الفراسة علم قديم عرفه العرب منذ القدم، وبرعوا فيه وكان لهم صولات وجولات، وكان هذا العلم يقوم بالتعرف على آثار الأقدام على الأرض والتعرف على الخيول العربية الأصيلة، والتعرف على الأنساب والاهتداء بالنجوم في الصحراء.. إلخ.. والفراسة – كما عرفها صاحب المعجم المحيط: (المهارةُ في التعرف على بواطن الأمور من ظواهرها، وجاء في الحديث(اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) والفراسة إدراك الباطن وخفايا الأمور بالنظر إلى الظاهر والاستدلال به. ويمكننا أن نلخص الفراسة في كلمة واحدة، فنقول إنها بمعنى(الإلهام) ويروى في الأدب العربي المئات من القصص والحوادث عن الفراسة التي تُبين مقدرة الانسان العربي على استبيان خفايا النفس استناداً إلى ظاهرها. ومن ألوان الفراسة قديماً: فراسة الأثر، وذلك بتتبع آثار الأقدام والخفاف والنعال في التربة، وفراسة البشر، وذلك بمعرفة الناس عن طريق النظر إلى بشرتهم وملامحهم وأجسادهم، وفراسة ومعرفة مصادر المياه من التربة والرائحة ورؤية النبات، وحركات الحيوانات المخصوصة، والاستدلال بأحوال البرق والسحاب والمطر والريح، وفراسة اللغة، وفراسة طباع وأخلاق الشعوب، وفراسة السلوك والمزاج والأصوات والأحوال النفسية. وإذا تحدثنا عن الفراسة في العهد النبوي، فنقول: إن القرآن الكريم قد أشار في مواضع كثيرة إلى معنى الفراسة، ومن ذلك قوله تعالى(إن في ذلك لآيات للمتوسمين) (سورة الحجر آية 75) وقد ذكر عدد من أهل العلم أن هذه الآية في أهل الفراسة، والفراسة نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم بسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) يكشف له بعضما خفي على غيره مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيسدد رأيه وهذه الفراسة هي مايسميها العلماء بالفراسة الايمانية، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، جاء في الحديث الشريف(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ويقول الرسول(صلى الله عليه وسلم): إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم) رواه الطبراني في الأوسط. ومن الوصايا التي تضمن صدق الفراسة ماقاله أبو شجاع الكرماني: (من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة. وقال ابن القيم معقباً على كلام الكرماني: (وسرّ هذا أن الجزاء من جنس العمل، فمن غضّ بصره عما حرّم الله عزوجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ماهو خير منه.. وعود على ماسبق، فالفراسة كانت موجودة بأنواعها كافة في العهد النبوي بدءاً باقتفاء الأثر، وحتى استبيان الأنساب. لما لجأ النبي(صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبوبكر الصديق إلى الغار مُختبئاً من قريش، وقد كان النبي(صلى الله عليه وسلم) على علم بما يدبره القوم، وكان يدرك تماماً أن القوم متبعوه مستعينين بقضاء الأثر وهو رجل ذو فراسة عظيمة يستطيع أن يميز آثار الأقدام على الرمال، ويسير خلفها مئات الأميال لذا وزع النبي الأدوار على صحابته الكرام، فتلك أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبدالله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهير بالغنم فيخفي آثارهما حتى لايتبعها أحد.. لقد أرادت قريش أن تتبع النبي(صلى الله عليه وسلم) فأتت بقفاء خبير للأثر، وقد استطاع هذا الرجل أن يتتبع آثار أقدامهما رغم كل الاحتياطات الأمنية التي لجأ إليها النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولكن الله غالب على أمره وقفت قريش ومعها قفاء الأثر المشهور الخبير عند باب الغار، فوجدوا العنكبوت قد نسجت خيوطها على فم الغار، وأغلقته تماماً عندئذ أيقن القوم أن لا أحد فيه والنبي الكريم وصاحبه في الغار ينظران في أعين القوم. ويعد النبي(صلى الله عليه وسلم) في مقدمة المتفرسين، وقد كانت فراسته وحي من الله لايخطئ أبداً، ولذلك قال تعالى: (وماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم آية3-4) والجدير ذكره هنا أن الخليفة عمربن الخطاب كان من أكثر الصحابة فراسة وأصدقهم قولاً في ذلك، ولقد مدحه النبي(صلى الله عليه وسلم) بقوله: (إن الحق يجري على لسان عمر وقلبه) وقال فيه أيضاً (صلى الله عليه وسلم) كما جاء في صحيح البخاري: (لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكُ في أمتي فإنه عمر) ومن فراسة عمر أنه أشار على النبي(صلى الله عليه وسلم) أن يحجب نساءه عن الناس فقال: يارسول الله لو أمرت نساءك أن يتحجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزل قوله تعالى من سورة الأحزاب (وإذا سألتموهن متاعاً فأسألوهن من وراء حجاب) (الأحزاب 53) ولما استشار النبي(صلى الله عليه وسلم) في أسرى بدر أشار بقتلهم، وأشار أبوبكر بالفدية، فأخذ النبي(صلى الله عليه وسلم) برأي أبي بكر (رضي الله عنه) فنزل القرآن موافقاً لرأي عمر(رضي الله عنه) في قوله تعالى: (ماكان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)(الأنفال 67). ولقي النبي (صلى الله عليه وسلم) عمر فقال له: (كاد أن يصيبنا بلاء في خلافك) (رواه مسلم). ومن فراسته أيضاً أن نساء النبي(صلى الله عليه وسلم) اجتمعن في الغيرة عليه فقال لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية من سورة التحريم(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً) (التحريم5). أما فراسة عثمان بن عفان(رضي الله عنه) فإنه مرة دخل عليه رجل وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال عثمان يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! قال الرجل: أوحي بعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.. وهناك العديد من الأمثلة الكثيرة على الفراسة في العهد النبوي ولكن المقام هنا لايتسع وحسبنا أننا أعطينا مايفيد القارىء.