هذا التوحد بالمحيط والأشياء خاصية حالة تأملية يتوقف فيها كل شكل من أشكال التشظي، ويتلاشى في وحدة لا اختلاف فيها، في لحظة استنارة. ولكن هذه الحالة لا تعني أن عقل الفنان يتم تنويمه، بل هي حالة نشاط استثنائي يكون فيها العقل يقظاً يقظة تامة، مفتوحاً على كل الأصوات والمشاهد والانطباعات المحيطة به، بالإضافة إلى إدراكه غير الحسي للواقع. إنه لا يأخذ الأصوات والمشاهد والانطباعات من أجل تحليلها وتفسيرها وشرحها، فهي من غير المسموح لها أن تشتت الانتباه، بل من أجل الوصول إلى استبصار روحي أعلى. أما النقاد فينشغلون، ويشغلون معهم عامة القراء، بهذه الأصوات والانطباعات والمشاهد الحسية، غافلين عن الهدف النهائي من هذه التجربة التأملية العميقة وما ينتج عنها، فيتشتتون، ويشتتون القارىء معهم. إنهم يظلون في الأجزاء والشظايا، ويبحثون عن مرجعية اجتماعية أو سياسية أو عاطفية، ولا يصلون إلى الموقف الذي يتلاشى فيه كل هذا، إلى لحظة التنوير التي لا مرجع لها إلا اللحظة ذاتها. ما يعنيه هذا هو أن الكلمات الشعرية إشارات إلى تضاريس أرض ما، قد لا تكون حتى مما ارتسم على الأرض بعد. وينشغل النقد العربي الشائع في المؤتمرات والندوات وصفحات الصحف بالحديث عن الكلمات/ الإشارات، غافلاً عن التضاريس ذاتها، تلك التي لا يمكن الوصول إليها عبر الكلمات، بل عبر وعي استثنائي أيضاً، عبر مزيد من الوعي بأن “ما وراء الكلمات”، بأن “الإيحاء”، بأن ما “يفيض عن الكلام”، أو “معنى المعنى” الذي كشف عن وجوده عبد القاهر الجرجاني، وتلاه في العصور الحديثة وليم أمبسون، هو موضع النظر والتلقي. وقد لا يكون هذا ال «ما وراء» مما يمكن تلقطه من هذا الكتاب أو ذاك، أو من هذه المرجعية أو تلك. ليس مطلوباً من النقد أن يفسر ما هو غير لغوي بطبيعته (تجربة الواقع مباشرة) باللغة، بل أن يقارب هذا الحدس واعياً أنه ليس مما يمكن ترجمته إلى لغة (يقال أحياناً في إشارة إلى هذا إن شرح القصيدة لا يقف بديلاً لها) وهذا صحيح، ولكن بمتضمناته الأبعد من مجرد هذه الإشارة، بما يعنيه من استكشاف لمنطق جديد مختلف لا يكون فيه ناتج جمع واحد وواحد اثنين دائماً. وليس مطلوباً أن ينقل الناقد لنا النص ذاته، فهذا محال، بل أن يهيئ أذهاننا لتلقي مثل هذا الحدس. بالطبع، عليه أن يكون هو ذاته قد تهيأ واستعد وجرّب الوصول إلى هذا الضرب من الوعي الحدسي، أي: طرح عنه ثياب التقليد، وبدأ يتلقى التجربة بشروطها، وألغى المقاربات المعتادة (اللجوء إلى المعجم أو سجلات القبائل الشعرية والنقدية)، ومحاولات محاكاة حالة التأمل العميقة الفريدة التي أنتجت القصيدة. التجربة الفنية هي تجربة مباشرة للواقع تعلو على مجالي التفكير واللغة والسوابق، ولهذا يظل النقد، أو ما يقال عن هذا الضرب من التجارب صادقاً صدقاً جزئياً. فرضية النقد المعتاد (الأكاديمي والصحفي) هي أن كل شيء يمكن توصيله باللغة، ولكن طبيعة تجربة الفنان الداخلية، وتجربة كل إنسان في الحقيقة، تتجاوز الألسنيات. ومن الوهم الاعتقاد بأن صفحات المعاجم رموز تفسر تجارب الماضي والحاضر والمستقبل، أو تكافئها. هذه مفارقة لا يمكن التغلب عليها بتسوية تضاريس التجارب أو غرابتها كي تتمكن اللغة من القبض عليها وتغطيتها وتمثيلها، بل بتحول النقد عن طريقه التقليدي والشك بمقولاته التي يستند إليها، والارتفاع إلى مستوى يمكن للغة النقد فيه أن تشير، أن تنظر في التجربة الداخلية بشروطها التي تبدو “غير معقولة” في ضوء ما نعرفه وما نريده من اللغة، لا أن تظل تزعم أن وظيفتها الفهم والإفهام والتوصيل. الغامض والملتبس بطبيعته، أي كأصل وسبب لكل العمليات الخلاقة في النفس والطبيعة، لا يمكن فهمه وتوصيله ببساطة كما يؤخذ جذع شجرة لصناعة مقاعد وأسرّة مريحة. أنت هنا تكسب مقعداً وسريراً، ولكنك تفقد الشجرة، الغامض والملتبس ليسا حالتين مؤقتتين، بل هما حالتان أصليتان، هما