الكشف عن تصعيد وشيك للحوثيين سيتسبب في مضاعفة معاناة السكان في مناطق سيطرة الميلشيا    صمت "الرئاسي" و"الحكومة" يفاقم أزمة الكهرباء في عدن    ثمن باخرة نفط من شبوة كفيلة بانشاء محطة كهربا استراتيجية    إيران وإسرائيل.. نهاية لمرحلة الردع أم دورة جديدة من التصعيد؟    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    مصرع وإصابة عدد من عناصر المليشيات الحوثية الإرهابية غربي تعز    غارات عنيفة على مناطق قطاع غزة والاحتلال أكبر مصنع للأدوية    السيول الغزيرة تقطع الخط الدولي وتجرف سيارة في حضرموت    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    شاب يقتل شقيقه جنوبي اليمن ووالده يتنازل عن دمه فورًا    الحوثيون يغلقون مسجد في عمران بعد إتهام خطيب المسجد بالترضي على الصحابة    صاعقة رعدية تنهي حياة شاب يمني    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ مشبع بروح المقاومة
لم تسقط عدن في أيدي الإنجليز إلا بعد أن روتها دماء شهدائها البواسل لتغادرها الإمبراطورية العجوز برحيل مخزٍ لا مثيل له تاركة جنودها كأعجاز نخل خاوية.
نشر في الجمهورية يوم 13 - 10 - 2010

ترجع المقدمات التي أدت إلى الاحتلال البريطاني لعدن إلى كونها جزءا من المنافسة التجارية الأوروبية المضطردة خلال الثلاثة القرون الفائتة، خاصة تلك التي كانت مع البرتغاليين والهولنديين ثم الفرنسيين مع بداية القرن الثامن عشر, لتتحول المنافسة بعد الغزو الفرنسي لمصر إلى ميدان سباق؛ مما جعل عدن جديرة بالاهتمام ومن ثم الاحتلال..
بُرج لندن
- في عام 1802م عقدت بريطانيا أول معاهدة تجارية مع السلطان العبدلي في عام 1802م ،الذي كان يُسيطر على ميناء عدن آنذاك..ومن العوامل التي عجلت بتنفيذ المطامع البريطانية، بعد ذلك بزمن وجود جيش محمد علي باشا يومئذ في تهامة وأواسط اليمن بالإضافة إلى حاجة بريطانيا إلى محطة تموين.
وحسب وثائق بريطانية فإن غرق سفينة «داريا دولت» في يناير 1837م في ساحل عدن لم تكن السبب المباشر في الاستيلاء على عدن، بل كان حادثاً مدبراً بين مالكها وقبطانها؛ لكي يحصل المالك على أموال التأمين نتيجة غرقها..وعندما أراد “هينس” أن يفتعل من بضاعة السفينة عذراً للحصول على عدن أعيدت له ثلث البضاعة وتعهد السلطان بدفع الثلث المتبقي ومع ذلك أصر “هينس” أن يحصل على عدن.
أتت بعد ذلك معركة الاحتلال.. ولم تسقط عدن إلا بعد أن روتها دماء شهدائها البواسل، واعتبر احتلال عدن أول درة في جبين تاج الملكة “فيكتوريا” وقد شهد البريطانيون ببسالة المقاومة اليمنية وقدروا أن عدد المقاتلين بلغ ألف جندي.
وكذكرى لمقاومة عدن الاحتلال البريطاني أهديت للملكة البريطانية ثلاثة مدافع نحاسية من المدافع اليمنية التي استخدمت في معركة صيرة، وفيما بعد وضعت تلك المدافع في برج لندن..ومن نحاسها كانت تصنع الميداليات البريطانية التي تمنح تقديراً للخدمات العسكرية الممتازة.
“هينس” الوغد
كوفيء «هينس» بعد احتلال عدن كأول معتمد سياسي لها، وقد بقي يحكمها طيلة 15عاماً وكان يمسك بحلقة رهيبة من الجاسوسية تغطي معظم مناطق اليمن، وكان أحسن مخبريه يهود عدن الذين كان لهم أقارب في الكثير من القرى والمدن اليمنية وكان حينها التركيز الأعظم على بناء تحصينات المدينة وذلك من أجل صد هجمات اليمنيين المتكررة ضد الوجود البريطاني والتي استمرت طيلة فترة حكمه.
