عاد أحمد إلى منزله.. كان لابد له أن يعود حتى يستطيع أن يرتب حياته الجديدة.. حياة كان يسعى لها وإلا فلما الصعود من عتمة إلى صنعاء حياة أراد القدر أن يكون فيها جديد.. جديد لم يخطر على باله وهو يشد رحاله إلى صنعاء.. بلقيس.. كان يريد أن يسأل الإمام : - هل تعرف بلقيس.. هل شاهدت بلقيس؟ إلا أن خجله قد منعه.. بلقيس الذي بدا بأن الخطوة الأولى إليها تلوح في الأفق والوظيفة.. بلقيس أولاً أم الوظيفة.. الوظيفة.. أولاً أم بلقيس.. بلقيس والوظيفة معاً.. عصفوران في حجر واحد.. أمر لا يستطيع أن يقرره.. الإمام من يقرر.. يتمتع أحمد بقدرة مذهلة على الكتمان.. كتمان لم يقدر أن يفك رموزه زملاؤه في المنزلة إبراهيم وعبدالمؤمن.. كتم عنهما حبه لبلقيس وكتم عنهما صلته بعبدالسلام وبالمنشورات، وبقدرة كبيرة على معرفة طبيعة وميول واتجاهات الآخرين.. معرفة جعلته يحجم عن استقطاب أي من ميليه إلى العمل معه في توزيع المنشورات.. يقول لزميليه : -سأكون ضيفاً عليكما حتى أتدبر أمري.. يرد إبراهيم.. - كنا نشعر في أوقات كثيرة بأنك ضيف علينا.. فكر مشغول وغياب لم نكن نعرف له مكان. أعذروني فهكذا أنا.. فكر مشغول يجرني للغياب عنكم وأنا معكم.. غياب لا أدري أين مكانه مثلكم.. اعتاد دائماً أن يعود إلى المنزل بعد صلاة العشاء إلا أن عودته هذه المرة تختلف عن سابقتها.. هذه المرة هي عود على بدء.. بدء.. جديد.. فأي جديد.. جديد سيقرره إمام الجامع فأي عجز عندما يكون مصيرنا مرهون بمشيئة الآخرين.. لم ينم فقد كانت الأفكار تدور في ذهنه دوران الأرض حول نفسها.. يشعر بأنه يدور حول نفسه.. فلماذا لا أكون في الغد هناك وهناك قد يعثر على الآخر المجهول؟.. يقف على عتبة الجامع الجديد.. الجامع الذي كان بداية لعهد جديد في حياته.. عهد قاده إلى مفهوم لم يكن يدرك معانيه.. مفهوم كان يعيشه إلا أنه لم يدرك بأنه لابد من تغييره.. يمسح المنتظرين لصلاة الظهر.. يمسح بشراً قد غابت عن عينيه وجوههم فكيف سيعرفه وقد غاب عنه وجهه.. يخطو الخطوة الأولى في اتجاه وجوههم.. الخطوة الأولى برجله اليمين.. يتردد في أن يخطو الثانية بالشمال فبدا وكأنه مستعد للجري.. ينظر إلى خلفه فقد أحس بلكزه خفيفة على كتفه فإذا هو الآخر المجهول لم يتردد هذه المرة فقد أحتضنه وكأنه قد لقي ضالته.. يحضنه ويهمس بأذنه ( معاتباً): - أين أنت ؟ - وأين أنت. - أنا هنا - وأنا هنا - فهل تعرف أسمي؟ - أحمد محمد عبدالوهاب محمد الإرياني - تعرف اسمي كله ولا أعرف أسمك.. يدفعه عن حضنه.. يقول (مبتسماً) : - اسمي علي محمد عامر اختار علي بيتاً قريباً من سكنه وأستأجره لأحمد محمد.. يقول علي : -دفعت إيجار البيت لهذا الشهر وعليك نقل مامعك في المنزلة وسأتعاون معك في استكمال ماتحتاجه من أثاث. - تدفع عني الإيجار و... يرد علي (مقاطعاً) : -سلف حتى تتمكن من عملك.. أعادت كلمة عملك إلى ذاكرة أحمد العمل الذي عرفه بعلي.. توزيع المنشورات.. تتعرض الذاكرة لسبات وسبات عميق ليوم.. لأسابيع.. لأشهر.. لسنين حتى إذا سمعت كلمة.. جملة نشطت لتستعيد حدث مضى عليه سنين فكيف والحدث لم يمض عليه إلا أشهر قليلة.. يقول أحمد : -وعملنا ؟ - أي عمل.. يرد أحمد (منفعلاً) : - توزيع المنشورات - يلزمنا وقتاً حتى تهدأ الأحوال بعدما تعرض له الأحرار من اعتقال.. يطرق أحمد (استحياءً).. يقول : - أريد الانتقال من توزيع المنشورات إلى صنع المنشورات. - لا لا.. أرجوك يا أحمد لاتقل ذلك.. فالمنشورات بحاجة إلى موزعين.. موزعون ثقة. - سنظل هكذا مجهولون. - لن نكون عندما تنجح الثورة. - وإذا لم تنجح الثورة - سنسجل في ذاكرة التاريخ.. جنود مجهولين. - ها أنت قلت.. مجهولون.. - سيكون لنا الشرف بأن نكون في ذاكرة التاريخ.. جنود مجهولين فعلى أكتافهم تنتصر الثورات. -وعلى أكتافهم تفشل الثورات. - بل على أكتاف المخططين.. القادة.. يتنهد أحمد.. يقول : - مثل قطع الشطرنج فاللاعب الماهر هو الذي ينتصر في النهاية.. - أحسنت يا أحمد.. أعرف بأنك قد أخذت من العلم الكثير وتوزيع المنشورات سيزيدك شرفاً.. أن تكون عالماً وموزعاً للمنشورات من أجل هدف عظيم.. ينظر إليه ملياً.. يقول (مبتسماً): -أحسبك فيلسوفاً.. - بعض ماعندكم ولا تنسى قراءتي للمنشورات ومجالستي للأحرار وفيهم من فيهم كما تعرف فهل تعدني أن تظل كما أنت.. زميلاً لي.. زميلاً للجندي المجهول. -أعدك.. أعدك كان على أحمد الانتقال إلى بيته الجديد والانتظار.. الانتظار للعمل.. الانتظار لبلقيس والانتظار لتوزيع المنشورات، انتظار كان الأمل فسحة أحياناً يردد عندها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وأحياناً بهواً كبيراً.. انتظاراً ينشغل عنه بلقائه بعلي أو الذهاب لأداء الصلوات الخمس بجامع الفليحي.. جامع الفليحي الذي يبعد عن بيته مقدار ساعة وتزيد.. ساعة وتزيد يمشيها ويترك الجامع الذي لايفصله عن بيته إلا بضع خطوات.. جامع الفليحي يعني له المرور على شارع بلقيس.. بيت من حجر ونوافذ حجبت وراءها ناس يأكلون ويشربون وينامون وحجبت أسرارهم وحجبت بلقيس.. يقطع شارع تلو الآخر حتى إذا وضع رجله على بداية شارع بلقيس يبدأ قلبه يدق.. دقاً يتصاعد كلما اقترب من بيتها حتى إذا كان بجواره يشعر وكأن سيلاً يكاد أن يجرفه إليها.. سيل يجعله يترنح بين المعقول واللامعقول.. بين الوعي واللاوعي بين الممكن واللاممكن فلم تعد له حجة لدق بابها فقد ولى زمن الراتب.. الرغيف ويسأل الإمام عند كل صلاة : - هل من جديد ؟ - لم يحن الوقت بعد - أي وقت يامولانا.. وقتها أم وقت العمل؟ - لم يحن وقت العمل أولا ثم وقتها.. - وقت طال حتى وصل مداه إلى ستين يوماً بعدها بادره بالقول : - ستستلم العمل غداً إن شاء الله. - ووقتها.. بلقيس.. غداً يامولانا - نعم يابني غداً.. إلا أن غداً ليس بالضرورة عند بزوغ أول شمس بعد ليلتنا هذه.. ليس بالضرورة وأن غداً لناظره قريب.. غد طال انتظاره طولاً بلغ ستين يوماً أخرى عندما بادره بالقول (مبتسماً): - سنلتقي غداً الجمعة عند صلاة العصر والذهاب بعدها لخطبة بلقيس.. يقول غير مصدق: - ولكن غداً الخميس. - ألم أقلك بأنه ليس بالضرورة.. يقفز فرحاً ويقول : - نعم غداً الجمعة.. هاهو الغد قد حان قدومه.. حان وقوعه. مثلما كان صديقه علي محمد عامر أول من بشره بحصوله على عمل مثلما هو الآن أول من يبشره