تأخذك السياسة بعيداً عنك، لتتحول إلى مجرد تابع لتحركات عشاقها وتصرفاتهم الحمقاء.. لطالما دخلت في شجارات جانبية مع زوجتي على خلفية نسياني شراء بعض حاجيات البيت. عند خروجي توصيني وتذكرني بها وغالباً ما ترفق ذلك بتحذيرات شديدة اللهجة وحينما أعود خالي اليدين يا للكارثة..يذكرني صوتها الغاضب أني وقعت مجددا في المطب ذاته.
مؤخراً حين اقتنعت أنه لا طائل من مواصلة الاعتذار بالطريقة ذاتها قررت أن أكشف لها ما اعتقدت أنه جزء من أسراري الخاصة. استجمعت قدراتي وقلت لها: أنا منشغل جداً عن حاجياتك الصغيرة بالتفكير بأمور وقضايا كبيرة. لقد بدأتُ بالانسياب لأواصل بجراءة: فبالنسبة لي ما الذي يمثله "الباذنجان" – مثلاً - حتى أجعله في أعلى اهتماماتي؟! لا شيء طبعاً مقابل التفكير بتصرفات النخبة السياسية..! ومحاولة تفسير وتحليل تحركاتهم وسكناتهم وربطها بالأحداث..! تفاجأت زوجتي بالأمر..! لكن وقبل أن تستفيق من الصدمة لتشرع في الرد أضفت على المنوال ذاته: وهل تعتقدين مثلاً أن التفكير بضرورة شراء "كريم الشَعر" أهم من التفكير بمحاور مقالتي القادمة؟ كيف ستكون بدايتها؟ ماهي تفاصيل جسمها ومحاسن خاتمتها..! ما العنوان المناسب وكيف يجب أن يكون مثيراً وجذاباً ؟..الخ. هكذا آمنت أنه سيتوجب على المرء - في نهاية المطاف - إقحام شريكة حياته بهمومه في العمل وإن استدعى ذلك كشف بعض أسراره الخاصة. وبشكل خاص ربما على زوجاتنا - نحن الصحفيين- أن يعرفن معاناتنا اليومية وحجم صراعاتنا الداخلية..! كم نحن مهتمون ومنشغلون بالشأن العام ومصالح الناس أكثر من حاجياتنا الصغيرة..! عليهن أن يدركن كم أن الشغل في الصحافة أمر مرهق جداً أكثر من السياسة نفسها..! طوال أيام الأسبوع وحتى طباعة الصحيفة لا ننتهي من الانشغال والتفكير حتى نبدأ المشوار ذاته مع العدد القادم..وهكذا. اعتقدت أن تلك الطريقة قد تكون هي الأنسب لإيقاف الجلد العائلي اليومي عند حده.
* * * في الواقع ومع ما قدمته بين يدي زوجتي من مبررات قد تبدو "سخيفة" وسخيفة جداً –ربما- إلا أن ذلك برمته لم يكن في قرارة نفسي هو ما يجب أن تسير عليه حياتنا. وأعترف لكم أني كثيراً ما سئمت من مواصلة الحياة على هذا النحو الفظيع..! على حلم صغير ب"حياة حرة وكريمة" صباح كل يوم نشرع في النوم مع أولى خيوط الفجر المنطلقة مع زقزقة العصافير. وكلما انتصفت شمس سماء العاصمة نستيقظ على الحلم ذاته، الوجوه الشاحبة ذاتها وهي تحاول الفرار من الموت ذاته إذ يتسلل إليها ببطء. "ثمة الكثير مما يستحق المعاناة اليوم". نصحو على النسق اليومي ذاته. نترقب، نقرأ، نتابع، نتصل، نتواصل، نجمع المعلومات نفكر حين نخرج من منازلنا، ونواصل التفكير حين نعود..! على هذا الكم الهائل من حماقات عشاق السياسة نقتات لنبقى على قيد الحياة.. نسِود الصحيفة، نزينها بالصور، نطبعها، نوزعها، يدفع قيمتها القارئ، يقرأ بعض ما يهمه، يرمي بها في طرف قصي، تبحث عنها الزوجة، تفرشها وتنادي: حان وقت الغداء.
