أراد أحمد أن يكون أول مايشاهده يحيى في صنعاء جامع الفليحي والمنزلة وبيت بلقيس الأماكن الثلاثة التي قضى فيها معظم أيام إقامته في صنعاء وربما أيامه كلها قبل أن ينتقل للإقامة في بيته المستأجر.. هذا الجامع.. هذه المنزلة وهذا منزل بلقيس.. وقف هنية أمام المنزل يتأمله.. شعر بشيء ما.. شعور أنقبض له صدره.. شعر برغبة جامحة أن يندفع إلى الباب ليدق عليه ليبدد مافي صدره من انفعالات.. من انقباض.. يلكزه يحيى .. يقول : - ماذا جرى لك ؟ - لاشيء .. لاشيء.. اللهم أجعله خير.
يتكرر نفس الانقباض الذي الم به وهو يتطلع إلى بيت بلقيس.. يتكرر وهو يحتضن صديقه علي حين يدخل عليه بيته بعد أن ترك له خبراً عندما لم يجده في بيته.. يقول أحمد : - أخي يحيى.. يتبادلان التحية.. يواصل أحمد : - فهل تعرف لماذا رافقني إلى صنعاء .. يحدق علي إلى وجه أحمد بعينين حزينتين.. يطرق علي وكأنه قد أدرك ماذا يعنيه بسؤاله.. يقول أحمد : - طبعاً لن تعرف إجابة السؤال.. سأجيب على سؤالي .. يجيب بفرح.. فرحاً ينغصه ما بصدره من انقباض : - رافقني يحيى حتى يكون على علم بصنعاء عندما يعود إليها وآخرين لاصطحاب عروستي بلقيس إلى عتمة.. يفاجأ علي بما قاله أحمد.. يقول لا شعورياً : - وهل ستقيم بلقيس هناك ؟.. يرد أحمد باندفاع وكأنه يريد أن يطمئنه : - سأعود معها بعد أن نقضي بعض الوقت هناك. - تطورات مهمة حدثت أثناء غيابك.. يقاطعه أحمد قائلاً : - في كل مرة أغيب عن صنعاء تحدث تطورات مهمة.. ما علينا.. أسمع التطور الأهم.. الزفاف بعد شهر ونصف.. يرد أحمد متجاهلاً : - وصل إلى صنعاء الفضيل الورتلاني.. وصل إليها بعد ان ضاعف من حماس قادة حزب الأحرار وأعضائه بعدن وكذلك هز جامع الملك المظفر بتعز عندما خطب من على منبره وكذلك فعل بإب وهو الآن يلهب شباب وطلاب وعسكر صنعاء بسعير ثوري.. يقول يحيى : - من هو الفضيل هذا ؟ - جزائري - وما الذي أتى به إلى هنا ؟ - يقال بأنه أتى موفداً من البناء بمصر.. يقول أحمد (مبتسماً) : - إذن هم يريدون أن يجدوا لهم موضع قدم هنا. - لا لا أعتقد.. فخطبه تدل على أنه يريد الخير لليمن.. يقول يحيى : - وكيف سمحوا له بتحريض الناس ؟ - كلما حاولوا إخراجه من اليمن تدخل أحمد ولي العهد وحسين الكبسي وحالوا دون ذلك.. يقول أحمد : - نفهم تدخل الكبسي ولكن أن يتدخل ولي العهد فإني أشم من وراء ذلك رائحة ما؟ - أي رائحة - رائحة أرجو أن يكون قد جانب أنفي الصواب عند شمها.. يطرق أحمد هنية.. يقول : - تحت أي مبرر إقامته هنا. - التجارة.. فقد سمحوا له بإنشاء شركة تجارية وتحت مظلتها يقوم بنشاطه.. يقول أحمد : - مايحيرني دفاع ولي العهد عنه.. يقول علي : - المهم النتائج على أرض الواقع.. نتائج تنذر باقتراب موعد الثورة.. يقول أحمد : دعنا من النتائج الآن وقل لي مارأيك في موعد الزفاف.. يقول يحيى : - دعنا نسمع النتائج أولاً .. صبرك ياأخي فقد صبرت كثيراً.. يقول علي مبتهجاً فقد أسعده يحيى.. النتائج .. النتائج: 1- تمكن الفضيل والكبسي والمطاع من إثارة المخاوف بين عبدالله الوزير والإمام يحيى وأولاده.. أصبح الوزير يخاف من الإمام وأولاده والعكس وقد ساعدهم في إثارة تلك المخاوف.. حسين عبدالقادر عزيز يعني، الشامي والشماحي. 2- انضمام الرئيس جمال جميل إليهم وعقده للاجتماعات المتواصلة مع السلال، العمري، المروني وآخرين للتمهيد للثورة. 3- قيام عبدالله الوزير باستمالة عبدالله العمري وأنتم تعرفون من هو عبدالله العمري بعد اقتناع الوزير واستعداده للاشتراك في تفجير الثورة بل وفتح بيته لعقد الاجتماعات. 