرافقه المشط وكف يدها وتمسح ما تبقى من الماء بتك المنشفة المخططة كخطوط اليل والنهار. قالت: أخاف أن يصيبني برد بعد الحمام (عادت إلى خواطرها القديمة). قال: لن يصيبك شيء، ظل شعرها يتغزل بجسمها الأقحواني وذلك اللباس الخفيف على جسمها وسروالها الأسود الذي حجب الرويا عن ناظري. أصبحت قطعة مرمرية متكاملة، ظهر وجهها أخيراً بعد ان أحكمت ضفائر شعرها، جلست، كان الليل قد أسدل رداءه، وإذا بها تتحول إلى قمر أربعة عشر. بدأت الساعة تنفد، وبدأ قلبه يدق كساعة مهملة معلقة على جدار مشروخ. قالت: لقد تأخرت، لقد تركت البيت غير مرتبة وأخاف أن يدخل فأر ويعبث بالبيت، نهضت كما جاءت، لبست شرشفها والبرقع الذي حجب وجهها، ظلت العيون هي التي تحكي عصارة أنجمي. سأتركك تعيش وحيداً هذه الليلة وسأعود وحيدة كما أنا وحيدة إلى منزلي، قبلته وراحت تتخطى سلالم المنزل بحذر، حاول الإمساك بها؛ لكن ...... عاد إلى فراشه يتقلب كفأر لا يعرف من أين الخروج، نهض من فراشه ليرى نجمة الصباح تعانق الهلال المتبقي من الشهر القمري وهو لا يدري أحلم أم واقع.