بموعد الخطبة.. صداقة أحمد بعلي ليست صداقة جمعتهم عندها المصلحة الشخصية صداقة جمعتهم عندها المصلحة الكبرى.. مصلحة الوطن.. صداقة علي بأحمد لم تكن نتاج تعارف عابر تواصل حتى كان صداقة ولكنه كان نتاج للقاء مرسوم.. لقاء رسمه القدر لكليهما لينطلقا منه نحو هدف واحد.. هدف هو الأسمى والأغلى.. صداقة هي الأسمى والأغلى بسمو وعلو الهدف اللذان يسعيان إليه.. يبشره بموعد الخطبة.. يحتضنه علي مباركاً ومهنئاً.. يقول : -سأذهب معك -بل ستذهب معي.. يطرق علي (مفكراً).. يقول : - وماذا ستحمل معك؟ -هذا ماأريد أن تعينني عليه - بالاستشارة أم المال -بالاستشارة وبالمال إذا احتجت إليه. -وأنا جاهز للاثنين. يستند أحمد على كتف علي فجأة وكأنه هارباً من الوقوع على الأرض.. يقول علي : - أي خطب قد حل بك. - بيتها.. بيتها.. هاهو على يمينك.. يقف علي .. يدور نصف دائرة حول نفسه ليطيح بيد أحمد إلى جانبه.. يمسك أحمد من كتفه ويدفعه في نصف دائرة حتى كانا وجهاً لوجه يتأمله لبضع ثوان ثم يطلق ضحكة مدوية.. ضحكة تعجب فهاهو القدر يرسم لهما لقاء آخر.. لقاء سيعمد صداقتهما بصلة القربى.. يقول علي : - فهي بنت أختي إذن.. كل المشاعر تدفقت في شرايين أحمد.. مشاعر تمنى لو أنها نطقت بدل عنه.. الآن عجز أن ينطق ببنت شفه.. ليت للمشاعر شفتان. فُتح الباب أخيراً.. الباب الذي كان يُفتح حتى يتسع ليدها قد فتح الآن على مصراعيه.. تقفز رجله اليمنى فوق عتبة الباب السفلى ويدق رأسه على عتبة الباب العليا فقد نسى أن ينحني للباب فينحني لبلقيس.. يقول أحمد قولاً لم تخنه شجاعته لقوله.. شجاعة لم يستطع أن يكبح جماحها فشوقه إليها أعظم وأقوى من أن يرده راد: - الزفاف في أقرب فرصة.. يرد أبو بلقيس : - في أقرب فرصة بدون والدك.. يطرق أحمد هذه المرة (حياءً).. يقول : - بوالدي ووالدتي بطبيعة الحال.. يرد أبو بلقيس (مبتسماً) : - ومتى سيكونان هنا ؟ - سيكونان.. سيكونان هنا ( يطرق مفكراً).. يرفع رأسه مصحوباً بتنهيدة طويلة : - عندما أسافر إلى عتمة للصعود بهما إلى هنا ولن يكون ذلك إلا بعد ثمانية أشهر. - فبعد سنة إذن - أرجو أن تكون أقل من ذلك. - في أي وقت المهم أن تزورنا وتبلغنا قبل ميعاد الزفاف بشهرين حتى نستعد له. يقول أحمد لعلي وهما في طريق عودتهما : - بنت أختك ولم تكن تعرف. - كنت أعرف إلا أني قد تركتها مفاجأة لك.. ثم اسمع ياصديقي.. ألم تخف عني اسمها ومكان دارها. - وعدتها ان لا أبوح باسمها.. واسمها يعني أيضاً مكان دارها. - فهي واحدة بواحدة.. مفاجأة لي عندما عرفت من هو الخاطب من زوج أختي ومفاجأة لك عندما عرفت بأني خالها. - هاهي الخطبة قد أخرجته من فسحة الأمل التي كان يعيش تحت ظلها انتظاراً للقائها إلى الأمل كل الأمل إلا أن الخطبة قد أشعل في داخله نار لن تنطفئ إلا بلقائها.. نار الشوق إليها.. شوق لم يعد قادر أن يخفف من لهيبه بالمرور على شارع بيتها والوقوف متأملاً لحجاره ونوافذه لمخاطبتها والبوح لها.. أليست هي من تخفيها عنه.. بلقيس.. لم يعد قادراً على المرور بشارعها حتى لا يبوح بحبها.. مروره اليوم غير مروره بالأمس.. فليت الراتب كان رغيفاً وخطيبة.