عجز الأمم المتحدة في قضية محمد قحطان.. وصفة فشل لاتفاق السلام    عاجل: نجاة أمين مجلس شبوة المحلي ومقتل نجله وشخصان آخران (صور)    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    مصدر برلماني: تقرير المبيدات لم يرتق إلى مستوى النقاشات التي دارت في مجلس النواب    عاجل.. إن بي سي: الإعلان عن وفاة الرئيس الإيراني وعدد من المسؤولين بسقوط المروحية خلال ساعات    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    - البرلماني حاشد يتحدث عن قطع جوازه في نصف ساعة وحرارة استقبال النائب العزي وسيارة الوزير هشام    قيادات الدولة تُعزي رئيس برلمانية الإصلاح النائب عبدالرزاق الهجري في وفاة والده    تعز.. وقفة احتجاجية لأمهات المختطفين للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهن من سجون المليشيا    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    وفاة وإصابة عشرة أشخاص من أسرة واحدة بحادث مروري بمأرب    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    خسائر في صفوف قوات العمالقة عقب هجوم حوثي مباغت في مارب.. واندلاع اشتباكات شرسة    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    صحيفة إماراتية تكشف عن "مؤامرة خبيثة" لضرب قبائل طوق صنعاء    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قات.. ودخان
المرضى الذين علموني
نشر في الجمهورية يوم 28 - 06 - 2010

الحملة ضد التدخين أصبحت عالمية في مستواها وحدودها، وتقودها منظمة حماية البيئة الأمريكية التي تتمتع بنفوذ هائل مع مجموعة كبيرة من الجمعيات الخاصة بالمحافظة على البيئة وحركات الخضر وجمعيات متخصصة في مكافحة التدخين وحده، وتبذل من الجهود والوقت والمال بلا حدود.
لقد أصبح لهذه المنظمات تأثير هائل على الكونجرس الأمريكي والبرلمانات الأوروبية التي أصبحت تصدر التشريعات والقوانين، والتي تصبح سياسة نافذة للحكومات الغربية لتنفيذها على مستوى العالم كله، وتضغط على حكومات الدول الفقيرة لتبني نفس سياساتها ضد التدخين.
وقد زاد الأمر عن حده حتى كادت الحملة ضد التدخين أن تتحول إلى حملة صليبية لاضطهاد المدخنين، والحد من حرياتهم الشخصية، وقسرهم على الالتزام بالسلوك القويم الذي تفرضه الجمعيات البيئية من كل لون وشكل.
وقد تبنت الحكومة الأمريكية عن طريق سفاراتها الضغط على الدول الأخرى من دول العالم الثالث الفقيرة وبلادنا واحدة منها - لإصدار تشريعات وقوانين لمعاقبة المواطنين الذين يدخنون في الأماكن العامة بالغرامة والحبس، وكان جميع مشاكل هذه الدول واحتياجات مواطنيها قد تم توفيرها من المياه النقية، والغذاء، والكساء، والمساكن النظيفة، والصرف الصحي، والرعاية الطبية الكريمة، والتعليم، والقضاء على جميع الأوبئة والأمراض السارية والمتوطنة، ولم يعد هناك أي أخطار أو مخاوف تهدد صحة وحياة الناس في هذه المجتمعات الفقيرة سوى التدخين.
ولعل من حسن حظ مواطني هذه الدول الفقيرة، أن القوانين بالحبس والغرامة التي تصدرها حكوماتها خضوعاً للضغوط الغربية، غير قابلة للتنفيذ، لأنها لو حاولت بالفعل تنفيذها لاحتاجت إلى جيوش كاملة من الشرطة المتفرغة بشكل كامل لتنفيذ حظر التدخين، ولتخلت قوى الشرطة والأمن عن أداء واجباتها الأساسية في توفير الحماية والأمن للمواطنين.
