ارتبط بناء جامع معاذ بن جبل بذكرى دخول اليمنيين إلى الإسلام رغم ان بناءه تم في وقت لاحق , ولكن حب اليمنيين لله ورسوله وتعظيمهم لهذا الدين الذي كانوا من السابقين إليه دفعهم إلى العناية والاهتمام بهذا المسجد وتبجيل ذكرى تأسيسه تعبيرا عن عمق اعتزازهم بالإسلام وتاريخه المشرق , وفيما يلي نستعرض بعض الجوانب التاريخية المرتبطة بإسلام اليمنيين وبهذا المسجد الذي يجب الاعتناء به حفاظا على تاريخنا وتراثنا في الإسلام: استجابة لله ورسوله - قبل أن نستعرض التاريخ المرتبط بمسجد معاذ نحب ان نشير إلى خلفية تاريخية بسيطة عن دخول اليمنيين الإسلام واستجابتهم لله ورسوله في وقت مبكر بمجرد ان سمعوا عن الدعوى الجديدة , فقد صدح النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) في مكة بدعوة الإسلام ، في عام 613م للميلاد ، أي قبل بدء التاريخ الهجري الإسلامي باثني عشر عاما، ولا شك أن أصداء دعوة الإسلام وبسبب العنت الكبير الذي لاقاه رسول الله من قومه قريش قد وصلت فيما وصلت إلى اليمن والتي كانت في تلك الأثناء منقسمة بين قوى قبلية هي حمير وحضرموت وكندة وهمدان وبين حكم فارسي في صنعاء وعدن وما حولها وبين جيب في نجران للنفوذ الروماني الحبشي وهو الجيب الذي كان فيه نصارى نجران هناك. وقد بدأ أفراد من قبائل يمنية مختلفة كالأشاعر ودوس وهمدان والأزد يستجيبون لهذا الدين وينشطون للدعوة له ، لكن مجموع أهل اليمن دخل الإسلام بين العام السادس للهجرة وعام الوفود في السنة العاشرة، وبعد جهد دعوي سلمي في معظم جهات اليمن وهي مناطق حمير وكندة وحضرموت ومناطق الحكام من الفرس في صنعاء وآخر عسكري في الجهات الشمالية من تهامة وتلك التي يقطنها بدو غير مستقرين، وهم الذين وجهت إليهم سرايا لهدم صنم أو لقتال من بقي منهم على الشرك، ، وكللت تلك الجهود باستجابة أهل اليمن إلى الإسلام بدخول أهل اليمن في الإسلام يبدأ عصر جديد هو عصر الانتماء إلى أمة الإسلام التي وإن اعترفت بالحدود والقوميات إلا أنها تشمل جميع المسلمين حيثما وجدوا، وبهذا الانتماء كان لابد أن تكون هناك علاقة جديدة بالمدينة، مدينة الرسول التي أخذت فيها نواة الدولة الإسلامية تتبلور وتشكل عاصمة لديار الإسلام، فأرسل الرسول من قبله ولاة على بعض جهات اليمن وثبت بعض قياداتها القبلية على ما هي عليه وأعاد تنظيم الأوضاع القبلية برئاسات قديمة وجديدة وربط كل ذلك بالواجبات الإسلامية التي ينبغي أن تدفع إلى المدينة من قبل المسلمين وغير المسلمين، بعد أن قسم اليمن إداريا إلى مخاليف ثلاثة هي الجند وصنعاء وحضرموت، وأرسل إلى اليمن معاذ بن جبل الذي ابتنى جامع الجند. جولة معاذ - عندما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصحابي معاذ بن جبل إلى اليمن لدعوة الناس إلى عقيدة التوحيد نزل أولا مدينة صعدة وأمر أهلها ببناء مسجد ثم ودعهم متجها إلى صنعاء واجتمع بأهلها ثم توجه إلى الجند حيث بركت ناقته في المنطقة التي بنى فيها الجامع، لذلك يوصف الجامع بأنه ثاني مساجد اليمن بعد مسجد صعدة. وقيل إن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم أمر بعد عودته من غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة معاذ بن جبل بالتوجه إلى الجند ودعوة أهل اليمن إلى الإسلام وتفقيههم بأمور دينهم، وبناء المساجد وإقامة الصلاة لهم فتوجه معاذ إلى مكة حاجاً ومنها خرج إلى اليمن حيث وصل الجند في شهر جمادى الآخرة من السنة العاشرة، وكان كلما مر على منطقة دعا أهلها إلى الإسلام وأسس لهم مسجداً للصلاة، لذلك تنسب إليه ستة مساجد في اليمن في مناطق نجران، صعدة القديمة، صنعاء، ذمار، إب وأخيرا مسجد الجند ولهذا السبب استغرقت رحلته من مكة إلى الجند حوالي خمسة أشهر.وقد مكث الصحابي الجليل معاذ بن جبل يجوب بلاد اليمن ثلاثة عشر شهراً ثم عاد واستقر في مكانه الأول الجند حتى تولى أبوبكر الصديق رضي الله عنه أمر الخلافة فانتقل معاذ إلى الحجاز.وتشير المصادر التاريخية إلى أن معاذ بن جبل اجتمع ببني الأسود الذين كان لهم رياسة الجند في أول جمعة من رجب فوعظهم وصلى بهم فكانت أول جمعة تقام في اليمن فاتخذها الناس منذ ذلك اليوم عيداَ يقام كل سنة في أول جمعة من رجب. رسائل - حينما أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم ) الصحابي الجليل معاذ بن جبل إلى اليمن بعث أيضا برسائل إلى زعماء واقيال اليمن ومنها رسالة حملها معاذ إلى زرعة بن ذي يزن , وقد شرفتني الصدفة بالاطلاع عليها وتصويرها , واجد انه من المناسب الإشارة إليها والتعريف بجوانب تاريخية يجهلها الكثيرون منا , فقبل فترة من شروعي في إجراء هذا الاستطلاع اخبرني احد مشائخ الصوفية ان لديه رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم )إلى زرعة والتي بعث بها مع معاذ , ولم اهتم بكلامه كثيرا فانا أصلا لم أكن قد سمعت عن زرعة بن ذي يزن كونه غير مشهور كوالده سيف ولم يرد اسمه في كتب التاريخ التي درسناها , وفي هذه المناسبة صادفت هذا الشيخ فتذكرت موضوع الرسالة وذكرته بها وبرغبتي في معرفة ونشر قصتها ومن يكون زرعة هذا , وبعد تواصل وأكثر من اتصال لاحق أجريته معه أطلعني عليها وسمح بتصويرها طالبا التحفظ على ذكر اسمه او الإشارة إليه فهو محتفظ بها للتبرك بها وقد توارثها أبا عن جد حسب قوله , ما يهمنا هو ان نعرض نصها ونعرف زرعة الذي وبالعودة إلى المراجع التاريخية وكتب السيرة وجدنا انه احد اقيال اليمن ومن مشاهير ملوك اليمن ويتصل نسبه إلى سيف بن ذي يزن ,وهو من الذين كتب إليهم النبي (ص) بعد ان أرسل إليه زرعة يخبره بإسلامه فقد ذكر ابن هشام في كتاب السيرة النبوية ان زرعة أرسل بوفد إلى الرسول(ص)يخبره بإسلامه وإسلام قومه فبعث إليه النبي(ص) برسالة مع معاذ وذكر نصها وجاء فيها (من محمد رسول الله إلى زرعة بن ذي يزن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل ، وعبدالله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرة ، وأصحابهم ، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا والسلام.) وورد هذا النص في الرسالة التي اطلعنا عليها وتتطابق مع ما ورد في كتب السيرة والتاريخ التي ذكرت ان النبي (ص) أرسل أيضا برسائل أخرى لاقيال اليمن ومنهم الحارث بن عبد كلال، وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر . جامع معاذ - يعد جامع الجند من أقدم الجوامع في التاريخ الإسلامي، وهو واحد من ستة مساجد بناها الصحابي معاذ في اليمن ولا يزال قائما حتى اليوم حاملا بعضا من معالم بنائه الأول.