قال تعالى : “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ماقدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” الحشر : 18. أيها الصائمون : إن شهركم المبارك قد قرب رحيله، ودنا أفوله، فاختموه بخير ختام، واستغفروا ربكم من كل خلل، وتقصير فيه. قال الحسن البصري – رحمه الله -: “ أكثروا من الاستغفار فإنكم لاتدرون متى تنزل الرحمة”، وقال لقمان لابنه : “يابني عود لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً “، وقد جمع الله تعالى بين التوحيد، والاستغفار في قوله تعالى : “فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك” محمد : 19 وفي بعض الآثار أن إبليس قال : “أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار”. والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة، والحج ، وقيام الليل، ويختم به المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع عليها، وإن كانت لغواً كان كفارة لها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار. كتب عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار، والصدقة، صدقة الفطر ، فإن صدقة الفطر طهره للصائم من اللغو، والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو، وقال عمر بن عبدالعزيز : قولوا كما قال أبوكم آدم : “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” الأعراف :23، وقولوا كما قال نوح عليه السلام : “وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين” هود : 47 وقولوا كما قال إبراهيم – عليه السلام “ والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين” الشعراء : 82 وقولوا كما قال موسى – عليه السلام : “ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم” الأنبياء 87. ويروى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : “ الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل” وعن ابن المنكدر – معنى ذلك : الصيام جنة من النار مالم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجنة، والاستغفار يرقع ماتخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار، وعمل صالح له شافع. أيها الأخوة : إن المؤمن ليحزن على انقضاء شهر كريم جل كرمه، عاش نوره وفرحته، وذاق طعمه وحلاوته، شهر فاض بالرحمات، والبركات، وحظي بالحسنات، والمسرات، ما أحلى تلاوة القرآن فيه، وما أجل الصدقة في أيامه، يبكي الصالحون لفراقه، ويأسى القانتون لانقضائه، ويحزن المستغفرون لرحيله. فلله أيام تقضت حميدة بقربك واللذات في المنزل الرحب وإذ أنت في عيني ألذ من الكرى وأشهى إلى قلبي من البارد العذب فلهفي على ذاك الزمان الذي غدت عليه دموع العين دائمة السكب. إن تلكم الأيام المعدودات من نفائس أيام المؤمنين، جرت فيها أحاسيس حية ومشاعر صادقة، أثمرتها معالي الهمم، ومسابقة النفوس الدائبة، فلا عجب أن تستهل العبرات، وتشتد الحسرات، أسفاً على فوات خير عظيم، وسعادة صافية راضية، ما أجمل نهاره المنير بالذكر، والتلاوة ، والمعروف، وما أطيب لياليه العامرة بالقيام، وحداء الصالحين، وأنين التائبين حقاً إنها أيام غالية، مباركة ، طابت لها النفوس، وانشرحت لها الصدور، والأرواح، فكيف لا يكون بعد فراقها أسف ، وحزن، وتوجع ؟! تذكرت أياماً مضت وليالي خلت فجرت من ذكرهن دموع ألا هل لها يوماً من الدهر عودة هل إلى وقت الوصال رجوع وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبدور قد أفلن طلوع كان للطاعات فيه منافع، وآثار في النفوس، أغنت عن لذائذ الطعام، وزينة الحياة، ومكاسب الأموال، ورب صلاة صادقة، أو قراءة خاشعة أعقبت سروراً مضيئاً امتزج بالدم، والعصب لا يضاهيه طيب المأكل، ولا أفراح الحياة، وملاذها، ومفاخرها، لأنها لا تدوم، وإن دامت لم تخل من تنغيص، وإذا أنقضت أورثت غموماً، وأحزاناً وشدائد قاسيات. فالحياة الحقيقة، والسعادة الدائمة، والعزة الشامخة إنما هي في طاعة الله تعالى وعبادته، عبادة سائقها الإخلاص وحاكمها التذلل، ونهجها الإتباع. قال تعالى: “من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون” النحل: 97 وقال تعالى: “ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً” النساء: 125 وليعلم الإخوة الصائمون أن الطاعات، والمسارعة فيها ليست مقصورة على رمضان، ومواسم الخير فحسب، بل عامة لجميع حياة العبد، وإنما كانت تلك منحاً إلهية، وهبات ربانية، مّن الله تعالى بها على عباده ليستكثروا فيها من الخيرات، وليتداركوا فيها بعض مافاتهم، وحصل التقصير فيه. وإنه لمن الجهل بمكان أن يجتهد بعض الناس في رمضان، فيرى طائعاً صالحاً مبادراً إلى الطاعات، ثم إذا انقضى رمضان شوهد مقصراً مفرطاً، كدأبه قبل رمضان، فهذا لا ريب أنه غاش لنفسه، وماح لحسناته، وخيراته. وحول توديع رمضان مسائل: الأولى: أن مايقع للصالحين من حزن، وألم، وتأسف وفراق رمضان، سرعان ما يزول بأفراح العيد، وشعائره الإيمانية، ففيه صلاة العيد، وفي ليلته يكبر المسلم، ويحمد الله تعالى، وتحصل له الفرحة، والبهجة بهذه الأمور، وهو كذلك يزور إخوانه المسلمين، ويسلم عليهم، ويهنئهم بالعيد، ويدعو بالقبول له ولهم. فبهذه الأمور وشبهها ينجلي مابه من حزن، وتحسر على رمضان، فحاله في هذا الموقف كمن يكون في ضيق وكرب، ثم يأتيه من السرور مايكون سبباً في سعادته، وفرحته فيذهب مابه من غم وحزن. الثانية : إن المحاسن التي جنتها النفوس المسلمة في رمضان ينبغي أن تكون طريقاً للزيادة، والمضاعفة، وسلماً للمجد، والعلاء، وليس التقاعس، والانقلاب. ففترة رمضان كانت تربية إيمانية على الخير، وفضائل الأعمال ذاق حلاوتها أهلها، الذين لا يحبون زوالها، وأضعفها، وهذا مما يجعلهم يعقدون العزم على تثبيتها، وترسيخها، حتى تستحكم في قلوبهم، وتخالط دماءهم، فهي زادهم، وغذاؤهم، وأنسهم، وسعادتهم. الثالثة : يخطئ كثيرون عندما يظنون أن السباق في العبادة خاص برمضان، فيحصل لهم من العمل، والجد، والعطاء فيه بدرجة كبيرة، فإذا رحل رمضان رحلت طاعاتهم وخيراتهم، وركنوا إلى ملاذهم وشهواتهم، وهذا أمر خطير ينبئ عن جهالة، من أولئك القوم، والله المستعان. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. خطيب مسجد جمال الدين – تعز