والأطباء جزء من المجتمع، وجزء من الحملة ضد التدخين، وهو أمر مفهوم، وربما يكون معقولاً ومقبولاً على المستوى العام، ومن الناحية المبدئية والعامة. لكننا عندما نصل إلى المستوى الخاص في التعامل مع كل مريض على حدة، بصفته الشخصية وطبيعته وسلوكياته ورغباته وآرائه، فإن التطبيق الأعمى لنصائح الحملة ضد التدخين، والانجرار وراءها يجعل الطبيب في وضع من السذاجة قد ينزل به إلى محل من الاستهزاء والسخرية الخفية التي لا تليق بمكانة الطبيب وعلمه وخبرته.
وعندما يكون المريض على درجة عالية من الاختطار للإصابة بالأمراض التي يعتبر التدخين واحداً من العوامل المؤهبة لها، فإن من واجب الطبيب أن يبين لذلك المريض درجة الاختطار، وأن ينصحه بحزم بضرورة الامتناع عن التدخين، وأن يشجعه بكافة الوسائل، وأن يعيد النصائح والتأكيدات، مع علمه بأن قدرته على التأثير والإقناع هي الأساس في ذلك كله، ولكن الطبيب لا يمتلك السلطة الحقيقية التي يستطيع بها تغيير سلوكيات المريض وعاداته، كما أن ذلك قطعاً ليس واحداً من واجباته الأخلاقية والمهنية نحو المريض.
أما عندما يكون المريض متمتعاً بالصحة الجيدة، وليس لديه عوامل اختطار كبيرة للإصابة بالأمراض التي يعتبر التدخين واحداً من العوامل المؤهبة لها، فإن مثل هذا المريض حر في اختياراته وفي تقرير ما يريده، وما يرغب فيه، وخاصة عندما يحضر لأسباب بسيطة لا علاقة لها بالتدخين، وهنا فإن إقحام التدخين في الموضوع تزيد ليس له مبرر، وخاصة إذا كان المريض يعتبر التدخين والقات متعته الوحيدة في حياته والجائزة الوحيدة التي تحقق له ساعات من الراحة والبعد عن الإجهاد البدني والنفسي ويسبب له شعوراً بالهدوء وراحة البال.
وفي العادة فإن القات والتدخين لا يسبب مشكلة في التعامل بين المريض والطبيب عندما يكون المريض رجلاً راشداً، حتى لو كان الامتناع عن التدخين ضرورة أساسية لازمة لصحة المريض، فالطبيب في مثل هذه الحالات ينصح ويشجع ويحفز المريض للامتناع عن التدخين، ويشرح له المزايا والفوائد، ويحاول إقناعه بكل سبيل، ويستجيب كثير من المرضى، ولا يستجيب آخرون، والأمر أولاً وأخيراً بيد المريض، والطبيب على كل حال قام بما عليه من واجب النصح والتوجيه والإرشاد.
ولكن المشكلة التي نواجهها في هذه الحالة هي من الأهل والأقارب الذين يريدون أن يفرضوا رغباتهم على المريض، ويريدونها أن تصدر عنك مباشرة فيتخذونها حجة لإشهار سيفها عليه وحرمانه منها قسراً أو طوعاً بحسب الظروف استناداً إلى أوامر السلطة الطبية المتفوقة.

دخل مكتبي يوماً رجل يقترب من الخامسة والأربعين من عمره، ليخبرني بأن والده سوف يدخل إلي بعد قليل، وهو يريدني أن أمنعه بشكل كامل من السيجارة والقات، ولكن بدون أن أخبره بأنه قد قال لي شيئاً، وأن أفعل ذلك بطريقتي الخاصة، ووعدته أنني سوف أفعل ما يجب عليَّ عمله.