4- قيام الوزير والفضيل والكبسي بوضع خططهم والاتصال بالأحرار في إب وتعز وبالزبيري ونعمان في عدن عن طريق الرسائل والموافقة على اختيار الوزير إماماً. 5- إطلاق الأعيرة النارية من قبل الشباب.. العمري، المقبلي، العتمي، الشامي، المطاع وغيرهم ونشرهم للمنشورات التهديدية في ظروف تجمع بين المنشور ودسته من العيارات النارية.. يقول يحيى الذي شغله سؤال صرفه عن متابعة حديث علي: - هل يريدون إستبدال إمام بإمام؟ - الوضع الراهن يحتم ذلك ، فالقبائل لن تقتنع إلا إذا كان الحاكم إمام. - إي أن الثورة لن تنجح إلا إذا ساندها القبائل. بالطبع فليس هناك جيشاً يستطيع الأحرار أن يحموا ثورتهم بواسطته.. يتنهد أحمد.. يقول: - رمام محل إمام فلماذا لم يتم توعية القبائل. - الوقت ضيق والإمام يحيى وولي عهده يستشعرون ما يدور حولهم وقد ينقضوا على الأحرار في أي لحظة. - أي أن الأحرار يريدون أن يتغدوا بالإمام قبل أن يتعشى بهم. - تمام.. تمام ما قلت والأهم من كل ما سبق القيام بوضع دستور سمي بالميثاق المقدس وتشكيل حكومة ومجلس شورى من الأحرار وإرسال نسخة منها إلى عدن لطبعها استعداداً لإعلانهم عند قيام الثورة. - وكيف ستقوم الثورة ؟ - بموت الإمام وقتل ولي عهده.. يقول أحمد : - وحتى يموت الإمام فمتى سنذهب لوالد بلقيس لتسليم الشرط والاتفاق على موعد الزفاف.. يقول علي (مدارياً): - بعد كل ماقلته تذكر الزفاف وبلقيس.. يقول أحمد (منفعلاً): - هل نسيت كلامك بأن بلقيس جاهزة وما علي إلا أن أأمر.. يطرق علي .. لم يستطع أن يمنع دمعتين من أن تتدحرجا حتى بلغتا جانبي دقنه.. يندفع أحمد ويمسكه من كتفيه.. يهزه بعنف.. يقول : - هل حدث مكروه.. يسقط على ركبتيه.. يقول وقد استقبلت يداه وجهه : - لقد مات أبوبلقيس
- ضاقت صنعاء بأحمد.. يطوف بشوارعها هائماً حتى إذا وصل إلى شارعها يسير به ذهاباً وإياباً يريد أن يتفوه بها ولها.. سيل في صدره يكاد أن ينفجر به.. الرغيف.. الرغيف.. يسمعها من وراء الباب.. تقول : - كاد الرغيف أن يتناثر شظايا من كثر الانتظار فلماذا الانتظار؟ - ووالدك - قلت فلماذا الانتظار؟ - وأهلك - قلت فلماذا الانتظار دبر أمرك؟.. ينطلق أحمد راجعاً غير مصدق ماسمعه ليبحث عن خالها ولي أمرها.. ليس لها أعمام أو إخوة كبار.. يجده صدفة في مكان قريب من بيته واقفاً مع يحيى يتجاذبان أطراف.. يقول أحمد ( لاهثاً) : - قالت بلقيس بأن علي أن أتدبر أمري وأمري معك يا علي. - أمرنا جميعاً إلى الله..فماذا تريد؟ - وكأنك لا تعرف. - تريد الزفاف بعد شهر ونصف وتنسى ما ناضلنا من أجله طوال تلك السنين.. هل نسيت المنشورات ؟ - الزفاف والمنشورات فما المانع ؟.. ينظر إليه مشفقاً.. يقول : - فليكن.. الزفاف والتطوع. - التطوع.. التطوع.. ؟ - الانضمام إلى إحدى الخلايا للتدريب من أجل حماية الثورة بعد اندلاعها.. يقول يحيى وعينه على أخيه المحتار: - وأنا قد تطوعت.. الثورة أولاً .. الوطن أولاً.. السكن الكبير.. كلمات أعادت لأحمد وعيه الذي غيبه صدمة موت أبو بلقيس.. كانت الصدمة مفاجئة له.. صدمة بددت أحلامه التي حملها معه.. صدمة شعر بأنها قد حولته إلى شخص بدون ذاكرة ماعداها.. يقول أحمد وكأنه قد استيقظ من سبات عميق: - ستنتظرني بلقيس أما الثورة فلن تنتظر أحداً.. فهل ستنتظرني بنت أختك ؟ - نعم ستنتظرك.. - يريد أن يقول أحمد بأن رغيفه يكاد أن يتطاير شظايا من طول الانتظار إلا أنه كتمه خجلاً أو أنه أدرك اللحظة بأن الرغيف لن يتطاير إلا إذا تطايرت الثورة وستتطاير إذا تخاذلنا عن الدفاع عنها.