بعد 1846م اقتضت سياسة بريطانيا التوظيفية استجلاب العمال من الهند فأصبحت عدن هندية أكثر منها عربية، وانخفض السكان العرب إلى أقل من النصف وأصبح الهنود يكونون %40 من سكان المدينة وبعدهم كان يأتي العرب ثم الجاليتان الصومالية واليهودية، وبانعدام التجانس لم يكن لدى «هينس» أدنى خوف من انتفاضاتهم الداخلية.
طول الوقت كان الخطر يداهم البريطانيين من حملات المقاومة التي قامت بها سلطنة لحج وبعض السلطنات الأخرى، والتي كان أكثرها شرفاً بالانتصارات لولا الفارق الكبير من حيث التسلح والعتاد.
وكانت نهاية “هينس” اتهامه من قبل حكومته باختلاس أموال الدولة، وقد طرد من وظيفته ووضع في الحبس بأمر من اللورد “الفيستون” الذي قال كلمته المشهورة بأن «هينس كان وغداً بالفعل» وقد فضل هينس الحبس على أن يدفع شيئاً وقد أطلق سراحه قبل أيام من وفاته.
بعد “هينس” عين الكولونيل “جيمس اوترام” معتمداً سياسياً لعدن، بسبب علاقاته الوطيدة مع كبار المسئولين في لندن والهند، وشهرته كأحد كبار واضعي الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وقد استطاع أن يربط عدن ربطاً كاملاً ضمن النظام الإداري لشركة الهند الشرقية.
وبعد افتتاح قناة السويس زادت أهمية عدن وأصبحت مدينة التواهي هي الميناء الرئيسي، وأصبح معظم بُن الحجرية يأتي إلى عدن ليتم تصديره.. مكونا ثلث صادرات عدن من السلع.
نظام الصداقة
بعد اعتلاء السلطان عبدالحميد العرش في سبعينيات القرن التاسع عشر، وإعلان ميوله نحو الدولة الألمانية ،وبروز مطامع دولته التركية-العجوز- في البلاد العربية ومنها الجزيرة العربية واليمن، ابتدأ الصراع العسكري البريطاني العثماني على الأراضي اليمنية .
كان أئمة صنعاء في ذلك الحين يرسلون الرسل إلى عدن ، يطلبون مساعدة الإنجليز من أجل استعادة تهامة من أمراء أبي عريش والأتراك، وكانوا يعرضون عليهم اقتطاع ما يريدون من الأراضي اليمنية مقابل مساعدتهم لهم.
في عام 1872م مد الأتراك نفوذهم إلى الداخل اليمني ابتداءً من الحجرية وانتهاءً بصعدة ،أما الانجليز فقد استخدموا سياسة مرنة تتفق والوضعية الجديدة.. وقد انحصرت في اتباع ما أسموه «نظام الصداقة» بحيث يدفع الإنجليز مشاهرات شهرية أو سنوية بسيطة للمشائخ والسلاطين المجاورين لعدن.
بظهور تركيا على الجانب الآخر بقي الخلاف على استحواذ تلك السلطنات على أوجه ،وقد وقعت كثير من التحرشات والمناوشات..إلا أن الأمر ما يلبث أن يعود إلى ما كما كان عليه.
الأتراك في الشيخ
مع قيام الحرب العالمية الأولى لم تعد معاهدة الحدود بين العثمانيين والإنجليز ذات أهمية؛ فالأخير سارع بالتحالف مع الإدريسي في الشمال بمحاصرة الأتراك خاصة من جانب تهامة، ليقوم الأتراك فيما بعد بغزو مناطق في جنوب الوطن "لحج وعدن" .
تجمعت القوات التركية في ماوية أواسط عام 1915م، وقد انضم إليهم فرق من القبائل اليمنية المقطوعة المتلهفة للفيد، وكان عدد تلك القوات مجتمعة أكثر من ثمانية آلاف جندي، بعد أن سقطت الضالع والحواشب دون مقاومة، تقدمت تلك القوات “العثما يمنية” نحو الداخل، وبعد أن سقطت الدكيم تقدم علي سعيد باشا نحو الحوطة حتى أسقطها، فسارع سلطان لحج علي بن أحمد بالفرار إلى عدن حيث حلفاؤه الإنجليز .