وبعد قليل دخل إليَّ المريض مع اثنين من أبنائه، كان أحدهما الابن الأكبر، وهو الذي طلب مني أن أمنع والده من القات والتدخين، وكان المريض قد تجاوز الثمانين من عمره، وتبدو عليه مظاهر الصحة الجيدة بالنسبة لعمره، وكانت شكاواه بسيطة وغير محددة مثل آلام في المفاصل والظهر، وبعض أعراض عسر الهضم، وسألته عن التدخين والقات فقال أنه يتناول القات يومياً، ويدخن علبة أو علبتين من السجائر منذ أن عرف نفسه، أي منذ شبابه الباكر.
أجريت له الفحص الحكمي العام، والتحليلات الطبية، والأشعة الصدرية، والكشف بالأمواج الصوتية، وتخطيط القلب الكهربائي، وكانت جميعها ممتازة، وعندما أبلغتهم بالنتائج أخذ أحد أبنائه، وهو واقف بعيداً يشير إليَّ بيديه وأصابعه وهو يضع السبابة والإبهام على شفتيه، ويكور يده الأخرى ويضعها على وجنته، ويرفع حواجبه ويشير بيديه الاثنتين، وهو يذكرني بموضوع السجائر والقات.
وأحسست بالحرج قليلاً، فلم يكن هناك شيء محدد يمكن أن اتخذ منه حجة لمنعه من التدخين بحزم وصرامة مثلما يطلب أبناؤه، وخاصة أن الرجل يتمتع إلى جانب الصحة الجيدة بشخصية قوية وذهن حاضر وذكاء ملحوظ.
فقلت له متردداً، وأنا أحاول قياس رد فعله: “باقي موضوع واحد يا حاج علي.. موضوع التدخين والقات.. ما رأيك لو توقفت عنهما حتى تحافظ على هذه النعمة من الصحة الجيدة إن شاء الله”.
قهقه الرجل ضاحكاً بصوت عال، وقبل أن تتلاشى ضحكته قال: “أنا عارف أن الأولاد قد قالوا لك تمنعني من القات والدخان.. مالك منهم!... يشتوا يمشوني على كيفهم.. أنا لن أتوقف عن التدخين والقات حتى أموت..!” وعاد يضحك من جديد، ووجهه ممتلئ بشراً وحبوراً وسعادة.
وجاريته في ضحكه قليلاً، وأنا أقول له: “يعني هذا قرار نهائي ولن تتراجع عنه أبداً”، واستمر في الضحك، وهو يهز رأسه، موافقاً على استنتاجي، فقلت له: “أنا أقدر رأيك واحترم قراراك.. وأضرب لك تعظيم سلام”, والتفت نحو ولديه وأنا أقول لهما: “دعوا والدكما وشأنه.. دعوه يستمتع بحياته بالطريقة التي يريدها.. وأتمنى عندما تصلون إلى مثل عمره، أن يكون لكم من الصحة وقوة التفكير والقدرة على اتخاذ القرار بمثل هذه القوة.. والاحتفاظ بقليل مما يتمتع به من المرح والقدرة على الضحك والاستمتاع بالحياة”.
لم يكن الأبناء مقتنعين بما حدث، فقد أحسوا بالخذلان والهزيمة، بينما كان والدهم المسن يسير أمامهما منتصراً، وودعت الجميع بالقرب من الباب ونشوة انتصاره تملأ نفسي وتعبق في أجواء الغرفة.

لدي مريضة تتردد علي منذ زمن طويل بأعراض مختلفة بسيطة، ودائماً يصاحبها زوجها وبعض أبنائها أو بناتها، وذات مرة منذ عدة سنوات بعد أن أنهيت الكشف عليه، وجدت زوجها الذي كان صامتاً طوال الوقت، ينفجر بلهجة غاضبة وهو متجهم الوجه، “المشكلة يا دكتور أنني قد تعبت معها من موضوع القات والمداعة.. تبدأ القات والمداع بعد العشاء وتستمر إلى قرب الفجر.. هذا تعب عليها وإنهاك لصحتها. ونصحتها مراراً وتزاعلنا وهي لا تريد أن تسمع شيئاً.. تصدق يا دكتور أني أنا من الباطل حقها.. بطلت القات نهائياً.. وأشتيك تنصحها الآن قدامها.. ولا تقول لي أنا غلطان..!”.