* * * يالها من حياة قاسية مقيتة: أن تظل حياة إنسان ما أشبه بحياة "عقرب ساعة"..! حياة تتواصل بدأب لكنها على الدوام تدور حول المركز ذاته، تعبر المساحات ذاتها وتقطع الزوايا ذاتها..! "عقرب ساعة" يبذل جهداً تكرارياً متواصلاً لا ينفك أن يصل إلى نهاية الدورة حتى يبدأ من جديد ليعيدها بالطريقة والأسلوب ذاته. هكذا على الدوام. حياة مرهقة تبعث على السأم بشكل ممل مقزز وقاتل "في نفس الثانية". نصحني أحد المصححين اللغويين في وقت سابق أن لا أقول "في نفس الثانية " كما كتبت أعلاه. والصحيح أن أقول "في الثانية نفسها". فالثانية – حسبما أكد لي - لا نفس لها. ومذاك وأنا أعمل بالنصيحة. لكنني اليوم قررت خرق القاعدة وكتابة العبارة وفقاً للسياق السابق. ربما لأنني شعرت – في لحظة إنسانية ما - أنه من المجحف أن نواصل نزع الحياة عن "الثانية"..!! لمَ علينا مواصلة فعل ذلك؟ مع أن العقرب الذي يواصل تنقله من "ثانية" إلى أخرى بشكل دائب ومستمر يمنحها الروح حتى لتبدو (تلك الثانية) ممتلئة بالحياة. إنها لا تتوقف عن الحركة والعبور إلى المستقبل – ولو حتى – ل"ثانية" واحدة. بل حتى وإن توقف "عقربها"عن الحركة بسبب توقف قلب الساعة عن النبض - لسبب ما - فذلك لا يمكنه أن يعفي "الثانية" من مواصلة العبور والانتقال إلى الزمن التالي. إنها الشيء الوحيد الذي لا يمكنه أن يتوقف إلا حين تتوقف الأرض عن دورانها حول نفسها وحول الشمس وحينها فقط تتوقف الحياة برمتها.
* * * هناك حقائق "علمية" باتة لا يمكن للمرء إلا أن يؤمن بها. فمثل حقيقة "دوران الأرض" المستقرة في علم الفلك والمجرات هناك حقيقة طبية واحدة تؤكد أن الإنسان حين يموت يتوقف قلبه عن النبض. بيد أن هناك حقائق "معنوية" تكتسب معناها من تجاربنا. ولقد بت متأكداً أن للموت معان عديدة في حياتنا المعنوية. فهو – مثلاً - قد يعني: أن تطغى تصرفات وتحركات الآخرين على عقل المرء وتفكيره. أن تنتزع إرادتنا من حياتنا اليومية ونغدو سجناء لحياة الأقوى فيها. أسرى تفسيرات وتحليلات كل حدث أو فعل يقومون – أو حتى لا يقومون – به..! ربما أشبه بحياة "جرم" صغير في الفضاء الواسع لا يمتلك إلا أن يدور حول الأقوى والأكبر..! أو ربما: "عقرب ساعة" عليه أن يتحرك في المساحة المحددة له كل: ثانية، دقيقة، ساعة، يوم، أسبوع، شهر، سنة، عقد، (30 عاما) جيل الخ!
* * * يبدو لي هنا أن الأمر خرج عن سياقه. لم يعد متعلقاً بإفصاح "صحفي" لشريكة حياته فقط تفادياً للشجار. لقد توسع "الثقب الأسود" أكثر ليطال الحياة برمتها حتى أنه لم يعد ممكناً السيطرة على تفاصيل حياتنا الخاصة وبات من الضروري الإفصاح عن الكثير.. أعرف –مع احتفاظي بألمي لنفسي– أن لكثيرين قد لا تعنيهم حقائق تلك المعاناة بشيء..! وأن حجم الجهد المبذول وذلك الأرق اليومي (نتائجه ومضاعفاته) في سبيل إصدار صحيفة محترمة.. أن ذلك كله قد لا يساوي لهم شيئاً البتة..! ومع ذلك فبعض الحقائق التي أقدمها هنا أشعر أنها ستزيح عني جزءاً من حياة "عقرب الساعة" المملة. ربما اعتقدت -وهذا يكفي- أنه نوع من التغيير مثلاً..! على أن لدي أملاً آخر حين أعتقد أنه قد يمثل شيئاً ما جيد طالما امتزج بمعاناة الكثيرين.