لب الوجود، وهما منبع تجليات الوضوح الذي لا تنتهي أشكاله، ولن يتوقف الغموض عن غموضه ولا الالتباس عن التباسه مرة واحدة وإلى الأبد. ما هو غير لغوي (ضرب الوعي الحدسي) لا يمكن التعبير عنه باللغة، ومعنى هذا أن الفن في أعلى مستوياته لا يمكن قراءته ونقده بالطرائق التقليدية، تماماً كما لا يمكن للعين التقليدية، التي تبحث في اللوحة عما يماثل أو يناظر أو يطابق ما هو قائم في عالمها الطبيعي، أن تقرأ أو تقترب من اللوحة ذاتها ولذاتها. حين يتكشف الفن عن ضرب من ضروب هذا النوع من الوعي الحدسي، الذي يعلو على الوصف والتقرير والإخبار بالواقعات أو عرض الأحوال، سيجد المتلقي نفسه ضائعاً. هو مجبر على اكتشاف أن لغته المعتادة في الحديث عن الفن وتداوله والنظر إليه عاجزة، غير صالحة للتلقي والتداول والحديث عن هذا الواقع الفني، الذي انكشف عن وجه جديد له. والحقيقة هي أن الأعمال الفنية الخلاقة، أو الجديدة، تقنية ورؤية، تجعل طرائق التلقي القديمة عقيمة وغير ذات معنى، بل ربما تظهر أن هذ الطرائق حتى في تلقيها لأعمال الماضي الفنية أصبحت بحاجة إلى تعديل، لأن الأعمال الجديدة، وهي تكشف عن وجه جديد من وجوه الفن، تفرض على أنساق الماضي أن تعيد تحديد هويتها مجدداً، أن تنظم نفسها في سياق جديد ونسق جديد، أي إن دخول أي فتح فني خلاق في الحاضر يجعلنا نعيد النظر في الصورة الكلية لعالم الفن. ومن هنا تبدأ مراجعة المفاهيم والأطر التي وضعت فيها أعمال الماضي، لا القطيعة معها. تبدأ مراجعة كل ما قيل عن الشعر والرواية واللوحة والموسيقى... إلخ، ومراجعة طرائق تلقي هذه الأعمال، والكيفية التي أدرجت فيها في ثقافة شعب من الشعوب، ويبدأ نقد المفاهيم التي شاعت في العصور القديمة. ليس المقصود من هذا أن تعيد أعمال الماضي النظر في نفسها؛ فهي أعمال جاهزة لا مجال لتعديلها، بل المقصود أن يعاد النظر في طرائق تلقيها ووعيها على صعيد نوعها، وعلى صعيد أوسع. ونلاحظ أن الجديد في الثقافات الحية يفرض عادة إعادة نظر واسعة مثل هذه، تمتد إلى ما هو أبعد من مجاله الفني، كأن يكون الشعر أو الرواية أو الرسم. في البداية تمتد إعادة النظر إلى الفن نفسه، وبعد ذلك إلى مجالات أوسع من عالم نقاده والمعنيين به مباشرة، إلى المجالات الاجتماعية والتربوية والإعلامية، وإلى المؤسسات المعنية بهذه المجالات. لغة النقد وطرائق التلقي لا تعود صالحة لتناول العمل الفني ومعناه بالنسبة للفرد والجماعة. وتعكس هذه الظاهرة نفسها في غربة المتلقين والنقاد الأولية عن موجات التجديد الفني، وتمسكهم بطرائقهم القديمة، وخوضهم معارك ضارية، تدعمهم في ذلك مؤسسات قائمة على أسس تخيلاتهم وأوهامهم، ضد كل ما هو جديد. ويعيش الفنان المجدد وعمله في حالة اغتراب عميق، أو يجد له بيئة في وسط قلة من الناس، قبل أن يفرض الجديد نفسه بالتدريج. وهذا هو ما يطلق عليه عندنا بشكل سطحي “صراع القديم والجديد” أو “صراع الأجيال”، أو أحياناً دفاع الأمة عن قيمها الأصيلة ضد “مخربي” و”هادمي” قيمها، في أكثر أشكال هذه المواجهة تطرفاً، من دون وعي كافٍ بمتضمنات هذه الوضعية العميقة، بوصفها علامات على تجلي ممكنات حياة كامنة طمستها العادة وأخمدها التكرار على صعيد الفن والمجتمع والثقافة. إن ظهور الأعمال الجديدة يقول، بشكل ضمني، أو يعني، أو يقول ما يعنيه بالفعل، إن الرؤية التي يحملها تتجاوز المنطق الشائع في النقد والتلقي والتعامل مع الفن، وأنه لم يعد ممكناً بعد الآن الحديث عنه أو تلقيه وفق الطرائق القديمة السابقة على وجوده، كأن تقاس الشعرية بجزالة وكلاسيكية اللغة، أو باتباع تصورات موروثة، أو تكرار أصداء ذهنية وعقلية سادت في سجلات الماضي، أو الاستجابة لتقاليد وأعراف في القول والتصور تحددت وأحاطتها وضعية ما بقداسات وهمية. كل هذه المقاييس لا تصلح لسبر وقياس أغوار الجديد، وقبل ذلك لا تصلح لسبر وقياس الحياة ذاتها.