نظرت إليها وقد أصبت بالحرج فكلامه معقول، ولكن يبدو أن للمشكلة جذوراً بعيدة ولا أريد أن انحاز نحو طرف في خلاف بين زوجين، ولم أجد شيئاً أقوله والأفكار تتقاذف في ذهني حول التصرف الصحيح، ولكنها انتشلتني من حيرتي وقالت ببرود شديد:
“مالك منه.. ما معه إلا هذا الكلام.. أني أخزِّن وأشرب بوري وإلا اثنين وارتاح وأهدأ.. وأنام.. وكل شيء تمام.. قدُه ما معي إلا الورقتين “تقصد القات” والبوري اللي يريحني قليل.. والا ما شيبقى لنا في الدنيا إلا التعب والنكد والغلايب!!..”.
نظر الرجل نحوي وقد ازداد تجهمه وغضبه وهو يقول لي بنبرة عالية:
“هيا شفت يا دكتور.. هذا الكلام دائماً.. لا تسمع ولا تعقل ولا تفكر.. أنا ذلحين محتكم لرأيك.. واللي تقول لازم يمشي علينا كلنا!”.
تخلصت من الموقف بلباقة، وتكلمت كثيراً وحاولت تهدئته، وأقول له أنها عندما تقتنع في داخل نفسها فسوف تفعل ما يريده، ولا يجوز أن يتحول هذا الأمر إلى مشكلة بينهما، وعلى الرغم من أنني حاولت أن أقف موقفاً محايداً بينهما لكنني فيما ظهر لي لاحقاً لم أقدر على الحياد، أو على الأقل فإن الرجل قد اعتبر كلامي انحيازاً لرأيها ضده، ويبدو أن شعوره كان صحيحاً.
ظلت المرأة ولا تزال حتى اليوم تتردد علي كلما تواجهها مشكلة صحية، وعادة كل عدة شهور أو سنة، ولكن زوجها لم يصاحبها مرة واحدة في الدخول إلي بعد ذلك فقد كان يوصلها إلى العيادة مع أحد أبنائها أو بناتها، ثم يعود لأخذهما بعد الانتهاء من الكشف والمعاينة.
وسألتها مرة لماذا لم يعد يرافقها، فأجابت بخفة واستهانة: “مالك منُه.. مكانه دائماً يعمل مشاكل على القات والمداع.. ويقول إني ما أجي لك إلا لأنك لا تمنعني منها.. وقد قلت له عشرين مرة وأكثر حتى لو كل الدكاترة منعوني منها.. ما بامتنعش..!!”.

ولكن هناك فئة أخرى من المرافقين الذين يريدون منع أقاربهم من التدخين، لا يحاولون إقامة مؤامرة خفية معي ضد المريض أو يشتكون ويضعون القضية بين يدي، بل ينتظرون لحظة معينة في الحديث، ثم يقتحمون المحادثة، وقد تولوا الأمر بأنفسهم وأخذوا يتحدثون باسم الطبيب مباشرة: “أنت لازم تمتنعي من التدخين والقات.. هذا هو الأمر المهم.. هذا هو الكلام اللي يقوله الدكتور لك لازم تفهمي”.
ينتظر لكي يسمع مني رأياً أو تعليقاً، فلا يسمع مني شيئاً، فيعيد الكرة بمنع المريضة من القات والتدخين، ثم يستدير نحوي قائلاً: “ مش هذا رأيك يا دكتور، مش هذا كلامك ونصيحتك.. والا..لا؟!!.