بخطى سريعة وصلت القوات التركية إلى الشيخ عثمان البوابة الشمالية لعدن، إلا أن الإنجليز ما لبثوا أن استردوها بعد أن وصلت قوة بريطانية، مسانده من السويس، ونتيجة لذلك الغزو بلغ الذين هاجروا من لحج إلى عدن مع السلطان الفار حوالي أربعة آلاف من السادة والأعيان ورؤساء القبائل وحاشية السلطان وأقاربه.
الغريب في الأمر أن الأتراك سارعوا في استصدار فتوى من شيخ الإسلام بالأستانة، يسمح لهم فيها باستباحة أموال هؤلاء المهاجرين؛ لأنهم فروا من بلاد المسلمين إلى بلاد النصارى.
الإنجليز استخدموا في تلك الفترة الطيران لأول مرة لتخويف كل من الأتراك والقبائل الريفية.. ليحدث في الأخير ما يشبه التعايش بين الفريقين، ففتحت التجارة بين لحج وعدن، ونشأت علاقة ودية طريفة بين المتحاربين ودامت حوالي ثلاث سنوات حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى.
للعلم فإن بعض الوثائق التركية أشارت أن سعيد باشا كان يود مخلصاً أن يرى اليمنيين يستلمون مناطق جنوب الوطن من تركيا عند هزيمتها بدلاً من إعادتها تحت النفوذ البريطاني.
عسكرة اليمنيين
أظهرت الحرب العالمية الأولى وما أعقبها ضعف القوة العسكرية البريطانية في مستعمرة عدن.. وهكذا طفت فكرة «عسكرة اليمنيين»على السطح، وكان الدافع الأبرز لتكوينها يعود إلى محاولة تقليد الإيطاليين في طريقة استفادتهم من الجنود اليمنيين في حروبهم في أفريقيا.
في عام 1918م تم تكوين الفرقة اليمنية الأولى وقد كانت مكونة من حوالي أربعمائة جندي وضابط، وكان عدد الضباط العرب في تلك الفرقة ثلاثة عشر ضابطاً، وقد روعي في اختيار المجندين أن يكونوا يمثلون أكبر عدد ممكن من القبائل اليمنية في شمال الوطن وجنوبه.
وفي الأخير تكشف للسلطات البريطانية في عدن أنهم قد أخطأوا في تقديراتهم حول ولاء الفرقة اليمنية لهم، وكانت الأفواج من تلك الفرقة التي ذهبت إلى جزيرتي ميون وكمران هي أول من لمس أهداف الإنجليز، ولهذا قام فوج جزيرة ميون بقتل رئيسهم الإنجليزي ومنها توجهوا إلى الشمال وهذا أدى إلى إلغاء تلك الفرقة في عام 1925م.
من ذات العناصر تم إنشاء جيش محمية عدن «الليوي» وذلك في عام 1928م، بعد أن تم استثناء العناصر من شمال الوطن عموماً من هذه المؤسسة العسكرية الجديدة، ومنذ بدايته كان هذا الجيش جزءاً من سلاح الطيران الملكي البريطاني كبديل لفرقة المشاة البريطانية والهندية التي غادرت عدن 1929م، وقد كان هناك نوع من التفاهم بين جنود هذا الجيش وأصحاب الانتفاضات القبلية في الأرياف.. ومن جيوش محمية عدن في تلك الفترة “الحرس القبلي” الذي جاء تأسيسه عن رغبة إنجليزية بعد أن وقعوا اتفاقية صنعاء مع الإمام في التدخل الفعلي في شئون المحميات وضرب القبائل وإخضاعها تماماً لسلطة السلاطين والأمراء الذين سيكونون بدورهم خاضعين لسلطة الإنجليز.. واختيار الحرس القبلي كان بالطبع من الأقارب أو الموالين للأمير أو السلطان وكان الإنجليز هم الذين يتحملون الصرف على هذه القوات!!