وتكمن أهميته في أن الرسول الأكرم سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم) هو من أمر ببنائه وحدد مكانه كما أنه يعد ثالث مسجد أسس على التقوى في العالم الإسلامي بعد المسجد النبوي بالمدينةالمنورة وجامع صنعاء الكبير في كتب السيرة فإن الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم اختار موقع بنائه حيث أمر معاذاً بأن يبني المسجد في الجند بين السكاسك والسكون قائلاً له “يا معاذ انطلق حتى تأتي الجند فحيثما بركت هذه الناقة فأذن وصل وابتن مسجداً”.ويقول خبراء الآثار الإسلامية إن تأسيس مسجد الجند التاريخي بتعز كان مكملا لدور مسجد صنعاء المؤسس في السنة السادسة للهجرة وقد انتهى الصحابي معاذ بن جبل من بنائه في شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة وصلى بالناس أول جمعة ما جعل لهذه المناسبة مكانة خاصة لدى اليمنيين. عمليات تجديد المسجد - كان المسجد الذي بناه الصحابي معاذ بن جبل رضي الله عنه صغير الحجم غير أنه لم يبق من مساحة المسجد الأولى شيء سوى موقع محراب معاذ الأول والذي يقع إلى الشرق من المحراب الحالي. وبعد بناء الجامع بقرون شهد الجامع عدة مراحل لتجديده حيث تم تجديده في عهد الملكة الصليحية السيدة بنت أحمد 480-532ه، على يد وزيرها المفضل بن أبي البركات أواخر القرن الخامس الهجري واشتمل التجديد على بناء الجامع بالحجارة المنقوشة والآجر المربع، وتسقيفه وتذهيبه، وإجراء الماء إليه من عين تقع في وادي خنوة شمال غرب الجند بواسطة ساقية ذات عقود مقنطرة.كما جدد الأيوبيون الجامع أربع مرات الأولى قام بها نواب توران شاه بن أيوب (571-576ه) إذ كان الجامع قبل استيلاء الأيوبيين على اليمن سنة 569 هجرية قد أحرق سنة 558 هجرية والمدينة على يد مهدي بن علي بن مهدي ثاني ملوك دولة بني مهدي،حتى عودته إلى مصر سنة 571ه، بعد أن عهد إلى نوابه على اليمن ببناء ما تحتاج إليه البلاد، ومن ذلك قيام نائبه على تعز ياقوت التعزي أو مظفر الدين قايماز بتجديد الجامع وقد انتهى ذلك التجديد سنة 575ه كما هو مذكور على جدران الجامع. وتجدد الجامع في عهد طغتكين بن أيوب 579-593 هجرية أخ صلاح الدين الأيوبي الذي أتى إلى اليمن لتثبيت الاستقرار وفي تلك الفترة قام ببناء مدينة جديدة شمال الجند سماها المنصورة وكذلك قام بتجديد جامع الجند واشتمل التجديد على زيادة سمك جدران الجامع بقوالب الآجر، ورفع السقف على أعمدة من الآجر المكسوة بالجص، وتزيين زخارف السقف بالذهب واللازورد، وكذلك عمل منبراً للجامع سنة 588 هجرية كما هو مذكور على المنبر. وجدد سلاطين الدولة الرسولية جامع الجند مرتين: أولاهما في عهد السلطان الأشرف إسماعيل الثاني 778-803ه الذي أمر بتجديد الجامع وتسوير المدينة سنة 793ه، وثانيتهما في عهد السلطان الظاهر يحيى بن الأشرف 830-842 ه حيث تذكر المصادر أنه جدد المئذنة الشرقية بعد سقوطها، وإن لم تحدد المصادر سنة التجديد. وتم تجديد الجامع أيضاً في عهد الطاهريين حيث قام آخر سلاطين الدولة الطاهرية السلطان الظافر عامر ابن عبد الوهاب بتجديد