ومن باب الالتزام بواجبات الأمانة المهنية اضطر إلى القول، وأنا أوجه الكلام نحوهما معاً: “لا.. لا.. أنا لم أقل شيئاً من هذا الكلام أبداً.. المريضة ليست لديها عوامل مؤهبة تجعل منع القات والدخان حاسماًًًً وضرورياً في الوقت الحاضر.. لكن كلامك بوجه عام صحيح.. وينطبق على كل الناس الذين يخزنون ويدخنون.. ونحن الأطباء نريد من الجميع أن يتوقفوا عن التخزين والتدخين.. ولكننا لا نستطيع أن نمنع الناس من ذلك قسراً وخاصة الأصحاء منهم.. وهي من جملة الناس، فإذا قدرت أنها تريد الامتناع.. فذلك أفضل لها.. مثلما هو أفضل لجميع الناس!”.
وهكذا أترك الأمر معلقاً دون أن أتورط بنصيحة مرفوضة غير قابلة للتنفيذ، وقد تجعلني في موقف السخرية والاستهزاء، حيث انقدت لرغبات المرافق ونفذت مشيئته دون أن أتكفل بعناء الاهتمام برأي المريضة، أو وجهة نظرها أو رغباتها وإرادتها”.
سألني أحدهم مرة، بعد انتهائي من معاينة زوجته من وعكة هضمية بسيطة طارئة: “ألا تظن أن السبب في مرضها هو القات.. يا دكتور؟”، لم أرفع عيني عن الرشدة التي كنت أكتبها، وأجبته ببساطة: “لا..لا.. ليس أي علاقة”، فوجه الرجل حديثه نحو زوجته مباشرة وهو يقول: “هيا سمعتي..! القات هو سبب مرضك!.. أنت لازم تبطلي القات نهائياً...!”.

وكان لدي مريض في الخامسة والستين من عمره ولديه حالة متقدمة من انسداد الطرق التنفسية المزمن، الذي يحدث لدى بعض المدخنين ويصيبهم بقصور التنفس وازرقاق الدم، ويصبح أقل مجهود يسبب لهم صعوبات شديدة في التنفس، مع السعال وإخراج كميات كبيرة من البصاق المتقيح.
وكان مريضي هذا أرملاً يعيش في منزل إحدى بناته المتزوجات، وهي التي تقدم له العناية والرعاية، وتشرف على جميع شئونه، وكانت حالة القصور التنفسي لدى المريض متدهورة جداً وكنت أقدر أنه لن يعيش طويلاً، وأن حالته قد تزداد سوءاً في أي وقت.
أحضرته ابنته يوماً إلى عيادتي، تساعدها ابنة شابة لها، وكانت غاضبة عليه وثائرة بشكل كبير، وتقول أنها تتعب معه وتقوم بكل الجهود لتحافظ على صحته، وتوفير الأدوية والعلاجات وتعطيها له بنفسها في مواعيدها، ولكنها اكتشفت في اليوم السابق أنه يدخن سيجارة، وأنه يخفي علبة كاملة من السجائر تحت فراشه، وأن تصرفه بهذا الشكل غير المسئول أمر لا يمكنها احتماله، وخاصة أنه قد تعاين لدى عشرات الأطباء، وكلهم يجمعون على قرار واحد، وهو ضرورة امتناعه الكامل عن التدخين، وكنت أنا آخر الأطباء الذين أكدوا هذا الأمر، وأنها قد أحضرته إلي ذلك اليوم لكي أتصرف معه بما يجب، لأنها قد زهقت وتعبت من كثرة وعوده بالانقطاع عن التدخين، وكل مرة تكتشف أنه قد عاد إلى التدخين.
وكنت أثناء حديثها الغاضب انقل بصري بينها وبين والدها المريض وهو جالس باستكانة واستسلام، وفي حالة من الإذلال والشعور بالذنب كطفل صغير ضبط وهو يسرق شيئاً، أو أنه قد أساء الأدب، وخرج عن حدود السلوك القويم.