إلى الامام
انتقلت مسئولية إدارة عدن من الهند إلى وزارة المستعمرات في الأول من ابريل 1937م، وظهرت سياسة “إلى الامام” التوسعية وقسمت المحميات إلى«شرقية» و«غربية».. وقد أنشئ الحرس الحكومي عام 1928م وكان الهدف الأول المباشر من إنشائه من أجل مرافقة الضباط السياسيين وحمايتهم أثناء تجوالهم في المحميات لإقرار تلك السياسة الآنفة..وكانت هذه القوة في بدايتها تتكون من مائة جندي وضابط.
كان المهندس الرئيسي لمحميات عدن هو السير “برناده رايلي” الذي أصبح في الفترة ما بين 1925م- 1940م هو المقيم السياسي ثم الحاكم العام لعدن ومحمياتها، فهو الذي خطط وأشرف على تنفيذ سياسة الحكومة البريطانية التوسعية في المحميات، والواقع أن استخدام الإنجليز الواسع للطائرات في المحميات، هو الذي أدى إلى تحطيم الأساس العسكري لعزلة الأرياف وتحقيق مشاريعهم التوسعية فيها.
بعد أن ضربت الطائرات البريطانية القوات الإمامية في المحميات وأجبرتها على الانسحاب، عادت السيطرة البريطانية على معظم الإمارات والسلطنات وبقيت العواذل تحت سيطرت الإمام، وكان كثير من أفراد هذه القبيلة منخرطين في القوات المحلية كجيش “الليوي” وقوات البوليس، وكان الاحتكاك اليومي لهؤلاء الجنود بضباطهم الإنجليز، ثم لومهم وعتابهم لعدم استطاعة حكومتهم حمايتهم من الجيش الإمامي.
لقد كان ذلك باعثاً في أن تصر الحكومة البريطانية على سحب الوجود الإمامي من العواذل قبل توقيع اتفاقية عام 1934م التي قضت بتجميد قضية الحدود مدة الأربعين سنة القادمة.
وكان من أهم بنود تلك الاتفاقية اعتراف بريطانيا باستقلال «جلالة ملك اليمن حضره الإمام ومملكته استقلالاً كاملاً مُطلقاً في جميع الأمور مهما كان نوعها» ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى توقيع تلك الاتفاقية صراع الإمام العسكري وقت ذلك مع ابن سعود في الشمال.
القردعي في شبوة
بالنسبة لقضية التوسعات البريطانية في المحميات فقد كانت مخالفة واضحة لمواد الاتفاقية السابقة، وكان رد الإمام على ذلك بأن أوكل إلى الشيخ علي ناصر القردعي، قاتله فيما بعد، أن يمد سيطرته إلى منطقة شبوة التي لم تكن ضمن الأراضي المحمية، وبخوف الإنجليز من تأثير ذلك على خط المواصلات وبعد معارك طاحنة استسلم القردعي وهو ينتظر وصول الإمدادات، ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية خفف الإنجليز مؤقتاً من سياسة «إلى الامام» في المحميات حتى لا يدفعوا بالإمام أكثر في أحضان الإيطاليين، وقد تمكنوا من إرسال بعثات طبية وفنية إلى صنعاء استطاعت أن تقوم هناك بحملات دعائية ضد إيطاليا والفاشست، وعن طريق ضغطهم الاقتصادي نجحوا في جعل الإمام يمنع تجنيد اليمنيين في جيوش إيطاليا في كل من ارتيريا والصومال.
عموماً بقيت الحالة العسكرية هادئة بين الطرفين خلال سنوات تلك الحرب، وبعد أن زال الخطر الإيطالي عاد الإنجليز من جديد إلى اتباع سياسة “إلى الامام” في المحميات، وقد تضاعفت حوالي اثنتي عشرة مرة عما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية.
وكان في المكلا جيش نظامي يتبع الأسس الهندية في تنظيم الجيوش حتى تمت إعادة تنظيمه في 1936م على يد الإنجليز..وفي أواخر عام 1950م قام ذلك الجيش بأوامر من الإنجليز بمجزرة المكلا الرهيبة التي ذهب ضحيتها عشرات من القتلى والجرحى.
الإنجليز وسياسة فك الارتباط
استمرت سياسة «إلى الامام» البريطانية التوسعية التي هي أصلاً السبب في تنامي وتيرة الصراع الإنجليزي مع الأئمة، ولم يكن الصراع في غالبه مواجهة مباشرة بين جيشي النظامين وإنما تشجيعاً للتمردات والانتفاضات القبلية هنا وهناك سواء بالمال أو بالسلاح.