* * * عن زوجتي، عن أمي، التي زارتني في العاصمة الأسبوع قبل الماضي، عن أبي أن شخصاً أخبره أني أعمل في صحيفة أستلم فيها مبلغاً كبيراً و..بالدولار..! يتوجب علي هنا أن أقرر بشجاعة كشف جزء من أسراري الخاصة. فبعد عودة أمي إلى دارنا الحبيب في تعز عقب زيارتها السارة واللطيفة لي تحدثت مع زوجتي حول حزني الشديد كوني لم أستطع أن أقوم بالواجب المطلوب تجاه أمي. فمثلاً: بسبب انشغالي السخيف بالعمل لم أستطع الالتزام بالعودة الباكرة إلى المنزل مساء لتجاذب أطراف الحديث الشيق معها والذي افتقدته قبل عقد تقريباً. كما عجزت عن إخراجها إلى بعض الأماكن الجميلة في العاصمة وما يحيط بها. بل آخر الأمر عجزت عن تجميع مبلغ مناسب لأشتري لها ولوالدي هدايا أو إعطائها بعض المال عند سفرها. لم يسعني سوى إعطائها مبلغاً صغيراً ادخرته زوجتي للاحتفال بعيد زواجنا الثامن (صادف 18 يوليو/ تموز الحالي). وحين أخبرتني زوجتي عن الرواية السابقة أعلاه حاولت عروقي أن تطرد دمي من جلدي. وفي اليوم التالي كنت في الصحيفة أجلس مقابل رئيس التحرير وأتمعن فيه بشكل غريب باحثاً عن الدولارات التي تحدث عنها الواشون. لم أجد أكثر من مواصلة عجزنا في البحث عن مصاريف يومية. وكان الشيء الوحيد الذي نواصل نجاحنا فيه هو: الحديث عن ديوننا المتكالبة..! الإيجار الشهري، فواتير حياتنا اليومية غير المسددة، الفرن وثلاجة المنزل وحاجتهما لمهندس لم تتوفر أجرته بعد..! هل ثمة ما يدعو للسخرية المؤلمة أكثر من هذا الذي يحدث؟
* * * ولاحقاً كان علي أن أدرك أن مغادرة صديق عزيز للصحيفة بحثاً عن حياة أخرى غير مؤلمة كان هو الخيار الأفضل له. حتى أنني – وبعد أيام قليلة فقط - سعدت كثيراً حين قرأت على صفحته الشخصية في الفيس بوك أنه بات سعيداً لأن الأنترنت عرف بيته أخيراً. لطالما كانت أحلامنا صغيرة إلى هذا الحد، ومع ذلك لم يكن تحقيقها أمراً سهلاً طالما حكمتنا حياة "عقرب الساعة". ندور في المكان ذاته، نقطع الزوايا ذاتها، ونتنقل في المساحة ذاتها محكومين بقيد وثيق من المركز. "على هذه الحياة أن تتغير..! بالضرورة يجب أن تتغير..!" حين تعمقت جراحه صرخ صديقي في وجه "عقرب الساعة" بتلك الكلمات. أراد أن يفر من جرحه فغامر مضطراً نحو المجهول، غير أن الألسن الحادة لم تدعه ينجو بألمه. تبعته لتفتك به من بعيد..!
* * * * وحتى في "تموز"؟ لماذا: حتى وأنا أرحل بعائلتي بعيداً عن تلك الحياة الصدئة باتجاه الجبال البعيدة إلى "شلال بني مطر" الساحر.. أعجز عن الاستمتاع بحياة الطبيعة "التموزية" الخلابة..؟ ولماذا.. عن هدير الشلال المنسكب بياضاً على صفحة الماء الناعمة ينتزعني الشرود ليقذف بي نحو صخب السياسة وحماقات عشاقها..! وأتساءل: لمَ كان علي أن أغادر "حقيقة" الروح التي أعادها تموز للحياة لتحضرني معاني الموت "الافتراضية" التي ترافقه؟ لمَ تقفز مقولة أحدهم: أن "العظماء يرحلون في تموز وفي تموز تحل المصائب"؟ ولمَ علي أن أفسر الأمر على هذا النحو: لقد رحل عظماؤنا قبلك يا تموز فأي عظيم تبقىّ ليرحل؟ وكل المصائب هنا فأي مصيبة تبقت لتحل؟ ومن التراث الآتي إلينا من الزمن الغابر تقول إحدى الأساطير الشهيرة "إن أم الآلهة الكنعانية عناة كانت تحب الإله تموز، ومن شدة حبها له حرقته ونثرت رماده ولكن من شدة حبها له أيضا أعادت له الحياة". ولكن لمَ علي أن أقارن الأم "عناة" بالسلطة والإله "تموز" بالشعب؟ وهل كان من اللياقة أن أخلص إلى هذه المفارقة: أن السلطة التي ما انفكت تواصل الإحراق وتنثر رمادنا في كل مكان لن تستطيع إعادة الحياة ل"تموز" لأنه ليس ثمة حب يدعوها إلى ذلك؟..