وما أن انتهت من حديثها حتى أجهش الرجل بالبكاء، وأخذت دموعه الغزيرة تجري على وجنتيه، وهو يحاول أن يخفي وجهه بيديه، ولا يقدر أن يرفع عينيه للنظر نحوي أو نحو ابنته، وامتلأت مشاعري بالغيظ والغضب والحنق، وتعاطفت مع الرجل بشدة، وأحسست كأنني في مكانه، وأنني أنا الذي أتعرض للتقريع واللوم والتعنيف، وانفجر غضبي بالنيابة عنه، وبشكل لم أتمكن فيه من المحافظة على مشاعري، وإبعادها عن الموقف، كما تمليه عليه واجباتي المهنية الطبية والأخلاقية.
قلت لها: “يا شيخة كفاية.. كفاية حرام عليك.. هذا والدك الذي أنجبك ورعاك ورباك وأنت الآن تتعاملين معه كطفل صغير مذنب.. وتأتي به مجروراً إلي مثل مجرم ارتكب ذنباً لا يغتفر.. حرام عليك.. ما الذي كان سيضرك عندما اكتشفت أنه يدخن سيجارة أن تتجاهلي الأمر.. وأن تتظاهري بأنك لم تري شيئاً ولم تسمعي شيئاً.. هل السيجارة سوف تقتله؟.. أبداً.. إن ما سيقتله بالفعل هو هذا الشعور بالإهانة والإذلال والقهر.. وهو أشد فتكاً من أي عدد من السجائر يدخنها سراً أو علناً..!.
ذهلت المرأة مما كنت أقوله ومن شدة غضبي وفيض مشاعري وتعاطفي الشديد مع والدها، فقد كانت تتوقع مثل هذا التوبيخ أن يكون موجهاً نحو والدها المريض وليس نحوها هي التي تحبه وترعاه.
ثم طيبت خاطر الرجل بكلمتين، وقلت له أن ابنته تفعل ذلك بدافع المحبة والتقدير، وتعبيراً عن قدر عظيم من الاهتمام به وبحياته وبصحته، ولا تقصد أن تسبب له الأذى أو الإساءة.
وبعد خروج الأب من مكتبي طلبت من ابنته البقاء، وشرحت لها أن التوقف الكامل عن التدخين أمر صحيح طبياً وعلمياً، ولو كان قد حدث عند بداية مرضه قبل ثمان أو عشر سنوات، لتوقف المرض عن التدهور من سيئ إلى أسوأ خلال هذه السنوات، أما الآن في المرحلة الأخيرة من المرض، فنحن كذلك نصمم على منعه من التدخين، ولكن ليس بناءً على قسره وإجباره وإخضاعه بالقهر والإذلال، حتى لو كان دافعنا إلى ذلك هو الحب والاهتمام.
وكانت تهز رأسها باستمرار أثناء حديثي معها، وتبدي اهتمامها بكل كلمة وكأنها تريد أن يتسرب حديثي إلى أعماق نفسها، وقبل خروجها لم تستطع أن تمنع بعض الدموع التي اغرورقت في عينيها من الانسياب على الخدين.

كانت مريضتي تقترب من الخمسين من عمرها، طويلة، ذات بنية قوية ضخمة، وبدأت في الحديث تشكو من الضيق والضجر وإحساس بالاختناق وكأن صدرها مربط بالحبال، وأنها لم تذق سوى القليل من الطعام خلال الأيام السابقة ولا تنام أكثر من ساعة أو ساعتين.
وقبل أن أسالها سؤالاً آخر أخذت تنتحب وتبكي ودموعها تسيل على وجهها بغزارة وهي تقول من بين كل ذلك: “يا دكتور.. أني قالوا لي أن عندي مرض بالقلب.. لكني لا أشعر أن لدي مرضاً في القلب.. وصحتي تمام ومنعوني الدكاترة من القات والمداعة وقلت لهم طيب.. بس أني ما أخزنش كثير.. هي ساعتين من بعد أذان العصر إلى قبل أذان المغرب.. وأعمل لي بوري واحد صغير.. وهذي قده الساعتين اللي ارتاح فيها في الدنيا.. وخاصة من بعد موت زوجي قبل 5سنوات.
