الخريطة ليست هي الأرض. الفريد كورزوفسكي لا يميز بين الكلمات كإيقاع والكلمات في المعجم. جاك كيرواك فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر إلى محض التكلم. حازم القرطاجني من السهل أن يدرك الإنسان تمثيله للواقع باللغة والرموز والإشارات، ولكن من الصعب أن يدرك الواقع ذاته، أي: من الصعب أن يدرك الأرض/ التجربة، بأغوارها المكانية والزمانية المتموجة والمتعرجة. الأسهل أن يأخذ المفاهيم والرموز والألفاظ مأخذ الواقع، وهكذا يختلط عليه أمر الخريطة والأرض، ويغيب الفارق بينهما في الحس الإبداعي والنقدي على حد سواء. اللغة ملساء، بينما التجربة تضاريس، نتوءات ومنخفضات. والمهم في أي عمل فني تجربة الواقع، أي التضاريس مباشرة، تجربة تتجاوز عالم المفاهيم والحس الشائع ذاته، والمضي بعيداً إلى التعبير عما يظل عصياً على التعبير. القصيدة القصيرة الوامضة، التي بدأ يتجه إليها عدد كبير من الشعراء، وأنموذجها "الهايكو" اليابانية، نموذج فني يتخطى فيها التعبير بالكلمات إلى التعبير بالصورة، كأصفى أنموذج يمنحنا حدساً مفاجئاً وإدراكاً يعلو على ضروب التعليل والتفكير الذهني. ويحتاج هذا النمط إلى نقد جديد لا يحاول استخلاص أفكار الشاعر ومشاعره و"ألعابه اللغوية والنفسية"، كما جرت العادة، بل الوصول إلى حدسه وإدراكه المباشر. يحاول الناقد معرفة القصيدة، تكوين فكرة عنها؛ بينما المطلوب تجربتها مجدداً، الوصول إلى الإدراك الذي وصله الشاعر. كلا الاثنين، الناقد والشاعر، لا يتصلان ببعضهما إذا ظل كلاهما يعيش في مستوى وجود لا يتطابق مع مستوى وجود الآخر، لا يدانيه، لا يشتبك معه. كيف يمكن الدخول في تجربة التماعة برق بالتحليل الذهني؟ يعبر الناقد المقيم في مستوى وجوده الذهني، مستوى رسام الخرائط، من رؤية الالتماعة إلى الحديث عن القوانين الطبيعية التي تنتجها، عن سحابة تقترب من الأرض وتفرغ شحنتها الكهربائية، بينما الالتماعة شيء آخر تماماً. هي ليست السحابة ولا الشحنة ولا سطح الأرض الذي تلقاه، بل هي كينونة أدركها شاعر أو رسمها. بهذه الطريقة النقدية لا يمكن إدراك البروق والصواعق، ناهيك عن تجربتها، والنقد، كما القراءة، تجربة أيضاً، إنه بحاجة إلى طريقة نقدية موازية، إلى نقد حدسي، لا نقد فكري. ولهذا السبب يظل هذا الضرب من الشعر، شعر الصورة الذي يرسم الفضاء أو يشير إليه، بعيداً عن الإدراك النقدي المألوف، النقد المألوف هذا شكّل ذائقة وطرائق تلقّي الجمهور الرديئة، ونقل فيه النقاد رداءة تلقيهم إلى القارىء، أخذوه إلى مستواهم، أفقدوه بداهة التلقي الأولى، أبعدوه عن مستويات الوجود الممكنة الأخرى، لتصبح طرائقهم في القراءة والتفكير مساراً إجبارياً يسلكه القارىء، وهكذا تتشكَّل بيئة غير مواتية لنمو وعي سليم بالشعر. في الكتابات الشائعة ترد أحياناً إشارات ضمنية إلى أن قصيدة من القصائد هي أكبر من مجموع ألفاظها. ولكن من النادر أن يمضي أحد إلى متضمنات هذا، إلى ما يترتب عليه، إلى القول إن كلية القصيدة أكبر من كل ألفاظها وهوياتها الفردية، هي هوية متميزة وجديدة كلياً، لا يمكن التعرف عليها بالعودة الى المعجم، لا يمكن إدراكها بمنطق اللغة. تشير القصيدة إلى القمر، ولكن عادات التلقي الرديئة تدفع الناقد، والقارىء في ما بعد، إلى التوقف عند عتبة الألفاظ، بدل الانشغال بالقمر. ومن هو ذلك الذي يحتاج إلى كل هذا الفيض من الكلام عن الألفاظ والأوزان والتشبيهات والاستعارات حين يكون مسعاه نحو القمر كما هو مسعى الشاعر؟ حين نصطاد الأسماك بالسلال والشباك ما هي حاجتنا إلى السلال والشباك؟ النقد العربي في أكثر تجلياته حضوراً مشغول بالإصبع التي تشير إلى القمر، بالسلال والشباك، لا بالأسماك. هذه حالة متدنية من حالات الوعي النقدي لا تتجاوز التقسيم والتصنيف والتفكير بماذا أراد الشاعر أن يقول، بماذا يعني. غاية الشاعر ليس أن يقول أو يعني، بل أن يدرك، أن يحدس، أن يصل إلى لحظة الاستنارة، ويجسد هذا في شكل فني فريد، لحظات متعالية مثل هذه تقع في مستويات فوق الوعي المتوسط لا تفيد الألفاظ في القبض عليها. قد تفيد في ملاحقتها أحياناً، كما يلاحق فلكي مسار نجم أو شهاب، ولكنها لن تتجاوز الحديث عن مسار نجم أو شهاب. أسوأ النقاد من يذهب إلى القراءة محتشداً بالأفكار والمفاهيم والنظريات، بما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال، فيكتب عما يريد ويعرف، لا عما يرى. يكرر أدوات تحليله ذاتها أمام أي نص يتناوله، فيقول ما يعرف، لا ما يكتشف. هذا النمط ليس مهيئاً لتلقي ضرب من الوعي العالي، بل تلقي ضرب أدنى، ضرب جزئي، لا يستطيع الوصول إلى الكل، كل تجربة الفنان، أو الشاعر. وضروب الوعي الجزئية تجسدها أشكال وافرة من القصائد، وتحتل مساحة يرتع فيها شعراء مع نقادهم وقرائهم بلا حساب.
علي أن أقول -إذن- إن الفن ضرب من الحدس يعلو على ضروب التفكير الأخرى، التفكير بالخبر والتحليل والمعلومات والتعليل، يحتاج تلقيه إلى استعداد نفسي وعقلي مختلف. لهذا السبب ربما يفشل الكلام النقدي أمام "الصورة"، ويجد نفسه مرتاحاً في الحديث عن الصورة، لأن طبيعتها ليست من طبيعته، ولأن غايتها ليست من غاياته. وليس من المبالغة القول إن هذا سبب مهم من أسباب خلو المكتبة العربية من النصوص النقدية المبصرة في الفن التشكيلي، فن الصورة، لا فن الكلام، وخلوها من النصوص النقدية ذات القيمة في الفن الموسيقي، ذلك الفن الخالص الذي لا يمكن أن تكون اللغة طريقاً إليه، مثلما لا يمكن أن تكون خطوط رسام الخرائط طريقاً إلى التضاريس الأرضية بمنحنياتها وأغوارها. النقد المزدهر هو النقد المشغول بفنون الكتابة وفي حسبانه أنها تمثيل أمين للواقع؛ والسبب بسيط، وهو أن للكلمة أصلاً في المعجم وفي الكلام اليومي الشائع، بينما لا يوجد في الطبيعة أصل أو مرجع لخطوط وألوان اللوحة، ولا مرجع لموسيقى قطعة، إلا تمثيلاً وتشبيهاً واستعارة وتوهماً، أي إن المفردات في القصيدة، مثلاً، حين تصبح أكبر من مجموع ألفاظها، وتستقل بهوية متمايزة عن هوية كل مفردة على حدة، يختفي جانبها الدلالي المعجمي ومعه جانبها النفعي، وتخلق خلقاً جديداً. ومن هنا يتعكز النقاد باللغة، بوجوه استخدامها المألوفة، آملين أن يتسلقوا سلالمها إلى القصيدة بما أنها تستخدم ما يبدو أنه الأداة نفسها، أي اللغة. الغائب عن الوعي هنا أن الشاعر أو الفنان حين يستخدم اللغة يحولها إلى مجال آخر لا تعود فيه هوية اللغة هي ذاتها كما كانت في معاجمنا وأحاديثنا. الضرب الحدسي هذا، الذي هو ممارسة فنية، ينتج حيث يخرس العقل ويتوقف الفكر والتحليل والتعليل، وعياً خارقاً غير مسبوق، لا سابقة له، وتجرب الأشياء مباشرة، بلا توسط حتى من لغة ولون وصوت؛ لأن مثل هذا الوعي ينتج كلية جديدة أو كينونة جديدة. ويكون عقل الفنان في هذه الحالة مرآة للسماء والأرض، أي: مرآة كل الأشياء دفعة واحدة. ولهذا لاحظ بعض النقاد أن الكلمات أحياناً تقف حاجزاً أمام التجربة الشعرية، تجربة الحدس في أصفى حالاتها. ويتهيب كثير من الشعراء من هذه الحالة، فيثقلون نصوصهم البرقية والتماعاتها بالتفسير والشرح؛ إحساسا منهم بأنها قد لا تكون مفهومة، أو أنهم يخشون من ألاَّ يكونوا هم أنفسهم على وعي كافٍ بمتضمنات هذه الالتماعات.