المئذنة الغربية وجدد الجامع في القرن الماضي مرتين كانت الأولى في عهد الإمام يحيى حميد الدين أثناء حكم ولي عهده سيف الإسلام أحمد لمدينة تعز، وفي العصر الجمهوري استكملت كسوة بقية الواجهات وكذلك استبدل السقف الخشبي بسقف إسمنتي على نفقة الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز. الجامع من الداخل - جامع الجند العتيق شأنه شأن مساجد اليمن الأولى لم يبق من عمارته الأصلية إلا الرقعة الصغيرة التي كان يشغلها المسجد عندما بناه الصحابي معاذ بن جبل والتي أدخلت في مساحته الحالية، والجامع حاليا مستطيل الشكل طوله من الخارج (5.65م) وعرضه (43 م) حيث يشغل الجامع اليوم مساحة مستطيلة(حوالي 4365 مترا مربعا) ويتكون تخطيطه من صحن أوسط مكشوف يتوسطه عمود مربع بارتفاع مترين كان يستخدم كمزولة لتحديد أوقات الصلاة , ويحيط بالصحن المكشوف أربع ظلات للصلاة، أعمقها ظلة القبلة، وتطل هذه الظلات على الصحن ببائكات تتوجها بأعلى الجدران شرافات مسننة متجاورة تشابه ما كان سائدا في عمارة المماليك في مصر والشام. وتبلغ مساحة ظلة القبلة حوالي 1542 من الأمتار المربعة، وهي تتألف من أربعة أروقة بواسطة أربع بائكات بكل منها أعمدة مستديرة تقوم على قواعد مربعة، وتحمل هذه الأعمدة عقوداً مدببة، وبهذه الظلة ما يشبه المجاز القاطع الذي تسير عقوده باتجاه عمودي على جدار القبلة. ويؤدي المجاز القاطع إلى محراب الجامع الذي يتوسط جدار القبلة وهو من النوع المجوف ويعلوه عقد مدبب محمول على عمودين ويحيط بطاقية المحراب عقد آخر. ويمتاز المحراب بنقوشه التي تحوي آيات من القرآن الكريم والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى نص تأسيس يمتد علي جانبي المحراب، ونصه «فرغ من عمل هذا المحراب المعبد الفقير إلى رحمة الله عبد الله بن أبي الفتوح في شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، صلى الله على محمد وآله ورضي عن الصحابة أجمعين». وإلى الشرق من هذا المحراب يوجد محراب آخر أقدم منه وينسب إلى معاذ بن جبل، وقد جاء خاليا من الزخارف والكتابات على خلاف سابقه. وبرواق القبلة منبر خشبي قديم يعود إلى نهاية القرن السادس الهجري (12م)طبقاً للكتابات المسجلة عليه وهي تحوي اسم النجار «النظام بن حسين» واسم الأمير الذي أمر بعمله وهو الحسن بن علي بن حسن العنسي.. وتشغل المئذنة جزءاً من الزاوية الجنوبية الغربية وهي تتكون من جزء سفلي اسطواني يعلوه شكل مثمن فوقه شكل مسدس ويتوج المئذنة من أعلى قبة ويبرز إلى جانب المئذنة لوح من الحجر كتب عليه اسم السلطان عامر بن عبد الوهاب، بالإضافة إلى ألواح أخرى سجلت عليها التجديدات المتلاحقة التي جرت على هذا الجامع عبر الحقب التاريخية المختلفة. وللمسجد أربع زيادات مكشوفة تحيط به من الخارج، وقد شغل الركن الجنوبي الشرقي من الزيادة الشرقية بميضأة مكونة من بركة للمياه مستطيلة الشكل تمتد من الشمال إلى الجنوب، يشغل ضلعها الشرقي أحد عشر حماماً مغطاة بقباب صغيرة، فيما يشغل كلاً من الضلعين الشمالي والجنوبي حمامان مماثلان، وفي الضلع الغربي للبركة خمس حجرات صغيرة مكشوفة وعدد من المقاعد الحجرية الدائرية للجلوس عليها أثناء الوضوء.