* * * لمَ يحدث كل ذلك؟ أتساءل. ألا يتوجب علي أن أتخلص من حياة "عقرب الساعة"؟ أعيد نفسي إلى "الشلال" الذي مازال يتدفق بغزارة. أحاول أن لا أشرد عنه. أبادله الحياة التي يمنحها تموز. علي أن أستلهم الشق الآخرمنه. تموز "الحياة بعد الموت": الأمطار التي تبعث الروح، النبات الذي يستعيد خضرته، الجبال التي تغتسل من غبارها، الصخور التي تطرد السأم العالق عن ظهورها. تموز: الحصاد الذي ينادي الفلاح، السنابل التي تتسامق نحو السماء، القمح الذي يملأ الجرار.. أحاول ولكن..! هذه المرة لم يسرقني الشرود ليرحل بي بعيداً. لم يشغلني التفكير بنزق عشاق السياسة وحماقاتهم. بل ثمة تواجد مخل بتلك المعاني. هذه المرة حضر تموز "الموت" بنفسه..! وهناك على رأس "الشلال" المتدفق نصب خيمته وأشعل ناره. وبالجوار حضر أحد "المراكز" العليا، بل إحدى "المجرات" الكبيرة..! ربما أتت به روح الباحث المحب لطبيعة تموز الخلابة لكنه جاء حاملاً معه معظم تفاصيل حياته الدائمة. كل التفاصيل تؤكد أنه شخصية عسكرية كبيرة. شاحنة الجند المتوسطة الواقفة هناك على هضبة مرتفعة، الخيمة العسكرية الكبيرة التي أنزلت من على ظهرها قدور الطعام الكبيرة، المرافقون بأسلحتهم الشخصية بلباس مدني..! إنها تفاصيل الكابوس الذي فررنا منه نحو جبال تموز المغتسلة بالمياه وخضرته الممتلئة بالحياة. على رأس الشلال في منطقة استراتيجية على مساحة شاسعة من ظهر الجبل المنصاع، وكمجرة كونية كبيرة، نصبت الخيمة العسكرية. كان يمكن لعشرة "أجرام" صغيرة [من الأسر الفقيرة] أن تحقق حلمها بالجلوس في تلك المساحة المطلة على روعة وجمال الطبيعة. عاودني الشرود واقتحمتني الحياة الغاضبة بقوة. أشعلت النار ووضعت القدور لتنضيج طعام الغداء. انتشر الدخان الكثيف في الأرجاء. مر على الأنوف وتحسست منه الأعين قبل أن يتصاعد إلى الفضاء ويتبخر. حرارة شمس تموز الحارقة تؤذي رؤوس الأطفال والنساء وكبار السن، وفي الخيمة الواسعة لا تتمدد سوى بضعة أجساد وأسلحة، وقبل الظهيرة وصلت مجاميع حمراء من مرابط القات الطويلة لتستقر هناك في الداخل..!
* * * هل تعرفون؟ لم أستطع استيعاب هذا الأمر حتى الآن. يقال إن أحد المسئولين يدفع حوالي 2 مليون ريال كل أسبوع لإشباع رغباته السادية الشاذة. لولا أني لم أعهد على محدثي كذباً قط لاعتبرت الأمر مبالغة في المبالغة. شيء آخر بعد: قبل فترة – حين كان الأمر يتعلق بمؤتمر دعم اليمن "زر" رئيس الوزراء وجهه في مقابلة صحفية وهو يقول بما معناه : سنحارب الفساد ونطارده حتى نقضي عليه..الخ وبالأمس حين تعلق الأمر بمؤتمر حول الشفافية والفساد هدأ "مجور" من روعه كثيراً فصار يبرر الأمر: الفساد آفة عالمية ومن الصعب القضاء عليه..! أيها الصحفيون.. أعدوا أنفسكم. لقد تقرر بدء عملكم في تغطية الجولة السابعة من حرب صعدة في تموز، وفي تموز تحل المصائب دائماً.