- لم ينشغل يحيى بأمر أخيه بقدر ما انشغل بما يدور حوله.. ماشاهده في عيون الناس وما سمعه من علي.. الأيام التي شغلت أحمد عما يدور حوله عدى بلقيس.. انشغل فيها يحيى بما يدور حوله.. قال يحيى لعلي : - دع أحمد.. يلزمه بعض الوقت ليثوب إلى رشده وخذني لحضور إحدى جلسات الفضيل.. لم يتردد علي في تلبية طلبه فقد أطمأن إليه ووجد فيه مالم يجده في أحمد.. شجاعة وذكاء غير ذكاء أحمد.. الذكاء الاجتماعي والحس القيادي.. لم يقل ليحيى لا لأنه لا يستطيع أن يقول له لا فشخصية يحيى أقوى من أن يقول له لا.. اللسان العربي وجده يحيى عند الفضيل... لسان صدر عنه كلمات شعر يحيى بأنها ما كان يبحث عنها في داخله.. كلمات كان يريد أن يقولها إلا أنه لم يجد لها مخرجاً أو منبعاً في داخله وهاهو يسمعها من هذا الجزائري.. ما أكثر الكلمات في قاموسنا وما أبلغ لغتنا حين يكون اللسان.. لسان يحركه عقل قد استوعب كل تلك الكلمات والجمل وهاهو الفضيل.. إلا أنه مالبث وأن رسم على وجهه ابتسامة ساخرة من هذا اللسان الذي هبط على اليمن فجأة من أجل أن يلهب في نفوس مدنها وأهلها سعير الثورة.. الثورة من أجل الحرية والدستور.. أهل مدنها فهل يعلم عن أهل قراها.. قبائلها.. يقول يحيى لعلي بعد أن انتهى الفضيل من حديثه : - حديث جميل لم أسمع بمثله أبداً ولكني أشعر بأنه قد صدر من لسان غير لساننا. - اللسان عربي ومسلم وهذا يكفي. - نعم.. نعم لكن لكل مجتمع من المجتمعات العربية ظروفه وعاداته.. يصمت علي .. يقول يحيى : - قلت بأنهم سينصبون إماماً بدل إمام لأن القبائل لن ترضى بغير ذلك. - نعم قلت - وهل هذه الحالة موجودة في الجزائر أو مصر ؟ - يصمت على هنية ثم يقول : - لقد صدقه وآمن به علماء اليمن وزعماؤه وتأتي أنت وتشكك به. - أخشى بأنه يدفعنا إلى ثورة في غير أوانها. - تقول هذا أنت.. أنت الذي لم تمض عليه إلا أيام قليلة منذ قدومك إلى هنا.. - نعم منذ أيام قليلة.. أتيت من القرية.. القرية المحتاجة لأن تسمع وتؤمن بما قاله الفضيل. - قلت لك بأن علماء اليمن وأحراره قد صدقوه.. فلماذا تريد وماذا تنوي عمله ؟.. أطرق يحيى مفكراً لبضع ثوان.. يرفع رأسه يقول : - لاخيار أمامي الآن إلا خيار الثورة فإن نجحت كان لي الشرف في أني كنت واحداً ممن دافعوا عنها وأن فشلت كان لي الشرف بأني كنت إلى جوار أحرار اليمن.. يقول يحيى لأخيه : - سيتطوع كل واحد منا في خليتين مختلفتين.. لم يحتاج أحمد لأن يشرح له قصده من أن يتطوع كل واحد في خلية فقد فهمها لوحده. - استطاع يحيى بقدراته الذهنية المتميزة وبذكائه الاجتماعي أن يكون بعد فترة قصيرة من تطوعه أحد العناصر المقربة من عبدالله الوزير إمام المستقبل وتشاء الصدف أن يكون أحمد متطوعاً في الخلية التي تتبع مباشرة الرئيس جمال جميل.