وثم توقفت عن البكاء فجأة ورفعت رأسها نحوي مصوبة نحوي نظرات متفحصة: “تصور يا دكتور قبل خمسة أيام يجي ابني الكبير.. ويقهرني قام.. يصيح فوقي ورفع صوته عليَّ.. وقال لي أنت تشتي تميتي نفسك.. والا تنتحري.. كيف انتحر يا دكتور وأني مؤمنة بالله.. وبعدين أخذ البوري والقصبة والمداعة من قدامي ورماهم من الطاقة إلى وراء البيت.. وكسر البوري.. وشل الكيس حق القات من قدامي.. ورماه ومن ساعتها إلى الآن وأني مقهورة ومغلوبة.. لا أنام ولا آكل ولا عد أشتي حتى حياة.. إذا كانت بهذا الشكل.. خاصة عندما يقهرني ابني ولا أقدر حتى أقول له كلمة..!”.
قمت بمراجعة أوراقها وتخطيط القلب الكهربائي وكشف القلب بالموجات فوق الصوتية، وقمت بسؤالها عن الأعراض القلبية وفحصتها وأعدت لها الإجراءات التشخيصية كلها مرة أخرى، ولم أجد لديها إلا تسطحاً في وصلة ST في تخطيط القلب الكهربائي، وهي علامة يمكن أن تحدث في بعض أمراض الشرايين التاجية، لكن أهميتها التشخيصية لا يمكن أن تعني شيئاً إلا من خلال السياق العام، وتوفر عدد آخر من الأعراض والعلامات التي تدعمها، أما الإفراط في الاعتماد عليها كعلامة لمرض الشرايين التاجية فأمر غير صحيح، وخاصة أنها يمكن أن تحدث لدى البدينين أو ذوي البنية الضخمة بصورة طبيعية.
اقتنعت بالفعل أنها لا تعاني من أي مرض في القلب وطمأنتها وقد وافق ذلك رغبتها ومشاعرها، وكتبت لها بعض المهدئات والمسكنات، وطلبت منها رقم تلفون ابنها، واتصلت به طالباً حضوره إليِّ بمجرد خروجها، وحضر إليَّ بالفعل بعد نصف ساعة.
شرحت له حالة والدته من الناحية القلبية، ثم من الناحية النفسية بسبب سوء التصرف الذي قام به بدافع من الحب والاهتمام الذي يملأ قلبه نحوها، استمع إليِّ الرجل باهتمام، ولكنه لم يوجه إليِّ أي سؤال أو استفسار، وبدا لي أنه مستعجل، وأنه يحاول الانصراف بسرعة من مكتبي، فسألته إن كان استعجاله بسبب مشاغله، ولكنه قال لي:”كلا.. يا دكتور.. أنا مستعجل لأني قد شعرت بسوء تصرفي قبل خمسة أيام.. وعندي شعور بالخزي والذنب، ولكنني لم استطع أن أتراجع عن موقفي.. أو أعتذر لها أو حتى أواجهها لكي أبرر ما قمت به من تصرف خاطئ.. ولم أعرف كيف يمكنني أن أصلح الخطأ العظيم الذي اجترأت عليه.. ولا كيف أتراجع عنه.. أنا الآن مستعجل لأني عرفت ما سوف أفعله بالضبط.. سوف أذهب الآن لأشتري لها أفخر مداعة وأفخر قصبة موجودة، مع اثنين كيلو تمباك عدني فاخر، ومنديل قات من أفخر نوع.. وبعد ذلك استطيع أن أقبل رأسها وأقدم لها اعتذاري.. ولن أنسى يا دكتور أن الفضل في ذلك كله لك أولاً وأخيراً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.