بعد ذلك حدثت حركة 1955م التي قادها الشهيد الثلايا، وبسببها توقفت مؤقتاً الحوادث العسكرية في المحميات، خاصة أن الإمام انشغل في معالجة أوضاعه الداخلية المتردية.
وبعد سلسلة من أحداث المقاومة العنيفة ضد الاحتلال لجأ الإنجليز لاتباع سياسة «فك الارتباط» كما لجأوا أيضاً إلى ما أسموها«بسياسة اللعب بالطريقة العربية» وهي تقضي بأن يوكل لبعض السلاطين والأمراء القيام «بفركشة»الانتفاضات والتمردات القبلية بوسائلهم الخاصة.
أما الإمام أحمد فقد لجأ إلى تمتين علاقاته مع المعسكر الاشتراكي ومصر والسعودية التي كانت في نزاع مع بريطانيا وقت ذاك حول “واحة البريمي”.
في فبراير 1957م تصاعدت العمليات الحربية وتفجر الصراع هذه المرة على الحدود مع الضالع، وقام الجيش الإمامي بأكثر من خمسين حادثة هناك، وكان ذلك تمهيد لحركات أكبر وأوسع في بقية المحميات.
حاول الإنجليز أن يلجأوا إلى الديبلوماسية بعد تكاثر الحوادث، فدعوا البدر إلى لندن لمناقشة مشاكل الحدود وبعد محادثات استمرت عشرة أيام لم يتم التوصل إلى نتيجة.
ومنذ قيام اتحاد الإمارات عام 1959م وحتى انفجار ثورة 26سبتمبر تقريباً خفت حدة الصراع العسكري بين الجانبين.
في إبريل 1964م زار عبد الناصر اليمن ليطلع على الأمور بنفسه، ألقى خطاباً اعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ حرب اليمن؛ لأن هذا الخطاب كان مولد حرب جديدة في جنوب الجزيرة أو ظهور عملية صلاح الدين «في مدينة تعز لتحرير جنوب الوطن»..
ثورة الجميع
لقد حددت ثورة سبتمبر من الوهلة الأولى لقيامها حقيقة توجهها الوطني لثورة شاملة لا تعترف بالحدود الشطرية المفروضة على اليمن وأهله، وعبرت عن خطها الوطني المعلن صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، كما جاء ضمن أهدافها الستة أو في بيانها إلى الشعب اليمني على اعتبار أن “الثورة ليست ثورة فرد أو أفراد إطلاقا ..إنها ثورة الشعب كله، ثورة الجنود والقبائل، ثورة المهاجرين المُشردين في أنحاء العالم، ثورة تقضي على التفرقه بأنواعها فلا زيدية أو شافعية ولا قحطانية ولاهاشمية، بل شعب واحد يؤمن بالله وبأنه جزء من الأمة العربية “.
أرجع عبد الفتاح إسماعيل - الأمين العام للتنظيم السياسي للجبهة القومية، في مقالة له مطولة نشرها في صحيفة “الثوري” مع بداية سبعينيات القرن المنصرم، أرجع غزو أفكار الكفاح المسلح بعض التنظيمات السياسية إلى البداية الأولى للستينيات، مًقيماً ذلك أنه لن يتم قبل إسقاط النظام الإمامي الكهنوتي في صنعاء، وهو التقييم الصحيح المُجسد بعد ثورة سبتمبر.
بعد اجتماعات في صنعاء عام 1963م تم تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المُحتل على أساس الأخذ بالكفاح المسلح، ثم نُقل العمل الفدائي بعد ذلك إلى مستعمرة عدن بأقصى درجة من السرية والكتمان، وقد تحول العمل الفدائي إلى ظروف المجابهة المباشرة أواخر سنة 66 وبداية 67م.
تحول الجانب المحتل إلى مواقع الدفاع، وتمت بعدها السيطرة الكاملة على مدينة كريتر وتحملت الجبهة القومية مسئولية إدارتها، وعن ذلك قال عبد الفتاح، في ذات المقالة: “لم يكن في مخططنا الاستمرار في السيطرة على المدينة؛ لأننا حققنا النصر السياسي الذي كنا نريده”.
