يعتبرني أهل مدينتي من القلائل الذين اختاروا التعليم عن حبّ و قناعة و اعتبروه رسالة و ليس لكسب قوت العيش فقط ، و هذه حقيقة جميلة في حياتي فقد كنت أحضّر الدرس لتلاميذي كما أحضّر وجبة شهية أعطيها من وقتي و جهدي و خبرتي. بل التعليم كان بالنّسبة لي فنّ من الفنون كالموسيقى مثلا فكنت أعرف كيف أعزف على نوتات نفسية كلّ تلميذ حتى أشدّه إلى الدرس و إلى المادّة التي كلّما أحبّها تفوّق فيها ، حتى أنّني صرت المدرّسة الظاهرة فأسوأ تلميذ يتحوّل عندي في الفصل إلى تلميذ مواظب و مجتهد . لكن هذا النّجاح في العمل لم أوفّق في جعله مكرّسا في حياتي الشخصية ابتداء من سوء اختيار الشريك إلى عجزي عن تحويله إلى إنسان سويّ بعدما أدمن على شرب الخمر الذي وجد فيه عزاء له عن خسارته الكبيرة في تجارته و صدمة أكبر في بعض أفراد عائلته و أصدقائه. أصبح رجلا لا يطاق ، بل أصبح على مشارف الجنون فكان لا بدّ لي أن أنسحب من حلبة صراع كان الخصم فيها قارورة خمر أصبحت هي السيّدة في البيت و أنا الشخص غير المرغوب فيه. و ككل امرأة حديثة العهد بالطلاق حاولت ترميم أجزاء من حياتي بملء الفراغ و تكريس الوقت الباقي في ما هو مفيد. فكّرت في نشاط أقوم به و لما لا يكون ضمن إحدى الجمعيات ، جلست إلى مفكّرتي أبحث عن أرقام صديقات لي ينشطن في المجال الجمعوي: جمعية مرضى الربو، جمعية المدينةالبيضاء، جمعية المرأة في سعادة، و استوقفتني التسمية الأخيرة “المرأة في سعادة” ..يااا سلااام هذا هو الاختيار الأمثل ، كيف لا و رئيسة الجمعية امرأة معروفة في المجتمع بوقارها و خبرتها في الحياة ، إنّها دكتورة في الطبّ البشري ، ابتعدت مؤخرا عن مجال الطبّ و تفرّغت للدفاع عن حقوق المرأة . كوّنت الرقم الهاتفي لأخذ موعد مع هذه السيّدة المميّزة الدكتورة سعاد و كم كانت فرحتي عندما أعطتني موعدا قريبا جدّا:- غدا على الساعة الثانية بعد الظهر. إنّه وقت مناسب جدّا فالصباح هو للمدرسة و التلاميذ و المساء هو للنّشاط الجمعوي ، فكرة جيّدة جدّا ، هكذا هي الحياة تأخذ منّا شيئا و تمنحنا فرصا للتعويض. حضّرت كالعادة الدرس بتركيز عال و بفنّ و حبّ ، الجديد هذه المرّة في حياتي هو أنّني دوّنت بعض الأفكار لعرضها على الدكتورة سعاد علّها تفيدها في نشاطها من أجل إسعاد المرأة . في ذلك اليوم أحسست أنّني قدّمت أحسن درس في حياتي ، و تجاوب التلاميذ كان كبيرا لذا وزّعت عليهم الحلوى و الشكولاطة تحفيزا لهم. ودّعتهم و عدت إلى البيت لتناول الغذاء و التحضير لموعد المساء و أنا أقول بيني و بين نفسي الحمد لله الذي أرشدني إلى هذه الفكرة و إلا كنت الآن قابعة في زاوية من البيت أندب حظي. لا أدري لماذا أحسست و أنا أقف أمام مقرّ الجمعية بتسارع في ضربات قلبي و كأنّي سأجتاز امتحانا مهمّا ، لكنّ إحدى السيّدات رحبت بي بحرارة عند المدخل ، قالت بأنّها تعرّفت عليّ و قد درّست ابنتها منذ سنوات و هي الآن تدرس الطبّ في الجامعة ، حديثها أثلج صدري و أذهب عنّي القلق . دخلنا المقرّ الجميل الذي عكس الذوق الرفيع للنساء اللّواتي ينشطن فيه ، كانت الدكتورة سعاد واقفة هنالك في مكتب أنيق تملي على السكرتيرة نصا تكتبه لا تريدها أن ترتكب فيه أخطاء ، لكن حضوري أنا و الأخرى جعلها تترك كلّ شيء لتستقبلنا بحرارة ، ربّما كانت ترى في انضمامي إلى جمعيتها مكسبا مهمّا ، الشيء الذي شجّعني على سحب الورقة التي دوّنت فيها أفكاري من محفظتي حتى أكون عملية و نبدأ في الانجازات بدون مقدّمات ، لم تترك لي الفرصة و هي تسألنا عن أحوالنا ، و راحت السيّدة الأخرى تسألها عن حالها هي و هل حلّت مشكلة ابنها . استغربت تلقائيتهما لذلك رأيت من اللائق أن أنسحب و أترك لهما المجال للحديث بحرّية ، لكنّ الدكتورة سعاد أصرّت على أن أبقى فالأمر ليس سرّا ، بالعكس لا بدّ من فضح هذه المرأة حتى تبتعد عن ابنها . سألتها من باب مؤازرتها في المشكل إن كانت هذه أكبر منه سنّا ، لكنّها أجابت بالنّفي : -عمرها عشرون سنة ، هي أصغر منه بخمس سنوات . فعدت لأسألها: - آه فهمت أكيد أنّ أخلاقها سيّئة. فجاءتني إجابتها:- إنّها مطلّقة ، مطلّقة أتفهمين ما معنى مطلّقة ، أفضّل الموت على أن يتزوّج ابني من امرأة مطلّقة. بلعت ريقي و قد أحسست بأنّ أشواكا نمت في جلدي ، تحوّلت إلى امرأة شوكية ، تيبّس لساني و تحجّرت عيناي ، لم يعد سمعي يستقبل ما كانت تقوله الدكتورة سعاد ، الشيء الوحيد الذي تأكّدت منه أنّني أخطأت الطريق إلى السعادة.