جلست(خديجة) إلى جذع عمود أنوار الملعب العملاق، عند الركن البعيد للمدرَّج الواحد والعشرين بعد المائة، بدت كنقطةٍ ورديةٍ بعيدةٍ تستظلّ حرارة الشمس الباردة، تُخفي الشّرشف الشفَّاف جسداً أعْيتَ أطرافه الروائحُ الكثيفة، وهي تنتظر، امتلأت المدرَّجات الدائرية بالجمهور الذي أخذ يؤدِّي حركة الأمواج المتتابعة..حقل من القمح تهزُّه الريح يفرش سماء المدينة بهتافاتٍ مدويةٍ تثير الرهبة والنشوة. ظهر اللاعبون في قاع الملعب بحجم النمَّل الأسود الجميل، يتراقصون في إناءٍ واسع وقد ارتفع صخب الجماهير.وخديجة قابعة في سكونٍ تتأمَّل جوانب الملعب ثم تتأمَّل لاعباً بعينه..يبتسم لها، تودُّ أن تراه اليوم، لقد حدَّثها عن أهمية هذا اللقاء، وأهمية وجودها، وكثيراً ما حدثها عن مهاراته الرياضية وهي تستمع إليه دائماً، تتأمل عينيه وشفتيه الزيتونيتين.يثيرها بحديثه عن جمال جسدها: - إنّ لكِ جسداً متناسقاً جميلاً، ولن تحافظي على روعته إلا بممارسة الرياضة. كانت تستمع إليه في ودِّ، وعلاقتها بالرياضة لا تتعدَّى المشاهد العابرة لبرامج التلفاز المُملّة، أو عند اصطدامها بالصِّبية في الشوارع الخلفية عند عودتها..كان حديثه يفتنها: - لكِ وجه طفلة وقلب فراشة، إنّك أجمل وارقّ مَنْ عرفْت. من عينك تشرق الشمس وفيها يغتسل القمر، أرجوك طهّريني!! وقد حدثها بالأمس عن مباراة اليوم، وضرورة حضورها. - أرجوك الحضور، فغداً أكون ملك الملعب...أودُّ رؤيتك..لم تردَّ عليه حينها. وها هي في الملعب تتأمل حركته الراقصة بقلقٍ..فزمن اللعبة يتسرَّب سريعاً والنتيجة صفر صفر، والصفارة الوحيدة تدور في أرجاء الملعب وقد أعياها رذاذ كثيف من شفاهٍ غليظةٍ، سيطر القلق على هتاف الجماهير، لم يبقَ من الزمن سوى عشر دقائق، وخديجة صامتة في مكانها دون حركة، تتأمل ما حولها في يأس!! وفجأة نهضت بعد أن استقرت الكرة بين قدميه، مدت يديها تلوح بثدييها الأسمرين، وصوتها ينساب في أرجاء الملعب، تهتزُّ راقصة..ترتجف أردافها تحثُه على كسر الحصار. اقتربت أقدامه أكثر، التفت يتأمل رقصتها، أحس بشعورٍ جميلٍ، وقفت المُدرجات، انصبت نظراتهم وأصواتهم بين قدميه، ثم اتجهتْ صوب جسد خديجة الراقص!! تجمدت حركة اللاعبين، تحولت أبصارهم إلى الجسد الراقص، توقفت خديجة، تجمد كل ُ شيء! الكل يتابعها..صمت كل شيء، خلعت جلدها الشفاف وعلقته على السارية العالية، تركت أطرافها العارية، استدارت مغادرةً المُدرجات وهي تلعن كل شيء بعد عجزها في تغيير النتيجة! كانت متجهةً بجسدها المشتعل نحو الشمس، تسربت الجماهير من فُتحات الملعب تتبعها، هبط الصمت إلى ما تحت الصفر، فرغت المدرجات، اختفى اللاعبون، تبعهم الحكم في فرحٍ صبياني. وقف وحيداً...مذهولاً، محاولاً استغلال هدوء كل شيء، حاول أن يكسر النتيجة ..صفر..صفر، وتحت ذهوله اختفت المنصة الرئيسية، تبعتها المدرجات اللولبية وقد تحولت إلى ما يشبه العجين! وفي لحظة اختفى كل شيء، إلا هو!! تصدع المكان بعد أن غاصت وابتلعها الصمت، اختفت المباني المجاورة ثم الشوارع أيضاً!! تجمدت عيناه وهو يراقب ما حوله وحيداً، أخذ يتلمس البساط الأحمر بأقدامه، لم يجد إلا رمالاً محلها!! اتسع الأفق والصمت يبتلع كل شيء..توهجت الشمس عند أطراف المدى..بدت خديجة عاريةً تغتسل تحت ألسن الشمس، صرخ بأعلى صوته: - خديجة انتظريني، أرجوك لا تتركيني لهذا الصمت وهذه الوحدة، لم تلتفت إليه واستمرت معلقةً وسط عين الشمس، حاول أن يخطو نحوها !! شعر بالعجز..جمع قواه..دون فائدة، هبت الريح حاملة ذرات الرمال،أخذت تبتلعه حتى لامست حلمات صدره، مات صوته، تكلس وجهه، وأصبح جلده بلون الشمع الأصفر..غاصت الشمس واختفت خديجة في أفق الرمال التي ابتلعت كل شيء تحت طوفان سواد الليل البارد. وقبل بزوغ اليوم التالي كانت عصافيرُ صغيرةٌ ترفرف حول رأس تمثالٍ عارٍ وسط بحر الرمال. العصافير تنقر صدره الدافئ، نزَّت من قلبه قطراتُ خضراء طرية، سالت حتى أصابع قدمه اليسرى، حيث نمت براعم خضراء ما لبثت أن أخذت تتسلق حول أطراف خاصرته..وعنقه، غطته بأوراقها الخضراء تهزها نسمات الصباح البارد.