ورقة الدفاع البيضاء
كان اندلاع الثورة بردفان بقيادة الجبهة القومية هو البداية الأولى لمرحلة الكفاح المسلح إلى أن انتهى بالاستقلال، وكانت تلك المعارك أكبر معارك بريطانيا خلال حرب التحرير فقد اشترك فيها آلاف الجنود واستخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة.
تم بعد ذلك نقل الكفاح المسلح من ردفان إلى المدينة وجعل تاريخ زيارة وزير المستعمرات البريطاني «أنتوني جرينود» إلى عدن نوفمبر 64م بداية تلك المرحلة من الكفاح المسلح وأدت في النهاية إلى الاستقلال..وقد لجأت الحكومة البريطانية حينها إلى إصدار قانون الطوارىء في يونيو 1965م وحظرت بموجبه نشاط الجبهة القومية واعتبرتها حركة إرهابية، كما قامت في إحدى المرات بتسفير «245542» ينتمون إلى شمال الوطن بغرض إرهاب المواطنين الذين أصبحوا باختلاف مناطقهم وأوضاعهم يلتفون حول الثورة ويدعمون الكفاح ضد المستعمر.
أخطرت بريطانيا بعد فشل إجراءاتها الاحترازية في مجالي المخابرات والأمن في مقر الثورة إلى أن تعلن في ورقة «الدفاع البيضاء» بأنها ستسحب قواتها من قاعدة عدن عام 67م وبالطبع فقد كان هدف بريطانيا هو تسليم الاستقلال لحكومة الاتحاد.
جبهات الأرياف
اكتسب الثوار خلال تلك الفترة الخبرة العسكرية وزاد نشاطهم كماً وكيفاً وتطورت وتنوعت أسلحتهم، وحسب وثائق بريطانية مثلاً خلال عام 1966م بلغ عدد الحوادث في مدينة عدن «480» حادثة تسببت في «573» إصابة بين قتيل وجريح.
كما حصل خلال نفس العام حالة دمج قسري بين الجبهة القومية وجبهة التحرير وبسببه حدث ركود جزئي للنشاط المسلح، وبعد استقلالية الجبهة القومية بانعقاد مؤتمرها نهاية نفس العام حدث تحول حاسم في مسار الكفاح المسلح، وقد بلغت الحوادث خلال عام 67م وحتى بداية شهر أكتوبر فقط «20908» حوادث تسببت في «1248» إصابة بين قتيل وجريح وبالطبع هذه الأرقام التي توردها الوثائق البريطانية لاتمثل إلا جزءاً من الحقيقة.
وكانت أبرز الهجمات المكثفة خلال الفترة يوليو سبتمبر 67م في منطقتي الشيخ عثمان والمنصورة.. أما جبهات القتال في الريف فقد كانت أصلاً نابعة عن قيادة سياسية مركزية واحدة، وقد استمرت المعارك في ردفان وغيرها حتى سقوط الإمارات والسلطنات بيد الجبهة القومية في النصف الأخير من عام 1967م، وكانت تلك الجبهة مرتكزاً هاماً للكفاح المسلح وبناء جيش التحرير، كما كانت هي أيضاً هامة في حسم الاقتتال الأهلي في جبهة المدينة لصالح الجبهة القومية.
كان هناك في أواخر 1965إحدى عشرة جبهة في الأرياف “جبهة ردفان والضالع والحواشب والمنطقة الوسطى والشعيب وحالمين ولحج والصبيحة وبيحان والواحدي والعوالق”.
رحيل مُخزٍ
إن انسحاب بريطانيا وجيوشها من الأرياف أولاً، ثم من عدن بعدها في يوم 30نوفمبر 1967م، قد تم بطريقة لامثيل لها في تاريخ مستعمراتها السابقة، فلم تجر الاستعراضات أو تؤد التحية وتصافح الأيدي كما هي العادة عند تسليم الاستقلال.. والذي جاء بالأساس بعد حرب طويلة وشرسة في شوارع عدن، تركت جنودهم كأعجاز نخل خاوية، وأخرى في جبال ردفان وبقية الأرياف، خلطت رصاصها لحمهم مع عظامهم وأجبرت بقيتهم على الفرار مختلطاً حابلهم بنابلهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.